إيمان الحرّ والعاجز والمُكرَه ..

ثمّة فيلم “كاوبوي” قديم عنوانه (الخيِّر، الشرّير، والقبيح)، وفي الأفلام الهنديّة نجد ثلاثيّة (البطل، الحرامي، المتزلّف)، وفي عنواننا وزّعنا تحصيل الإيمان على ثلاث شُعَب: العقل الحرّ ويفرز إيمان الأحرار، العقل المعطَّل والمُبلَّد ويفرز إيمان التلقين والتقليد، العقل المُكرَه وناتجه إيمان المُنتحِل والمنافق والمتاجر والمتزلِّف وغيرهم.

ونحن يافعون أخبرونا بأنّنا ينبغي أن لا نقلّد في أصول ديننا، بل لابدّ أن نجتهد في تحصيل الاعتقاد بها، كعقيدتنا بوحدانية الله وعدله، وبأنبيائه، وبيوم حسابِه، وهي ليست بالأمور اليسيرة للتوصل إلى أدلّتها في بداية سنّ التكليف، ما شكّل تحدّياً لبعض الجادّين في سنيّ أعمارهم الأولى، فكنّا نقرأ في كتب الكبار لنبحث عن أدلة لعقولنا المليئة بالأسئلة الكبيرة، خوفاً من أن نؤخذ على حين غرّة ويُسلب إيماننا الذي عمل آباؤنا جاهدين على غرسه فينا بأساليبهم الفطرية البسيطة.

ما تعلّمناه آنذاك – ببحثنا وقراءتنا وسعينا – استقرّ في أعماق فؤادنا، وعليه تأسّست قواعد عقائدنا فبتنا في مأمن من أن نُخترق (عقائدياً) أو تُلقى بذور الشكّ في قلوبنا فيما له علاقة بربنا وقرآننا وإيماننا، فكنّا نقرأ في كتب الأوّلين ولا نفهم كثيراً مما كُتب، ولكن جملة (لا يجوز التقليد في أصول الدين) كانت ماثلة تحفّزنا على بذل المزيد من الجهد لكي نفهم، ونناقش، ونقتنع، ونحاور لتصمد حججنا أمام حجج المستهزئين من عقيدتنا من مشكّكين في وحدانية الله وعدله.

أسلوب التعلّم الذاتي هذا الذي كان مفروضاً علينا في أعقد المسائل الفكرية والعقائدية كان له أكبر الأثر في تسليحنا بثقافة أصيلة وعميقة رغم بساطتها، فلم نكن بحاجة إلى سفسطة المتكلّمين وتعقيد الفلاسفة للإيقان بوجود الله ووحدانيته، وكان يكفينا استدلال عفويّ كالذي ورد على لسان الإمام الصادق (ع) حين طلب منه سائل أن يعرّفه بربّه، فقال له الإمام (ع): هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: هل كُسرتْ بك السفينة مرّة؟ قال: نعم، قال (ع): هل تعلّق قلبك بشيء حيث لا سفينة تنجيك ولا أحد يغنيك؟ قال: نعم، قال: ذلك هو الله .. هكذا وبهذه البساطة انتقشت في قلوبنا معرفة (الله) الملجأ والمُنجي، والقوّة الوحيدة القادرة البصيرة بنا والمأمولة حيث لا أحد يُرتجى.

كما أن ما تعلّمناه من سيرة نبيّنا (ص) بفتح باب السؤال مصراعاً دون التشكيك في نوايا السائل، بل حمله على أحسن محمل شجّعنا على طرح أي سؤال تعلّميّ مهما كان غريباً وجريئاً، وزوّدنا بأفضل أداة ضدّ الجهل والجمود والتبعية العمياء، كقصة ذاك الصحابي الذي فزع إلى رسول الله (ص) خائفاً على دينه وهو يقول له: “هلكت يا رسول الله”، فبادره رسول الله (ص) بقوله: “أتاك الخبيث وقال لك مَن خلقك؟ فقلتَ له: خلقني الله، فقال لك: ومن خلق الله؟” فقال الصحابي: “إي والذي بعثك بالحقّ كان كذا”، فقال له (ص): “ذاك والله محض الإيمان”، ومحض الإيمان هنا هو خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض له التشكيك في قلبه.

ومحاولة البحث عن إجابات لأسئلة المشكّكين في ما بين أيدينا من مصادر معرفية من شتّى المدارس والمذاهب دون الخوف من خطوط حمراء، ولا وجل ممّا نعتوه بكتب ضلالة، ساهمت في انفتاحنا على الثقافات المختلفة، وزوّدتنا بمنطق سليم في تحرّي الحقّ، ومعيار دقيق للتمييز بين الآراء، لتصنعنا محاورين جيّدين مع الآخر، فآمنّا بربّنا إيماناً (لا) كإيمان العجَزة، ولا المنتحلين، بل إيماناً عن قناعة، أوغلنا فيه برفق فامتزج فيه الوجدانيّ بالعلميّ، فجعلنا من شرعية السؤال قنطرة تنقلنا من محطة الشكّ المرحليّ إلى حالة اليقين القلبي في مراحل حياتنا المختلفة ومنعطفاتها الصعبة.

يصطدم هذا المنهج العلمي القائم على حريّة السؤال والبحث العلمي والتعلّم الذاتي بمناهج (التلقين) المتّبعة في مدارسنا التي رغم ادّعائها أنها تطالب أبناءنا بممارسة مهارات التفكير العليا كالنقد والتحليل والاستدلال والاستنتاج في تحصيلها العلميّ، إلاّ أنها غالباً تتوسّل أدنى مستويات التفكير كالحفظ والتذكّر في تقييم معارفه، ولا تدع لذهنه فرصته في البحث والسؤال إلاّ قليلاً، هذا على افتراض أنه لم تخبت عنده شعلة حبّ السؤال لكثرة الإكراه والتخريس

كما يصطدم بالتلقينات غير المنطقية التي يتعبّدنا بها الخطباء الأقحاح، ويتحفنا بها الساسة الأفذاذ، وكلّ العمليات الدعائيّة، والتلقين المجتمعيّ بالإشاعة من أذن إلى أخرى كشبكات النتوورك، وتحكّمات أمريكا (ممثّلةِ العلْم والعالِم الحرّ!) وتلقينها إيّانا كيف نلبس ونأكل ونستمتع، وبمن نؤمن ونكفر، من نحارب ونُقاطع اليوم، في حين أنّ أكبر قضايانا وأصول ديننا تُركت لنا لنكوّن عقيدتنا فيها بوعيٍ منّا وبحرّية اختيار، فإذا نحن في صغريات المسائل يُراد تلقيننا واستلابنا واستحمارنا، ثمّ تكفيرنا أو قطع رقابنا أو أرزاقنا إذا ما خالفنا تلقينًا استعلائيّاً ما دينيا أو دنيويا، داخليا أو عالمياً.

إنّ كسر هذا الطوق السالب لفرصة الإيمان الحقيقيّ، يبدأ من (الذات) حيث إكرام (العقل) و(المنطق السليم)، وعدم التنازل عن حقّنا في مسائلة منطقيّة وحيثيّات ما يُعرض علينا حتى يأتينا اليقين، وقبل أن نُكرَه على إيماننا، أو نستلمه بجوفٍ فارغ، لنُحوّله على الأجيال القادمة طقوساً وممارسات بلا روح ولا أخلاق.

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *