حين نتبنّى مصطلح (أصوليون) كدلالة على الحركات الدينية المتطرّفة، إسلامية أو مسيحية أو يهودية، عن ترجمة خاطئة لمستورَد (Fundamentalist)، فإنّنا نعبث في لغتنا التي هي أسّ هويتنا ورفعتنا، ونُمضي استحواذاً متسلّلاً بقاطرة مفاهيم مشحونة سياسياً وموظّفة ثقافيا، وثالثاً وهو الأخطر بالنسبة لنا كذوي رسالة خاتمة، التسليم بأنّ ما يُمارس من جهالات وظلم وإكراه مرجعُه إلى (أصول) دينية، فبهذا نُعطي القُساة الشرعية الدينية مجاناً بالاسم من جهة، ومن جهة أخرى نحكم على برنامج الله للخير الإنساني (الدّين) بأنّه مصدر للشرور والأذى والجهالات!
علينا أن نفرّق بين (الأصول) الدينية، المنزّهة أن يُنسب لها هذا المقت والأخطاء، كالقرآن الكريم والسنّة الصحيحة ونصوص سليمة للإنجيل والتوراة، وبين نصوص دُسّت في مصادر الفكر الديني وسلوكه، أو تفاسير الرجال، أو ممارسات دولِ جوْرٍ باسم خلافات إسلامية، ولأشخاص ذيّلت نفسَها بأسماء الله!
ما لم ننبتر عن سمّ تراث دخيل نسبنا الدين له خطأ، ونحجز إنساننا بقطيعة معرفية عن فكْر (قسوة القلوب)، فإنّنا في مأزق إيماني مع الله سبحانه، وحضاري مع الأمم ثانياً، وإصلاحي مع أنفسنا أخيراً.
لا إشكال أنّ نصوصاً دينية تحوي ظاهراً موادّ تغذّي إرهاب اليوم، سواءً صيغت بشرياً كالتوراة، أو ربانيا كالقرآن، وأساء القاصرون تأويلها بدون الرجوع إلى محكماتها من وصايا الرحمة والعدل والخُلق والسلْم والرفق والإنسانية العليا وحرّية العباد.
لقد كان التجديد الوجه الناصع (للأصوليّة) بمعنى العودة للجذور النقيّة، لأنّه يُظهر (أحسن القول) ليُتّبع، أمّا المدّعون زيفاً (أصوليّتهم) فلا أصل دينياً لهم وقد فقدوا القدرة على فهم (أصل) الرسالة وروح التديّن، وكأنّ الله شرّع الأديان للتحارب والتنابذ لا للتعارف والتوادد ولرحمة العالمين.
أمام استحقاق مواضيع “التطرّف” و”حرمة الدماء” و”الديمقراطيّة” و”حقوق الإنسان” و”حوار الأديان والحضارات” و”الأخوة الإنسانية” و”دعوات السلام” و”حرّية الاعتقاد” وضرورة “التجديد الديني” لا خطابه فحسب، والموقف من السلطة المنتخبة، ومفهوم المواطنة، والتعايش، واحترام الفنّ، وقبول الآخر المختلف، ونبذ التكفير وثقافة العنف، يسقط كلّ أدعياء (الأصول) أنّى كانت ديانتهم مسلمين أو يهوداً، فهم في مأزق، ريثما يُعلنون إفلاسهم، بلا داعٍ منّا لتمديد تواجدهم، بتسميتهم (أصوليّين) للدّين، بدلاً من (قشريّين) أو (متشدّدين) و(غُلاة)!
هذا الكلام طبعاً، من منظورنا الحضاري لدين الله الرحب للعالمين بلا تشنّج ولا حجْر، لا من منظور الغطرسة الانتهازية الغربية، التي عملت نفعياً منذ البدء على وسم جهّال الدّين (بالأصولية) والإرهاب معاً ليرتهن سقوط (دين القيّمة) بسقوط أولئك المنتحلين القساة، ثُمّ في حلقةٍ أخرى لتضمّ إلى القائمة السوداء (كإرهابيّين!) مَن كرهتْ من أحرار يُجاهدونها دفاعاً عن أنفسهم أو عن مسخ هويّتهم في أوطانهم!
نكون بخير إن قام أهلُ كلّ دين أو مذهب بتتبّع ما في مصادرهم من مسوّغات (نصّية وممارساتية) للتطرّف والإلغاء (المسمّاة خطأً “أصوليّة”)، ذلك أنّ فحص الآخر لنقده يسير، بيد أنّه يُورث عمى الذات، فضلاً أنّه يُورث الشحناء ويُوقد للطائفيّة، فنخْل الذّات المذهبيّة والدينيّة لنقدها هي العقبة الأولى تجاه فهم الآخر، للاقتراب من أنسنة عالمية خارجاً عن أطر انحرافات الأديان والقوميّات والشخصنة والتمركز.
من المؤسف، أنّنا كلّما توغّلنا في الأخطاء أكثر، راكمنا معنا تراثاً، بحاجة إلى أدوات تزيل أخطاءه، بهذا دُشِّن علمُ رجال وعلم رواية، وانبثق علمُ نحوٍ ومنطق، بتراكم الأخطاء، إنّ مزيداً من الركام يعني مزيد حاجةٍ إلى غرابيل، وكان يكفينا منذ البدء ابتكار آلية تكشف لنا النقي وحده، بدلاً من آليّات (فلاتر/غرابيل) بالعشرات تدلّنا على الخطأ والزائف!
إنّنا مع كلّ إهالة سيعوزنا (فلاتر) جديدة، ولن يكون عصرنا مع تجديده للدّين أو حال رفضه لمصادر الانحراف فيه (كأصوليّة!) متوحّشة، بأفضل حالاً من الذي قبله، لا سيّما وأنّ تسليع الإنسان وبرمجته، وعسكرة الدول، واستباحة قيَم المجتمعات، والظلم العالمي الممارس بالشرعيّة والجشع المُعولَم، يضغط تجاه تعنيف الأديان وتوظيف النصوص لتقديس الحرب والعنف، بحيث أنّ ما يُسمّى بتجفيف منابع الإرهاب هو في حدّ ذاته تفقيس لبيوضه وتهييج لعشّ دبابيره! دورةُ الجنون لن تنتهي!
مهما كان، نحتاج علماً (آلية) ولو بمقدار إنارة شمعة، يقرأ به إنسانُنا ببيان، كلاًّ من نصوص التوراة والإنجيل والقرآن، بعيداً عن تلوينات وأدغال الزمان، وفق آليّة لا يُلقّم بها مراده نصّ الله، بل يكتشف مراد النصّ، يُفرز به أيضاً نصّ الله من ركام الرجال، لنترك عندها (الأصوليّين) بلا أصول، في العراء، فتُنزع شرعيّة أنياب الجميع بالجملة، ويأتلف الباقون لحوار التعارف مِن دهشة نزع السلاح النصّي، في خبطة واحدة!
حُلم، لكنّه قابل التحقّق، لو تسلّل بصيصُه لتبخَّرتْ آلاف الكتب السوداء، وكلّ النبوءات الزائفة التي تُلوّح للحرب، أو هرولتْ بها دولٌ عظمى، لنُكتشف مسلمين وغير مسلمين، أنّ “الأصوليّة” هو الاسم الرابح، لو نزعناه عن منتحليه، وأعدناه إلى حيث جذورنا؛ أصوليّةً إنسانيّة، هذّبها دينُ الله الواحد عبر ملله وشرائعه، يسَع الناس جميعاً لأنّه لهم كافّة، لا لفرقة ناجية أو شعبٍ مختار، خارجاً عن صراعات الدول المفتعلة، وتلبيسات رجالِ مأزومين بمضائقهم الحرجة.