دأبنا على عقد المقارنة بيننا وبين الآخر الغربي والشرقي، فمرة نقارن بيننا وبين اليابان التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة ورغم ذلك استطاعت أن تنافس أمريكا في التطور التكنولوجي وتزاحم صناعاتها في أسواقها، ومرّة نقارن بيننا وبين الغرب في ديمقراطيته العريقة ونضرب المثل بشفافيته النزيهة (!) حتى لكأنهم أصبحوا هم المعيار لقياس درجة تقدّمنا وتأخّرنا.
وأمّا الكيان الصهيوني فقد عُيّرنا بالفرق بيننا وبينه مرّات وخاصة فيما يخصّصه من ميزانية هائلة للبحث العلمي والتطور التكنولوجي، فنقرأ مثلاً أنه خصص ستّة مليارات دولار لتمويل البحث العلمي أي ما نسبته 4.7% من ناتجه القومي الإجمالي، وهو مبلغ يفوق ما تخصصه كلّ الدول العربية مجتمعة بنحو ثلاث مرات ونصف، ممثّلة بذلك أعلى نسبة في العالم؛ أما بالنسبة لمستوى التعليم فقد
نُشرت قائمة بأسماء أفضل خمسمائة جامعة في العالم ولم يكن من بينها أي اسم لأي جامعة من العالم العربي أو الإسلامي، وبالطبع فقد كان لأمريكا نصيب الأسد (168 جامعة) ومعظم الدول الأوروبية وبعض دول أمريكا الجنوبية وشرق آسيا، وكان من بينها سبع جامعات من ما يسمى بدولة إسرائيل، وهذا رقم كبير نسبة إلى صغر حجمها وعدد سكانها؛ ولو واصلنا المقارنة وتتبّعنا الأرقام التي تكشف عن أعلى مستوى لتطبيق الديمقراطية، وممارسة الحريات العامة، والمحافظة على حقوق الحيوان، والعمل بقوانين حماية المستهلك وغيرها لربما كانت أمريكا الأولى في كل شيء، وتكاد تكون إسرائيل الثانية من بعدها، والعرب والمسلمون لا تكاد تجد ذكرهم وإن وجدوا ففي أسفل القائمة.
قد يبدو الوضع مأساوياً كما يحاول البعض أن يوحي إلينا ويقنعنا بأننا الأسوأ علمياً والأردأ تنموياً لنخلص إلى أننا لا خير فينا ولا أمل في صلاح حالنا إلاّ بالتعلق بأذيال الغرب والأكل من فتات موائد أمريكا وربيبتها إسرائيل، وكأنّنا همج وبربريون ومتخلّفون! لهؤلاء نقدّم بعض المعلومات والأرقام التي قد لا تخفى على الكثيرين ممن كان يتابع أحداث الحرب السادسة لنرى أين تكمن القيمة الحضارية الحقيقية لقياس تقدّم الأمم والمجتمعات؛ أفي مقدار ما تخصص من ميزانية لإعداد الدراسات والبحوث، أو في درجة وعيها الذي به تمارس إنسانيتها في الحرب والسلم؟
جاء في تقرير James Petras الصادر عن Information Clearing House أن:
القوات المسلحة الإسرائيلية كانت تطلق يومياً ما يناهز خمسة آلاف قذيفة أو قنبلة عنقودية وفسفورية لمدة 27 يوماً على أحياء سكنية ذات كثافة سكانية عالية، وخلال السبعة الأيام الأخيرة كانت تطلق يومياً حوالي ستة آلاف قذيفة وقنبلة، أي أنها ألقت في غضون 34 يوماً 177000 قذيفة على مساحة من الأرض لا تتجاوز مساحة إحدى أصغر الولايات في أمريكا!! وخلّفت وراءها آلاف القنابل القابلة للانفجار موزّعة في كل حيّ وعلى كل طريق (وقد قُتل وشُوّه بسببها أكثر من خمسين شخصاً منذ وقف العمليات الحربية)؛ وفي المقابل، أطلقت المقاومة اللبنانية 4000 صاروخاً على مدى 34 يوماً، بمعدل 118 صاروخاً يومياً، أي بنسبة 44:1 بين ما أطلقته المقاومة وما أطلقه الكيان الصهيوني (دون الأخذ بعين الاعتبار حجم ونوعية القذائف المستخدمة).
ووصل عدد القتلى من الصهاينة 116 جندياً، ما يعني أنّ نسبة القتلى من المدنيين كان 26%، بينما في الجانب اللبناني قُتل 1181 لبنانياً، 1088 منهم مدنيون و93 مقاتلون أي أن 92% من القتلى اللبنانيين كانوا مدنيين، فكانت النسبة قتل 47 مدني لبناني في مقابل مدني إسرائيلي واحد فقط؛ وقُتل من المدنيين الإسرائيليين 41 شخصا بحسب التقارير اليهودية التي تستثني منهم 18 من القتلى العرب (مسلمين ومسيحيين) الذين يشكّلون 20% من عدد السكان لتصل نسبة قتلاهم إلى 36% لأن الحكومة الصهيونية لم توفّر لهم ملاجئ آمنة كما هو الحال في الأحياء اليهودية، كما أن أكثر من خمسين مؤسسة يهودية تبرّعت بـ300 مليون دولار لمساندة 23 مدني (يهودي)، و116 جندي (يهودي)، واستثنوا من هذه المساعدات العرب الثمانية عشر !!
تلك عيّنة من مخرجات التعليم (المتطور!) لدى الصهاينة الذي يعيّرنا به العربي المنبهر بالغرب، فما استفاد الصهاينة من تخصيصهم أعلى ميزانية للتعليم إذا لم يمنعهم من السقوط في هاوية الهمجية والعنصرية، وبأي فائدة عادت تلك الدراسات والبحوث على مستقبل الإنسانية سوى غرس المزيد من الكراهية والحقد لدى معلّميها، وتجارها، وقادتها، وساستها وأبنائها قد تكفي لتدمير العالم كلّه بدم بارد، إنّ امتلاك زمام المادّة وناصية القوّة أمر ليس بعسير، إنّما العسير هو التحرّر من المادّة بعد التمكّن وعدم إساءة استخدام براثن القوّة متى سنحت!
ساسة الغرب وعلى رأسهم أمريكا وضعوا للعالم معايير الرقيّ والتمدّن والإصلاح وقواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات ثم نقضوها معياراً معياراً، وانسلخوا منها بمواقفهم المتنكرة لما سنّوا من قوانين، وما تعاهدوا عليه من مواثيق حتى لكأنهم أعداء ما ابتكروا، فصاروا مصداقاً للمثل الشعبي “أسمع كلامك أصدقك، أشوف أفعالك أستغرب”؛ والعرب انكفأوا جانباً رغم ما يملكون من مقوّمات الحضارة فظلموا أنفسهم وحرموا العالم من أرقى قيم الإنسانية التي كانوا يحملونها ومدّوا عينهم لما في أيدي غيرهم، وزهدوا بما لديهم من علوم أسّست لما تبعها من حضارات، وقد آن الأوان أن يعودوا ليتبوّأوا موقعهم على سلّم الحضارة الإنسانية، وينهضوا بما عجز عنه الآخرون.
لقد أُعطي الغرب فرصة كافية ليطبّق نظرياته ويمارس هيمنته فكشف عن قوّة في جانب وضياع وحيرة في جانب آخر، هنا يأتي دور العرب – حملة علم الحضارات القديمة – الذين قال عنهم المؤرخ الفرنسي جان بوتيرو الذي بدأ في دراسة التوراة وعالمها الكهنوتي، ثم انعطف نحو دراسة حضارة المشرق العربي القديم: “إنّ علم الآشوريات يملك امتيازاً عظيماً جداً وثميناً جداً، لقد جعلني عاجزاً عن إيذاء أي كان في العالم، وعن إزعاج أي كان، وعن تعكير صفو أحد، ألا يعتبر ذلك في هذه الأوقات امتيازاً مدهشاً وشديد الندرة، لقد حيّدني علم الآشوريات وجعلني جذرياً، غير مؤذ، لذا تمسكت به وما زلت مثابراً”.
والحقيقة أنّ ما أنتجته حضارات أمّتنا العربية المتعاقبة خلال آلاف السنين وأمدّت به البشريّة عبر علومها وتعاليمها وتراث أديانها وبالأخصّ دينها الخاتم العالمي، يكفي العالم كلّه في جانبه الإنساني والأخلاقي والحقوقي والتنظيميّ، إن لم يكفه أو لا أقلّ إن لم يضع له قدم صدق حقيقيّ مكفيّ الانزلاق في كلّ مجالات التطوّر المادّي والعقليّ والروحي، الفرديّ والاجتماعي والدولي، فما أحوجنا اليوم لاكتشاف ما لدينا من دفائن كنوز، وعلوم تعدّل سلوكنا أوّلاً، فبتفعيلها قد نعيد للحياة بهجتها، وقد نجد سلامنا المفقود.