إنّ التأمّل بكيفيّة عمل “البرمجة الإنسانية”، يُؤهّلنا -بوعيٍ ناقدٍ- لوضعِ أنفسنا على صراطٍ سويّ، ويُبصّرنا بالابتعاد المحتمل لصورتنا الآدمية عن دخيلتنا التي قد تكون أيّ شيء إلاّ الآدميّة..
برنامج الإنسانية (أو الفطرة)، مغروزٌ بضمير كلّ إنسان دون تبديل له وتعديل، يوجّه أحاسيسه لفعل الخير تجاه أخيه الإنسان والتعاطف معه، متجاوزًا فوارق الصورة، والرأي، ومتجرّداً عن العلائق القرابيّة والنسبية وسائر المشتركات.
كلّ البرامج العُليا (Softwares) المحمّلة فوق فطرة البرمجة الأولى (Basic) ينبغي أنْ تعمل في اتّجاهها لا ضدّها، ليَقرّ الإنسانُ إنساناً، وإلاّ ستبقى للإنسان صورتُه دون جوهر إنسانِه، وسنغدو صوَر آدميّين تستبطن قلوبَ شياطين، ليغدو ممكناً أن يُوجَد شيطانٌ أبيضُ وآخرُ أسود، وشيطانٌ مثقّف وآخر جاهل، وشيطانٌ عالمٌ وآخر تابع، وشيطانٌ مسلم وآخر يهوديّ، وشيطانٌ دينيّ وآخر علماني، وشيطانٌ يساريّ وآخر يميني وثالث وسطيّ، وشيطانٌ موالٍ وآخر معارض، وشيطانٌ عربي وآخر غربيّ، وشيطانٌ سنّي وآخر شيعيّ، وشيطانٌ بلحية وآخر بدونها، وشيطانٌ بعمامة وآخر حاسر، وشيطانةٌ بحجاب وأخرى سافرة، وشيطانةٌ إعلامية وأخرى شعبويّة، وشيطانةٌ معلّمة وأخرى طالبة…. والكلّ يهمز نفسه وغيرَه عكس البرمجة الإنسانية المتعارفة، والتي بيّنتها السماءُ لا تعريفاً بل تذكيراً، مثل: (لا يجرمنكم شنآنُ قومٍ على ألا تعدلوا)، (ليس بمسلم مَن لم يتّق جارُه بوائقه)، (مِن علامات الساعة.. أنْ يثب الجار على جاره)..الخ.
ففي لغة الكمبيوتر، البرنامج الأساسي المعبّأ به والمشغِّل لمكوّناته (Bios)، لا ينبغي أن يُمحى وإلاّ فسد الجهاز، ثمّ لنا أن نحمّله بأيّ نظام موافقٍ لبرنامجه الأساسي، (دوس، أو.إس، ويندوس، ماك، يونيكس، لينكس..)، كنورٍ على نور، وبُنيةٍ على قاعدة، ومحالٌ أبداً أن يكون الثانويّ بديلاً عن الأساسيّ أو ناقضاً..
سورة “الإنسان” التي أوردتْ نُقلة الإنسان من الهمجية خَلْقاً، أكّدت هذه الضرورة الإنسانية خُلُقاً، بأنّ الطبيعة الإنسانية السويّة (متديّنةً وغيرها) تهتمّ بالآخر الإنساني وتستشعر وجوده مِن وجودها، كنظيرٍ لها في الخلق، لا تبديل “لخلق الله” بحيث يُنظَر إليهم ويُعامَلون كشيء غير مذكور ومزدرىً كجراثيم، وكجرذان، بل يُعتبَرون ويُكرَمون كنسمةٍ رحمانية، وإخوة، تحبّ لهم ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها، لذلك أفصحت هذه السورة عن مثالها (ويُطعمون الطعامَ على حبّه مسكينًا، ويتيمًا، وأسيرًا).. فيكون المسكينُ حبشيًّا، واليتيمُ مشركًا، والأسيرُ كافرًا..
الإنسانيةُ، تقتضي أن يتشاعر النّاس ويتداعوا لبعضهم في أيّ مكان، فيتألّم الأبيضُ لجوع أسود، وينزعج العربي لمقتل هنديّ، ويُبادر الطبيبُ المسلم لمعالجة بوذيّ، ويُنقذ الكبيرُ أيّ صغير، ويتبرّع بالدم والمال السليمُ والغنيُّ لأيّ جريحٍ وبائس، ويُحامي المحامي والحقوقيّ والبرلمانيّ لحقّ أيّ فصيل، وفرقة، وطائفة، وفرد لا يجمعه معهم سوى الجامع الإنسانيّ، وتحزن كلّ الطوائف لاغتيال شهيدٍ أو تضرّج شهيدة.
وحين تأتي البرامج الاجتماعية العُليا للناس باعتبارهم “خلق الله”، كبرامج الدين، المذهب، الطائفة، الجوار، النسَب، الصداقة.. فغرضُها خلقُ تشاكلٍ ثمّ تصعيد الأواصر الإنسانية بين المتشاكلين، أمّا إذا رافقها تقطيعُ الأواصر مع الآخر غير المُشاكِل مِنْ “خلق الله”، وحلّت كبديلٍ ينقض أوامر برنامج الفطرة ومقتضياتِه تجاهه، فستصبح برمجات فيروسيّة (شيطانية) لا رحمانية، برمجات تغذّي معطياتِها وأوامرَها الغرائزُ الحيوانيّة، والمنافعُ، وتضخّمُ الأنا الفرديّة والجماعيّة، لا مشاعرُ النُّبل، مهما تغلّفت وتزيّنت بقالبٍ دينيّ، مذهبيّ، قَرابيّ، طائفيّ، صداقيّ.. لهذا أوصى الدينُ بتجاوزَها متى اصطدمت بقواعد الفطرة؛ مِن وجوب قسط الآخر، وعدم التميّز عليه، وخيانته وإهانته وبخسه فضله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)، (لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعتُ يدَها)، (لو أنّ قاتل أبي ائتمنني سيفه الذي قتله به لأدّيته إليه) (العصبيةُ التي يُؤثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرارَ قومِه خيرًا مِن خيار قومٍ آخرين).. فقد يُخفي المرءُ لظرفٍ أمنيّ ولمصلحةٍ عامّةٍ إعلانَ تعاطفه مع مظلوم ظُلِم بحضرته، لكنْ شريطة أن يُفعم قلبَه بالتعاطف وبتحيّنِ النُّصرة، وأنْ لا يكون للظالم عوناً وللمظلوم خصماً بفعلٍ أو بقول.
الدينُ جاء ليحمي هذا الأساس الإنسانيّ، ويرفع قواعد بنيانه (فطرةَ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها، لا تبديلَ لخلق الله، ذلك الدينُ القيّم).. فليس بإنسانٍ مَن قبّل جبينَ ابنته وتحرّش ببنات مخالفيه والآخرين، وليس بإنسانٍ مَن فرح لكارثةٍ وهلَّل لفاجعةٍ حلّت بشعب وبناسٍ يخالفونه دينه ومذهبَه، وليس بإنسان مَن طالب بحقّ طائفته وداس حقوق طوائف أخرى، وليس بإنسان مَن يثور لضرْبِ ابنه ولمْس زوجته، ويخور إذا قُتِّلتْ أبناء غيره وانتُهكت أعراض نسائهم… الدينُ أفصح: (مَن أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم)، وأنّ المسلمين مِن الطبيعيّ أن يكونوا ألواناً وقوميّات ولغاتٍ وأحزاباً ومذاهب وطوائف واتّجاهات، لكنّهم يبقون ضمن “البرنامج الإنسان” وأعلى منه، كأعضاءٍ متباينةٍ لكنْ ضمن جسدٍ واحد،(إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائرُ الأعضاء بالسهر والحمّى).. أمّا الفرح بآلام وفجائع غيرنا، فهو حال مَن انتكست فطرته ومُسح “برنامجه الإنساني” ليدخل نفق الاستحواذ الشيطانيّ (إنْ تُصبكم حسنةٌ تسؤهم، وإن تُصبكم سيّئةٌ يفرحوا بها..).. الدينُ يعمّق التوادّ والتراحم واحترام كرامة الإنسان، ويقوّيها أكثر بين أهل الإيمان، والمشتركات.. والجيرة، تعزّزها بين الجيران (جار السكن، والوطن)، لذلك أوصى نبيُّنا (ص) بحفظ حقّ الجار، أكان فارسيًّا، نصرانيًّا، شيعيا، سنّيا، ملحداً..
البرمجة الفطرية الإنسانيّة تجاه “خلق الله” تستدعي تساويهم في الكرامة، والحرمة، والحقوق، والحريات.. ولا يمكن تغييرها والإغارة عليها بدعوى تغاير دين، ومذهب، وحزب، وطبقة، ولون، وولاء سياسة، فالأبارتهايد حاولوا هذا بفلسفة عنصرية، والصهاينة بفلسفة دينية.. والكثير يحاولونه بفلسفة وبسفسطة وبأقنعة وذرائع.. جوهرها جرثومةٌ شيطانية (وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً).