“البرهامة” أو جبلة مني قرية صغيرة تقع بين عين السويفية وقرية مني،بمحاذاة النعيم والسنابس.نشأت هذه القرية خدمة لشجرة البرهامة المقدسة، والتي كان الناس يقصدونها بالنذور والتوسلات. ولقد رأيتها عندما كنت صغيراً : شجرة كبيرة جميلة مهيبة والنساء وهن يحيين النذور،والناس يحتفلون والأغنام تذبح عند جذعها. ولقد بقيت عالقة في ذهني ولم أكن تجاوزت الثامنة وتشاء الأقدار أن أمر بالقرية قبل بضع سنين فإذا بها منتصبة ولكن دون نذور ولا نساء ولا احتفال إلا من اناس يصلحون سياراتهم. القرية بقيت والشجرة بقيت ولكن زالت القدسية من العقول.
شجرة السدر كان لها نوع من القدسية أيضاً، فقد كان الناس يعتقدون أن قاطع السدرة من بيته يصاب بفقد عزيزمن أهل الدار.وأما فرخ اللوزفقد كان منبوذاً ومتهماً بأن من يزرعه في داره يصاب بفقد عزيز.وأذكر حينما كنت صبياً وأنا أمر بدار”حبيب” أحد رجال قريتنا وفروخ اللوز بادية من السور أتساءل في نفسي كيف لا يموتون وهم يزرعون اللوز في دارهم؟! والحق أن هذه الأسرة قد مزقت كل ممزق فقد مات رجالها ورملت أو طلقت نساؤها ولم يبق في الدار إلا ذرية من الضعاف. أتراه كان الفرخ سبباً في كل ذلك؟ أم أنه كذئب أولاد يعقوب؟ لا شك أن فروخ اللوز قد انتصرت اليوم وذهب عنها التطير وصارت من أول ما يزرع في البيوت.
في” عين الدار” حيث ولدت كانت توجد سدرة تفيض “دما” في يوم وفاة النبي يحيى عليه السلام، وعند الفجر، ولقد ذهبت لأرى ، فوجدت الناس يقتتلون على منبع” الدم” يملؤون منه القوارير يتبركون به ويستشفون. ورأيت إحدى القوارير عند من لا أتذكره الآن، لم يكن دما بل كان عصارة السدر وله نفس اللون والرائحة ولكنه كان عند الناس دماً.وكانت لنا مزرعة فيها الكثير من أشجار السدر، فكنا نحاول البحث من بينها على أيها أليق بأن تكون فوارة للدم ، ثم نقشر لحائها ، ولكن دون جدوى ، إلا نفس اللون و نفس الرائحة ، دون السيلان؛ الذي هو الميزة العظيمة في الحدث.
وبعد سنين طويلة مررت بتلك الشجرة فإذاهي قد تبدلت بها الأحوال وما عادت تقطر “الدم” والحق أن صاحب المزرعة لم يكن يقدسها ولا يعتقد فيها إلا أنه لم يكن يملك حيلة .
الأحجار الكبيرة غيرالإعتيادية كانت مقدسة عندالناس، يظنون أنها مأوى الجن وكانوا يقدمون عندها القرابين من البيض والدهن والسكر والعصيد خاصة تلك التي قرب عيون الماء، فإذا ما أصيب أحد بمرض غير مفهوم عُزي ذلك للجن ، وسُكبت لها الدهون وكُسر لها البيض ، ووضعت لها العصيدة – وهذا كان طعاماً فاخراً يومها – إرضاء لها. ومن هنا نشأت بعض العبارات التي لا زال البعض يتداولها مثل ” كبوا لك دهنة عند عين امسكنه” أي عساك أن تصاب بمس من الجن تحتاج معه إلى تقديم القرابين لهاعند العيون. ومن مثل قولهم “كسّر بيض…كسّر بيض” منعاً للحسد، تماماً كما عند الإنجليز حينما يقولون”touch wood ” أي اقرع الخشب .
ولا زلت أتذكر عادة النساء وهن ” يذبحن” أولادهن بقصب ” القدو” عند أرض القدور أيام الطبخ للمآتم ويفعلونه عند من يمثل دور زين العابدين عليه السلام في مواكب العزاء. وقد كان “للمحو” والحجبة ولغيرها أسواق رائجة أيام ضعف الطب وكان يمارسها العلماء والمتدينون.
الإنسان كلما ضعفت ثقافته وقل علمه قلت قدرته على الإتصال بالله عبر معانيه ومعاني آياته وجمال مخلوقاته، وضعفت قدرته على مشاهدة التجليات المعنوية للخالق العظيم ولأن الإيمان متفاعل في قلبه فلا بد له من البحث عن تجليات محسوسة “مشخصة ” لهذا الإيمان، ولهذا تعلق الإنسان أول أمره بالآيات الحسية وتعبد الله أول ما تعبده بالطقوس الحسية ،” إذ قربا قرباناً ” وإحراق النار للقربان دليل حي على التعامل المباشر مع الله وبرهان حي على القبول من عدمه . ولازال الإنسان خاصة العوام – أكثر تعلقاً بالمحسوس المشخص منه بالمعنوي العقلي. العالم المتدبر البصير يلتذ كثيرا بالنظام والقدرة والإبداع ،والعامي يتعلق بالمحسوس وكلاهما مؤمنان ولكن عقل الثاني وعلمه ومعرفته يقصران عن المعرفة المجردة أوالتأمل العقلي والروحي . ولهذا يكثرالإهتمام بالمحسوس عند العامة ويقوى الاهتمام بما وراء المحسوس عند العلماء العارفين أوالعقلاء المتدبرين . الحاج العامي فكره طفولي يقدس الكعبة والمقام والمسعى كمشخصات مقدسة . ولكن الحاج العارف لا يرى فيها إلا ميداناً تجرى فيه أمورأخرى. وربما يتطور ليشهد هذه الأمور بأم عينيه فيتشخص له ما كان معنوياً، ومن ثم يعود ليبحث مرة أخرى في المتشخص الجديد عن معنويات جديدة حتى إذا ما ارتقى لتشخصاتها بحث عن معنوياتها وهكذا بلانهاية .
الخرافة تدخل كثيراً على المؤمن من باب حرصه على إثبات الإيمان بواسطة المشخصات مما شوّه سمعة الدين وملأه بالخرافة والاعتقاد بالأوهام ولكننا لانريد أن ننكر إمكانية تشخص المغيبات أو امتداد تأثيرها أحياناً للمحسوسات الدنيوية لتري الناس بعض ما يساعدهم على المسير . فكيف ينبغي لنا أن نفكر في مثل هذه القضايا ؟
يجب أن نجعل تفكيرنا علمياً دقيقاً ووفق مرجعيات موثوقة . فأولاً ينبغي التأكيد على وجوب أن لا ندخل في عقولنا إلا ما نعلم صحته . فالمعلومات الغير صحيحة يستعملها العقل لبناء مقدمات لاستنتاجات جديدة ومتى ماكانت المقدمات خاطئة فالعقل دائماً يقع في الأخطاء . هذه نقطة غاية في الأهمية. والنقطة الثانية يجب أن نعالج القضايا من خلال قواعد نزيهة بعيداً عن أصنام الفكر كالكهف والسبقيات وغيرها. وللإستعانة على ذلك نجعل كتاب الله سبحانه مرشداً لنا .
فقد قرأت مرة للسيد محمد الشيرازي الفقيه المرجع رحمه الله مشاهداته لعزاء الهنود وكيف أنهم ببركة الحسين يمشون على الجمر حفاة وكيف أنه مشى بنفسه على الجمر معهم. وكان رحمه الله يستدل بها على عظمة مقام الحسين وعظمة مقام الإيمان به التي جعلت النار بردا. ولكن بعد وقت نشرت التلفزيونات هذه الطقوس اليابانية وغير اليابانية والتي يستعملها أصحابها للدلالة على صحة معتقداتهم أيضاً فالثابت هو المشي على النار حافياً دونما حروق والمتغير أنها دليل على صحة البوذية والهندوسية والإسلام وغيرها . فهكذا أمور تدل على بطلان أصل الإستدلال وأن للظاهرة تفسيراً آخر.