إن لم يوحّدنا العيد .. فلنسمح للحكمة أن تفعل

تدهشني حكمة الأولين وبلاغتهم في صياغة عصارة تجاربهم في قالب محكم، وقدرتهم على التعبير عن معانٍ عميقة وكبيرة في كلمات قليلة، بعضها مسجوع، وبعضها الآخر نُظم في أبيات شعرية، فيها الوعظ والحكمة، ومنها الساخر والمتهكّم، بالعامّية والفصحى، كلمات تخطّت الزمن فوصلت إلينا بصورة حكم وأمثال شعبية تسعفنا بلاغتها إذا أعيتنا الحيلة للتعبير عما يجول بخاطرنا بكلماتنا الخاصة، ولا يكاد يخلو يومنا من استدعاء لتلك الكلمات في حوار، أو نقاش، أو مناكفة عابرة، أو حديث مع النفس.

ويدهشني أكثر إذا وجدت نفس المعاني بذات الإيجاز تتكرّر في حكم الأمم المختلفة صيغت بلهجاتهم كالسريانية، والعربية الفصحى، والفارسية، والصينية، واليونانية، وغيرها وكأنها جميعاً تربّت في كنف مربٍّ واحد، ونهلت من نفس النبع، فهناك بعض الأمثال والحكم السومرية التي قيلت قبل أكثر من ألفين وخمسمائة سنة ولها ما يقابلها في ثقافتنا الإسلامية، كقولهم مثلاً: “أيكون حمل بلا معاشرة”، أو “هل تحدث سمنة بلا أكل”، ونحن نقول: “لا يوجد دخان بلا نار” للتعبير عن وجود أساس لما ينتشر من إشاعات رغم محاولة سوق الحجج لإثبات عكس ذلك، وكذلك قولهم: “كتب علينا الموت فلننفق، وما دمنا نعيش عمراً طويلاً فلنقتصد” الذي يشبه ما يؤثر في ديننا: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً”، وفي قولهم: “الدولة الضعيفة في العدة والسلاح لا يمكن أن تطرد العدو من أبوابها”، نجد ما يشبهه في كتاب الله: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”، فالحكمة الإنسانية نتاجها واحد تباعدت الشقة بين أصحابها أو قرُبت، طال بها الزمان أو قصر.

ومن الحكم الآشورية في أمثال الحكيم “أحيقار” – وتعني الأخ الوقور وتدل على شخص اشتهر بالحكمة – “يا بني لا تخرج كلمة من قلبك قبل أن تستشير عقلك فإنه خير للرجل أن يتعثّر في قلبه من أن يتعثّر بلسانه”، وشبيه لها حكمة للإمام علي (ع): “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”، وكذلك: “يا بني لا تكن حلواً لئلا يبتلعوك ولا تكن مرّاً لئلا يبصقوك”، يقابلها قول الإمام علي (ع): “لا تكن لينا فتُعصر ولا يابساً فتُكسر”، وغيرها الكثير.

كما أنّ هناك تشابهاً بين بعض ما جاء في التوراة والإنجيل وما هو مسطور في تراثنا، فنقرأ في سفر الأمثال: “بدء الحكمة مخافة الربّ”، وفي تراثنا: “مخافة الله رأس كلّ حكمة”، والمثل التلمودي: “من أكثر في المقتنى أكثر في المشتكى”، والسومري: “من ملك الفضة الكثيرة فقد يكون سعيداً، ومن ملك شعيراً كثيراً فقد يكون سعيداً، ولكن مَن لا يملك شيئاً في وسعه أن ينام”، وما يحاكيه في تراثنا: “القناعة كنز لا يفنى” .. كثيرةٌ جداً الحكَم المتشابهة لدى أمم عاشت في بيئات مختلفة، واعتادت على عوائد وطبائع متباينة، ولكنها تعبّر عن سجايا وأخلاق واحدة.

وعلى أية حال فالحِكَم طريقة ذكية وغير مباشرة للوعظ والنصيحة، فربّ نفوس تأنف الاستماع إلى النصيحة وتنبري في الدفاع عن ذواتها إذا حُوصرت في زاوية النقد المباشر ولكنها مستعدة لتغيير زاوية نظرها إلى الجهة المعاكسة بحكمة قد تتلقّفها من أيّ من الناس منافق أو مجهول، فقد قيل “الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق”، مادامت طرقت أذنه لتخرجه من حيرته بتقرير حقيقة لا يمكن تخطئتها من ذي لبّ عاقل، وقد قيل في الحكمة “أنها نتاج عقول نابهة لتقتات به عقول الآخرين”، فإذا عزّ الحكماء في زماننا فلا يعزّ علينا العمل بما وصل إلينا من حكمة السالفين أكانت من نيتشه الفيلسوف الألماني، أو الشاعر الهندي طاغور، أو ابن رشد العربي، أو محمد إقبال الباكستاني، أو إفلاطون اليوناني، أو حكيم الصين كونفوشيوس، أو زرادشت الفارسي، أو من تراث الأنبياء والأولياء والمصلحين.

يُفسّر هذه الظاهرة صموئيل كريمر أشهر الاختصاصيين في المباحث السومرية في كتابه (من ألواح سومر) حيث يقول: “فإذا كنت في ريب من الأخوة البشرية والإنسانية المشتركة بين جميع الأقوام والأجناس فارجع إلى أقوالهم السائرة وأمثالهم وحكمهم ووصاياهم ونصائحهم فإنها أكثر من أي إنتاج أدبي آخر تخترق قشرة الاختلافات الحضارية وفروق البيئة وتكشف أمام أعيننا طبيعة البشر الأساسية حيثما وأنّى عاشوا …”

فيا .. “عيد بأي حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمـر فيك تجديد”؟! نحن – الخارجون بزخم روحاني من فضائل الشهر الكريم – مَنْ يقرّر بأي حال يعود العيد على أمّتنا، فإلى أن يقرّر رجال الدين تخطي خلافاتهم الفقهية ليجعلوا من العيد سبباً للوحدة والفرحة المشتركة، ما علينا إلا أن نفتّش في مشتركاتنا الإنسانية انطلاقاً من قول العزيز الحكيم: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” .. أعتنقنا مذاهب مختلفة أو آمنّا بدين واحد، وسواء كان عيدنا يوماً واحداً أو يومين أو حتى ثلاثة، فلن ينال شيء من فرحة (فطرنا) لنعيش في وئام وسلام مع النفس والآخر.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة