بدأ المشروع الإنساني على الأرض بقرار ربّاني: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة: من الآية30)، وأُوكلت مهمةُ تنفيذ هذا القرار إلى سادة الملائكة المدبّرين، فهم الذين يتلقّون الأمر الإلهي لتنفيذه (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(التحريم: من الآية6)، إذْ لا يُتصوّر أنّ الله العليّ القدير الذي (ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11)، أن يباشر هو سبحانه وتعالى التنفيذ بنفسه، فهو (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يّـس:82).
باشر سادة الملائكة تنفيذ هذا المشروع وعملوا على إنجاحه ولا يزالون دون كلل أو فتور منذ ذلك الحين، ومنذ أن خُلق الإنسان الأول (آدم) ونُفخ فيه من الروح أُودع الفطرة.. فطرة التوحيد (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)(الروم: من الآية30) وأُسجد له الملائكة، وجُعلوا في خدمته لتعهّده ورعايته وتعليمه، فهو الموحّد الأول على وجه الأرض ابتدأ مسيرة التوحيد متسلّحاً بالفطرة من جهة، وبالوعد الإلهي له بالتسديد – بعد أن أُهبط من الجنة- من جهة أخرى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:38).
كانت هذه الكلمات بمثابة إعلان التوبة من الله على آدم الإنسان الأول، حيث اجتباه وهداه إلى الصراط المستقيم ليبدأ مشوار الحياة الإنسانية الصاعد (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(الانشقاق:6).. بعد أن استوعب الدرس الأول في مدرسة الحياة عارفاً عدوَّه.. متعرِّفاً على نفسه (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)(طـه:123).
هكذا بدأت حياة الإنسان على هذه الأرض بالتوحيد لله الواحد الأحد.. بدأت بالأمة الفرد (آدم) واستمرت وهي في طور انطلاقتها مدة مديدة من الزمن يرث الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد عقيدة التوحيد حتى تطورت لتصبح الأمة الناس بعد أن برزت معالمها في بعدها الاجتماعي والجغرافي حين تحولت من حياة الكهوف والتقاط الثمر، إلى استيناس الحيوانات وتدجينها بالرعي، ومن البداوة إلى حياة الاستقرار والزراعة لتنطلق منها في بناء الحضارة الإنسانية، وكانت الأمة خلال هذه المدة الطويلة أمةً واحدة أي على عقيدة واحدة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)(البقرة: من الآية213) وما كانوا إلا كذلك (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)(يونس: من الآية19)، مجتمعين على التوحيد بتعليمٍ وتعهّد ربّاني، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك فضعفت فيهم عقيدة التوحيد وما كان الله ليجبرهم عليها (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(هود:118) فذلك مقتضى الحرّية (المشيئة) التي أُعطيت للآدميّ، ولكن اقتضت رحمته ووعده من جهة أخرى تدّخله سبحانه لتعليم الإنسان وإرجاعه كلّما انحرفت عقيدة التوحيد أو خبت، فبعث الأنبياء والرسل للقيام بمهمة التذكير وإرجاع الناس إلى خط التوحيد بعدما حادوا عنه (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل: من الآية36)، فجاء آدم الرسول.. وشيث.. وإدريس.. ونوح (ع) (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)(النساء: من الآية164)، تجد ذلك واضحا جليّا في كلام للإمام علي(ع) في خطبته الأولى في نهج البلاغة يتحدث فيها عن خلق آدم وبعث الرسل فيقول: “…. ثم أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشه، وآمن فيها محلته، وحذّره إبليس وعداوته، فاغترّه عدوه نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه، واستبدل بالجذل وجلا، وبالاغترار ندما. ثم بسط الله سبحانه له في توبته، ولقّاه كلمة رحمته، ووعده المردّ إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية.
واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول
،” فالناس ظلوا ردحاً من الزمن على الإيمان بالتوحيد أمةً واحدة إلى أن بدّل أكثرُ الخلقِ عهد الله إليهم، وأشركوا به فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فالتوحيد هو القاعدة والشرك والوثنية هما الاستثناء الذي استدعى بعث الأنبياء والرسل. (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(البقرة: من الآية213).
رُسُل السماء
واستمر المشروع الإلهي في توجيه الإنسان وهدايته برعاية ربانية وبأفضل الطرق المناسبة له واختير لهذا الإنسان من الأساليب الكثيرة التي تضمن وصول الهداية إليه وإقامة الحجة عليه، فحيناً بعث الله إليه غراباً يبحث في الأرض ليريَه كيف يواري سوأة أخيه المقتول، وحيناً آخر أرسل إليه ملائكة (هاروت وماروت) يعلّمانه (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ )(البقرة: من الآية102)، وقد اعتاد الناس نزول الملائكة مشخّصين للتعليم لدرجة استنكارهم أن يأتي إليهم رسولٌ من البشر (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)(المؤمنون:24)، هكذا كان قول الملأ الذين كفروا من قوم نوح(ع)، ومن بعدهم قوم عاد وثمود (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)(فصلت: من الآية14)، فماذا كان ردّهم؟ (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(فصلت: من الآية14)، إذْ أنّهم لا يتصورون أن يكون الرسول بشراً مثلهم، ولعلّهم كانوا يرون من أعمال الملائكة الخارقة ما دعاهم أن يطالبوا الرسل من البشر بمثل تلك الأعمال (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(الإسراء:90-93).
وبتتابع مجيء الرسل من البشر وتقلّص الدور المباشر للملائكة واقتصار حضورهم وهم على صورة البشر مع بعض الرسل لأداء مهمات معينة كالحال في ضيف إبراهيم المكرمين الذين بشّروه بإسحاق، وتواجدهم بعد ذلك مع لوط (ع) لإنزال العذاب بقومه المسرفين، وتمثّل الملك بشراً سويّا لمريم، مع هذا الانسحاب التدريجي بدأت تخفت صورة الملائكة كحلقة اتصال بين السماء والأرض وكمعلّمين لتحلّ محلها صورة الرسول البشري، فكان سقف مطالبة الأقوام اللاحقين من رسلهم أن يكون معهم ملائكة كعلامةٍ على صدقهم، فهذا فرعون موسى ينادي في قومه: (فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)(الزخرف:53)، ثم بعد ذلك لينخفض هذا السقف إلى المطالبة ولو بمَلك واحد ليكون مع الرسول محمد (ص): (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً)(الفرقان:7)، (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(هود:12).
وهكذا تدريجياً أصبحت حلقة الاتصال مقتصرةً على الجنس البشري الإنساني القادر على تمثيل الملأ الأعلى واستيعاب مهام الاستخلاف في الأرض، بعد أن ارتقت قدرات الإنسان التفكيرية وقابلياته التجريدية فأصبح مهيّأ وقادراً على حمل آخر الرسالات السماوية.
التوحيد أصل … الشرك إستثناء
إنّ التوحيد الذي بزغ منذ بداية يوم الإنسانية سيبقى يُرسل أشعته حتى نهاية ذلك اليوم وإنْ حجبته بعضُ سحبٍ من الشرك خفيفةٍ زمناً ما ذهبتْ ببعض نوره.. أو كثيفةٍ في زمن آخر حجبت نورَه عن كثير من النفوس إلا أنه ظلّ زاهراً في نفوس قوم آخرين، فالأرض لم يأت عليها زمان قط خلت فيه من حجةٍ على الناس متمثلةٍ في أشخاص موحّدين يمشون على الأرض كان أولهم آدم وليس آخرهم خاتم النبيين محمد (ص) وما بينهما الكثير من الرسل والأنبياء نعرف البعض منهم ولا نعرف أكثرهم (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(النساء:165).
يقول الإمام علي(ع): {لم يُخلِ اللهُ سبحانه خلقَه من نبيٍّ مرسل، أو كتابٍ مُنزل، أو حُجّة لازمة، أو محجّة قائمة.. رسلٌ لا تُقصّر بهم قلةُ عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم، من سابقٍ سُمِّي له مَنْ بعده، أو غابرٍ عرّفه مَنْ قبله.. على ذلك نَسَلت القرون، ومضت الدهور، وسَلَفت الآباء، وخَلفت الأبناء}.
وقد تضافرت الروايات على وجود الحجة على الناس منذ خُلق آدم وإلى قيام الساعة، “عن الصادق (ع) قال: لم تخلُ الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور، أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها، ولولا ذلك لم يعبدْ الله”. فالموحِّدون وأِنْ كانوا مغيّبين وغير معروفين إلا أن وجودهم يمثّل استمراراً لخط التوحيد الذي قد يضيق ليقتصر على أفراد معينين يمثلون الأمة الموحِّدة في زمنٍ ما، وقد يتسع في زمان آخر ليشمل الأمة كلها ولكنه لا ينقطع أبدا.
ولسائل أن يسأل: من أين كانت انطلاقة عقيدة التوحيد؟.. أين هي البقعة الجغرافية التي منها انتشرت تلك العقيدة إلى العالم؟ للإجابة على هذا السؤال المهم علينا الرجوع إلى الوراء كثيراً حيث نقطة البداية، حيث الجنة الأرضية التي أُسكنَها آدمُ وزوجُه، ثم أُهبط منها آدم بعد معصيته ليستقرّ بالقرب منها رغبة في الأوبة إلى الله عزّ وجلّ وطلباً للمغفرة، فمن هذه المنطقة تحديداً كانت البداية، ولكن الجهل بحقائق التاريخ والجغرافيا سواء نجم ذلك عن تقصير أو قصور في الفهم أو تحريف للحقائق بقصد أو بغير قصد ساهم في رسم الصورة غير الصحيحة لما جرى عبر التاريخ منذ آدم الإنسان الأول وحتى يومنا هذا، وما دعوة القرآن الكريم لنا للسير في الأرض للنظر فيما آل إليه أمرُ السابقين من المكذبين والمجرمين إلا لإعادة رسم الصورة الصحيحة لما جرى في الحقب الماضية واستخلاص العبرة منها (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(الأنعام:11)، و (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(النمل:69)، بل يذهب التوجيه الإلهي لنا أكثر من ذلك حيث يطالبنا بالسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق وهذا ضمن الوُسع وإلا لما كُلّفنا به (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:20).
فالبداية إذاً كانت من (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران: من الآية96)، من هذه الأرض المقدسة التي باركها الله سبحانه، أرض شبه الجزيرة العربية التي انطلق منها جميع الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين وداعين إلى عبادة الله الواحد الأحد، ومنها حمل الإنسان العربي عقيدة التوحيد إلى جميع أنحاء الوطن العربي الواسع منذ آلاف السنين، لا كما يصوّر أعداء هذه الأمة العرب وكأنهم مجموعة من البدو الرحّل سكنوا الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية وكانوا جهلة ووثنيين يعبدون الأصنام، متناسين وجودهم وتاريخهم الموغل في القدم الذي مثّله السريانيون (كالسومريين والبابليين)، والفينيقيون. إنّ عرب الجاهلية قبل البعثة النبوية لا يمثلون إلا مرحلة تاريخية وجغرافية محدودة لم تخلُ هي الأخرى من موحّدين آمنوا بالله الواحد الأحد الذي لا شريك له، نفهم ذلك من قول ” قس بن ساعدة الإيادي”:
كلا بل هو الله إله واحد ليس بمولود ولا والد
“كان قسّ بن ساعدة يدين بالتوحيد، ويؤمن بالبعث، ويدعو العرب إلى نبذ العُكوف على الأوثان ويُرشدهم إلى عبادة الخالق. ومن خُطَبه خطبته تلك التي خطبها في سوق عُكاظ وهي: أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليلٌ داج ونهارٌ ساج وسماءٌ ذات أبراج، ونجوم تَزهر، وبحار تَزْخر وجبال مُرساة، وأرض مُدحاة، وأنهار مُجراة، إنّ في السماء لخبرا وإن في الأرض لعِبَرا ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون أرَضُوا فأقاموا؟ أم تُركوا فناموا؟ يُقسم قُسُّ بالله قسماً لا إثم فيه إنّ لله ديناً هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرا”.
وكذلك كان الشاعر العربي المعروف زهير بن أبي سُلمى ممن عاصر هذه المرحلة التاريخية ومات قبل البعثة بسنة، “وكان سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع مُتديّناً مؤمناً بالبعث والحساب كما يظهر من قوله:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يُكتَم الله يعلم
يُؤخّر فيُوضع في كتاب فيُدّخر ليوم الحساب أو يُعَجّل فيُنقم”
وفي مروج الذهب ذكر المسعودي في هذا الصدد يقول:
“وقد كان بين المسيح ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم في الفترة جماعَة من أهل التوحيد، ممن يُقِر بالبعث، وقد اختلف الناس فيهم: فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك”.
والأصح أنّهم الحنفاء أي بقايا تابعي دين النبي إبراهيم(ع) الذي عاش قبل 1500 سنة ق.م.، وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض طوال القرون الماضية وإن كانت قليلة في قوله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود:116)
وخط التوحيد الذي لم ينقطع يثبته – بالإضافة إلى القرآن الكريم – الصحيحُ ممّا في كتب الديانات الأخرى: (يقول الكتاب المقدس إن البشر ارتدوا عن الله الحي وعبدوا آلهة متعددة، مما حدا بالأنبياء إلى بذل المحاولات لإرجاع الناس إلى عبادة الإله الواحد. أما العلماء الملحدون فزعموا أن الإنسان منذ البداية يعتقد بتعدد الآلهة. وبقيت هذه النظرية سائدة لدى الكثيرين إلى أن دحضها الدكتور س. هربرت. وهو أحد أعلام الحفريات وأستاذ الدراسات الآشورية في جامعة أكسفورد فقد قال هذا العلامة إن عقيدة الوحدانية في الديانات “السامية”!! والسومرية قد سبقت العقيدة بتعدد الآلهة)
ولو توغّلنا أكثر في القِدم قبل آلاف السنين لالتقينا بإخوان لنا في العقيدة لا تختلف عقيدتهم التوحيدية وحتى ممارساتهم العبادية كثيرا عما نحن عليه الآن، هؤلاء الأخوة هم المندائيون الذين سكنوا في شبه جزيرة العرب، يقول الدكتور أحمد داوود في كتابه (تاريخ سوريا الحضاري القديم): “إنّ جنوب غامد من جبال السراة هو الموطن الأصلي لأولئك المندائيين، ممّا جعلهم يتوجهون في صلواتهم إلى الشمال العالي حيث بيت المقدس في المغارة المقدسة منبع الأنهار التي تروي جنة عدن ومن بينها الفرات. ثم إنهم اضطروا في حقب من حقب التاريخ إلى النزوح شرقاً عند ضفاف الفرات (الثرات) ورنيا عند حرّان الآرامية شرق غامد(وليست حرّان على الفرات في الشمال السوري)، ومن هناك تابعوا الرحيل شرقاً إلى جنوب العراق الحالي حيث ما زالوا إلى اليوم”.
وقد دُعي هؤلاء المندائيون بالصابئةلاعتمادهم التعميد وهو التطهير والاغتسال بالماء في الكثير من طقوسهم العبادية، وقد خلط الكثير من الباحثين بينهم وبين الحرّانيين السوريين عبدة النجوم والكواكب الذين ادعوا أنهم من الصابئة زمن المأمون حفاظاً على حياتهم لمّا عرفوا أنّ القرآن ذكرهم وعدّهم أصحاب دين كأصحاب الديانات الثلاث وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(المائدة:69)، عقيدتهم توحيدية لا غبار عليها، يظهر ذلك جلياً لمَنْ يقرأ كتابهم المقدس (الكنزا ربّا) حيث يقول في افتتاحيته:
“سبحانك ربّي العظيم، أسبحك ربي بقلب طاهر ربّ العوالم كلّها
مسبّحٌ ومباركٌ ومعظّمٌ ذو الوقار والجلال.
الله الربّ العليّ سبحانه ملك النور السامي.
ذو الحَول الشامل، الذي لا حدود لقدرته.
النور البهيُ، والضياءُ الساطع الذي لا ينضَب.
الرؤوفُ التواب، الغفور الرحيم.
مخلِّص كلّ المؤمنين وناصر كلّ الطيبين.
العزيزُ الحكيم، العليم البصير العارفُ الذي على كل شيء قدير.
ربُّ عوالم النور جميعها، العليا والوسطى والسُفلى.
ذو السيماء العظيم الموقر الذي لا يُرى ولا يُحدّ.
لا شريك له بملكه ولا كفءَ له بسلطانه.
من يتكل عليه لا يُخذل، ومن يسبّح اسمه بالحق لا يخيب، ومن يتوكل عليه لا يُذلّ.
ربّ الملائكة جميعاً، لا وجود بدونه وما من شيء لولاه، أزليٌّ ليس له بداية،
وأبديٌّ ليس له نهاية”
أمّا عباداتهم ففيها وجوب الطهارة (الوضوء والغسل)، والصلاة والصيام، كما تحرّم تعاليمهم الدينية القتل والقتال إلا دفاعاً عن النفس، والزنا واللواط وشرب الخمر وحلف اليمين الكاذب، والسرقة وقطع الطريق والسلب وشهادة الزور، والنظر إلى المحصنة بريبة أو بشهوة والغيبة والنميمة والفتنة والربا بجميع أنواعه وصوره، وهذه على سبيل المثال لا الحصر، وكلُّها – كما نرى- شديدة الشبه بتعاليم الشريعة المحمدية إلا في بعض تفاصيلها الصغيرة بحكم اختلاف الزمان، الأمر الذي يعني أنّها تغرف من معين واحد وأنّها تعاليم ربّانية، فالمندائيون يُرجعونها إلى صحف آدم وشيث وإدريس والتي وُجدت قبل أكثر من 4 آلاف سنة قبل الميلاد.
إله واحد أم آلهة عدّة؟
إنّ قراءة متعمّقة في التراث العربي الديني تكشف لنا عن حقيقة الإيمان العميق لدى العرب الأقدمين بالإله الواحد الأحد، الذي خلق السماءَ والأرضَ والماء والهواء والدوابّ، بل تكشف عن معرفتهم بالكيفية التي تمت بها عملية الخلق تلك، وأنّها تمت بواسطة الملائكة الموكلة بتدبير شئون الخلق وفق إرادة الله سبحانه، وإنّ العرب كانوا يحتفظون بهذه المعارف والتعاليم في المعابد مكتوبةً بطريقة خاصة يعتبرونها كتابة مقدسة صوناً وتمييزاً لها عن الكتابة العادية، وهذه المعرفة بهذه الأمور الغيبية لا تُتحصّل إلا بتعليم رباني تمّ بثه عبر الملائكة والأنبياء(ع) من مركز الإشعاع التوحيدي، وبالطبع فإنّ ذلك كلّه لا يمنع من طروء حالات من الشرك حينما تضعف موجة البثّ الإيمانية كلّما ابتعدنا من نقطة البث مكاناً أو زماناً حيث تقسو القلوب فتزيغ عن الحق (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )(الحديد: من الآية16).
إذا عرفنا ذلك استطعنا أنّ ننظر إلى التراث العربي الديني بعين الموضوعية مسجّلين الملاحظات التالية:
- إنّ في التراث من النصوص ما يكشف عن توحيد خالص لا تشوبه شائبة، نجد ذلك في نص المندائيين المذكور آنفاً من كتابهم الكنز العظيم، كما نجد ذلك في التراتيل الدينية التي تُقرأ في المعابد “وتعد التراتيل والترانيم والابتهالات التي تقدم إلى هذا الإله أو ذاك مظهراً من مظاهر التعبير عن فكرة الحب الإلهي وتجسيدها الواقعي، على وفق ما يتضح من النصوص المتنوعة التي تضمنها الأدب العراقي القديم والتي يرفعها الإنسان إلى مقام الإله لتمجيدهِ. ومن هذه التراتيل، نص ترتيلة للإله انليل، تقول: (أنليل ذو السلطان الشامل المطلق والكلمة السامية المقدسة يقدر المصائر والأقدار إلى الأبد، فلا تبديل لأوامره، الرب العظيم، ذو السيادة والقدرة، المتسامي في السماء والأرض، العليم بكل شيء، والمتمرس بالأحكام)”، وترنيمة دينية تصور مشاعر الحب الفياضة التي تنعكس عن تضرع الإنسان وتذللـه للإله، فيقول ما نصه: “أنا خادمك أضرع إليك وقلبي مفعم بالحسرات، إنك لتقبل الدعاء الحار الصادر ممن أثقلته الذنوب، إنك لتنظر إلى الرجل، فيعيش ذلك الرجل.. فانظر إلي بعطف حق وتقبل دعائي..”أما في مصر وادي النيل فإنّه بالرغم ممّا يُقال عن كثرة الآلهة وتعدّد أشكالها واختلاف مسمّياتها، لأسباب لا صلة لها بالعقيدة، بالرغم من كلِّ ذلك تجد في أذهان المصريين صورةً لإله أعظم وأكبر من هذه الآلهة.. “كائن مليء بالأسرار.. تجهل حتى الأرباب مظهره الحقيقي.. وصورته ليست منتشرة في الكتب، وهو محجوب بالأسرار حتى لا يستطاع الكشف عن بهائه وروعته، وهو كبير حتى لا يستطاع تكوين فكرة عن ماهيته..” كما جاء في (نشيد آمون)، فعرب وادي النيل كانوا في الأساس موحّدين وذلك باعتراف الباحثين الغربيين الذين درسوا ديانة المنطقة، فهذا أدولف إرمان في كتابه (ديانة مصر القديمة) يقول: “ومما يبعث على الدهشة أن المصريين كثيراً ما تحدثوا – علاوة على آلهتهم المعينة – عن (إله عام) ويحدث ذلك عادة في الأدب عندما يفكرون في تلك القوّة التي تتحكم في مصائر الناس. فمثلا يقولون: (ما يحدث هو أمر الله)، (صائد الطيور يسعى ويكافح ولكن الله لا يجعل النجاح من نصيبه)، (ما تزرعه وما ينبت في الحقل هو عطية من عند الله)، (من أحبه الله وجبت عليه الطاعة)، (الله يعرف أهل السوء)، (إذا جاءتكم السعادة، حقّ عليكم شكر الله)” ثم يضيف قائلا: “هؤلاء القوم الذين كان هذا هو شعورهم وحديثهم لم يكونوا بمنأى عن العقيدة الحقة”، إذاً فالأصل هو التوحيد.
- إنّ هناك الكثير من النصوص الدينية الثانوية أُعطيت من قبل الدارسين نفس قيمة النصوص الأصلية في الدلالة على جوهر المعتقد، الأمر الذي أدى إلى سوء الفهم إذا افترضنا حسن النية، وبالتالي كانت نتائج دراساتهم مسخاً مشوهاً من العقيدة التي لا يقر بها عاقل.
- إنّ الخلط بين الإله الواحد الأحد وبين تجلّيات القدرة الإلهية، وإسباغ تسمية الألوهية عليها أفرز لنا الكثير من الآلهة المتعددة بأسماء مختلفة، بينما هي تجليات وفيوضات إلهية أقرب إلى تسمية (الأرباب) منها إلى (الآلهة)، يقول أحمد يوسف داوود في كتابه (الميراث العظيم): “إنّنا إذاً، عندما نقول كلمة (إله)، فإنما يجب أن نعني العلة بإطلاق، أي: العلة غير المعلولة. وهذه العلة واحدة ووحيدة ولا تقبل المشاركة”، ثم يؤكّد حقيقة “أنّ العرب القدماء لم يقولوا بتاتاً بآلهة بل بإله واحد، وبمبادىء إلهية صادرة عنه يتجلّى فيها قانونه في الخلق أو قدرته، وينبغي أن يُقْصَر وصفها في هذا الحدّ من الإدراك على أنها (أرباب) تمييزاً له عنها”.
لقد كان تعبير الأقدمين عن معتقداتهم التوحيدية يقصُر عن إبلاغنا الآن فكرة التوحيد التي كانوا يؤمنون بها لأنّهم حين عبّروا ورمّزوا وكتبوا عن عقيدتهم لم يكن في اعتبارهم الدارسون الذين سوف يُخضعون تلك التعابير والرموز للدراسة والتحليل بغية فهمها بعد آلاف السنين، هذا فضلاً عن أنّ الكلمة لا ترقى أبداً إلى مستوى الفكرة خصوصاً عندما تكون في بدايات أطوار تشكّلها، فضلاً عمّا جرى على هذه الكلمة عبر رحلتها من جيل إلى آخر ومن مكان إلى غيره من زيادة أو حذف أو إبدال أو إقلاب، فلم تعد هذه الكلمة قادرة على أن تختزن المعنى الحقيقي الذي وُضعت له كما هي أول مرة. وممّا زاد من تعقيد الأمر على الباحثين والدارسين عدم دقة الترجمة التي ربما حرفتها تماماً عن المعنى الأصلي لها، وكان لابد لفهمها الفهم الصحيح من الرجوع بها إلى أصلها العربي القديم.. اللغة العربية القديمة وما تفرّع عنها من لهجات سريانية وآمورية وفينيقية، وتشعّباتها.
وبهذا نفهم السبب الذي من أجله جاءت معجزة آخر الرسالات السماوية مختلفة عمّا سبقتها من معجزات الرسل ذات الطابع المحسوس والمحدود بظرفي الزمان والمكان، جاءت لتبقى خالدة مع الزمن، قائمة بالحجة على الناس أجمعين إلى قيام يوم الدين، هذه المعجزة هي كتاب الله المقرّر لعقيدة التوحيد.. الداعي لها، جاء بها بيضاء ناصعة لا لبس فيها ولا غموض، وكما قال رسول الله (ص) في أواخر حياته: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك).. فالقرآن هو الكلام المعجز والمعبِّر تعبيراً واضحاً عن عقيدة التوحيد الحقّة والحافظ لها على مر العصور حتى نهاية اليوم الإلهي المسمّى للإنسانية، وقد تعهّد الله سبحانه بحفظه من عبث العابثين.. وتحدّى الجن والأنس أن يأتوا بمثله وأكد أنّهم لن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، تحقيقاً للوعد الإلهي بظهور الدين الحقّ على الدين كله ولو كره المشركون (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33، الصف:9).
وأخيراً ربما أشكل البعض علينا بقوله: كيف تدّعون قِدَم التوحيد والقرآن الكريم زاخرٌ بذكر نماذج للشرك وعبادة الأوثان منذ نوح (ع) فهو يقول: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)، ويقول: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) (الأنبياء:52)، ويقول: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً )(العنكبوت:17) ويقول: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (لأعراف:138)، ويقول: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(الأنبياء:98)، ويقول: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(فصلت:9)، وكان على ظهر الكعبة في الجاهلية قبل البعثة 360 صنماً تُعبد من دون الله.
كلُ ذلك صحيح، ولكنه لا ينفي ما ذهبنا إليه من وجود التوحيد في كل العصور ولو في أخفت صوره، لأن هذه الآيات إنّما تعبّر عن محطات الانحراف وهو في أجلى صوره، وهي المحطات التاريخية التي بُعث فيها الأنبياء والرسل لإصلاح مسيرة التوحيد والتذكير بالإله الواحد الذي لا شريك له، فكانت أولى كلماتهم إلى أقوامهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(الأعراف:65)، فالدعوة واحدة والمخاطب بها هي هذه الأمة الواحدة منذ آدم وحتى يومنا هذا، هذه الدعوة أجملتها آية الأنبياء بقولها: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).