الحرب البشريّة الثالثة

سئل “برناردْ شو” عن الأسلحة المحتملة للحرب العالمية الثالثة؟ فقال: أعلم فقط أنّ أسلحة الحرب الرابعة ستكون العصيّ والحجارة! إذن هو الإفناء البشري لبعضه، والإفناء ليس المهمّ معرفة سلاحه بل عقيدته.. والتي للأسف هي عقيدةٌ كونية عابرة، تلبس رداء الدين والسياسة والقانون أيضاً، بل إنّها الآن عقيدة الجميع إلاّ مَن رحم.

فما دمنا لم ننزع فتائل القنابل الموقوتة بدواخلنا المغرية بإفناء ونفي حقوق الآخرين (المختلفين، الطوائف، الأعراق، الأقليّات..)، فإنها ستتفجّر بلحظة مواتية، متوسّلةً كلّ أدوات العنف، وستتقنّع بكلّ المبرّرات المعوجّة، القانونية، والدينية، والدوليّة، لتسويغ استحسانها.

فبين الأنا والآخر، الملّة والملّة، الطائفة والطائفة، الحزب والحزب، السلطة والمعارضة، الدولة والدولة، الجار والجار، فضاءات اختلاف (واشتراك)، إذ الاختلاف مقتضى تنوّع الحياة، لكنّه إنْ تحولّ -بفعل الفيروس الشيطاني التابع لمنظومة الحسد- إلى إرادة نفي الآخر، بدل معايشته والتعاون معه والتبادل والاحترام والتشارك..، إن تحولّ نفياً، ثم إفناءً، يمحق الآخر وحقوقه الطبيعية، الوجودية، والمعنوية، والفكرية.. فقد فخّخنا أنفسنا بمؤقّت جاهز لتفجير حروب الفناء والإبادة..

وبحسب المنظور فإنّنا منحدرون وبسرعةٍ -بهذه العقيدة الفيروسية المضادّة للإخاء الإنساني- تجاه هذه الحرب الشعواء، فنحن منذ الآن يسبّ ويلعن ويشطب ويحرق مقدّساتٍ.. أهلُ كلّ دين ومذهب نظيرَهم، ويترأّس هذه الهمجيّة رؤساؤهم، فإذا أعلى رأس عاقلٍ للدين والمذهب هو الأحمق والأشرس والأفسد، كما يُقال أنّ نتانة السمكة تبدأ من رأسها، وإذا بأقذع عبارات اللعائن والإبعاد والشطب تصدر ممّن يدّعي تمثيل الرحمن وحراسة الأديان، فكيف بالحريّ بساسة الحروب ممّن هم أساسًا للشيطان نُعّاق وعديمو أخلاق، وممّن لا يقوم لواؤهم إلاّ بتسقيط خصومهم والكيد لهم.

لقد سأل أرحمُ قلبٍ (ص) لهذه الأمّة ربَّه ألا يجعل بأسَها بينها، فمُنِع، ذلك لأنّه اختيارٌ بشريّ، ونحن للأسف اخترنا بطواعية إيقاع هذا البأس بيننا، بتحزّبنا الآثم والاصطفاف ضدّ أبعاضنا.

سيحاول الكلّ أن يستأصل الكلّ ما استطاع، فحين “تخلع العربُ أعنّتها” ستُحاول المعارضةُ استئصال أنظمتها العتيدة، والأنظمةُ المتيبّسة ستحاول استئصال معارضاتها، بخنقهم وسلب حرّياتهم وأمانهم وكرامتهم وتشريدهم بل وقتلهم.. جنون الاستئصال مفتوحٌ بلا سقف، وبحسب روايات سيُفضي إلى “قتل بيوح”..أيْ “دائم لا يفتر”، وبروايات أخرى “موت أحمر”.. أي بلون الدم، حين لا نرى تمكّننا إلا بتقطير أوداج خصومنا.. “حتى يذهب مِن كلّ سبعةٍ خمسة”… “ويومئذ يكون اختلافٌ كثيرٌ في الأرض وفتنٌ”.. “وسيفٌ قاطعٌ بين العرب، واختلافٌ شديدٌ بين الناس، وتشتّتٌ في دينهم وتغيّرٌ في حالهم”!!!.. فالدّين المتشتّت بعقائد الكراهية والإقصاء هو السبب، أكان ديناً متوارثاً أم مجرّد عقائد النفوس البشريّة ليس إلاّ.

فالسؤال الأهمّ: هل استطاعتْ عبر التاريخ قوّةٌ غاشمةٌ كسر إرادة الناس؟ ولو قدْ حصل فهل اشترت بذلك أمانها وديمومتها وحميد عاقبتها؟ دونكم أفغانستان وغزّة، شعوبٌ مستضعفة تحت أعتى قوى بطش.. ولم تنفع.

هل استطاع تعذيبُ إنسانٍ سلبَه حلم الانتقام من معذّبيه؟

إنّنا مَنْ يصنع طلائع الإرهاب، وبوادر الشقاق، نحن نستنبت بذوره ومشاتله ونغرس حقوله، ثمّ حتماً سنجني ثماره. حين يقول فريقٌ من الناس (لا نريد “عفا الله عمّا سلف”)، وحين يجيبهم فريقٌٌ من السلطة (كفى لـ “عفا الله عمّا سلف”).. حين تقول ناسٌ (نريد مُحاكَمة السلطة ومُحاسَبتها)، وحين تردّ السلطة (أولئك يجب أن يُحاكموا ويُحاسبوا).. يعني أننا أمام تناحرٍ شرس لصراع فيَلة.. ستدهس بأقدامها كلّ الأخضر واليابس، مِن المنجزات ومن الأبرياء.. والصلحاء والعقلاء، للزجّ بالجميع وقوداً لحرب، وعبيدَ حرب.

العنف يُولِّد العنف، القتل يستجرّ القتل، القمع يُسبّب الانفجار، الإقصاء يُنتج القطيعة، التطرّف علاج التطرّف، قواعد مجرّبة لو وعاها الإنسان، الحاكم والمحكوم، لتجاوزنا أكثر العقبات بوقت قصير، ولما استبدّت بنا المآزق وتقهقرنا إنسانيّاً ووطنيّا وحضاريا.. فليس الظلم سبب المشكلة كلّها، بل الجهلُ أيضاً، “جهالة” الإنسان بعواقب “ظلمه”: (وحملَها الإنسانُ إنه كان ظلوماً جهولاً)..

والحبّ يُثمر الحبّ، الإحسانُ يأسر الإنسان، العدلُ أساس الملك، التسامحُ يزيل الاحتقان، الحوار لغة العقلاء، العقلُ زينة، الصفحُ سمة الرحمن، الدفع بالتي هي أحسن يُغيّر طبائع العدوان.. قواعد ذهبيّة إنسانية واجتماعيّة مجرّبة أيضاً، لكنْ مَن مستعدّ أن يجعلها منائر دربه؟ يكاد يكون اليومَ لا أحد.. فكأنّ الإنسان ومن أجل بلوغ إنسانيّته لابدّ أن يُوغل أوّلاً في همجيّته، وكأنْ لا طريق له إلى التطوّر إلاّ بالتقهقر، وإلى السلامة إلاّ بالندامة، ليستوعب عمليّاً دروس ويلات الخراب، وكما قال مظفّر: “سيكون خراباً، هذي الأمّة لابدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب”..

إنّ البشريّة وهي تتربّص ببعضها كأناسٍ محشورةٍ ببيتٍ، انطفأت فيه الأضواء بغتةً، فتصوّر ماذا سيحدث! سيتفانون “شبرْ شبرْ.. دارْ دارْ.. فردْ فردْ”، إنّهم قد انطفأت أنوارُ دواخلهم قبل أنوار الخارج، هم كمجانين يقودون سيّاراتهم في الشوارع، فنظام الشوارع وعلاماته لن يحجز جنونهم، فكيف لو انعدم النظام؟!.. حقيقةٌ أثبتها سبحانه: (فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) فكيف لو انطفأ النوران؟! وقالتها حكمةٌ: “ماذا ينفعك سعة العالَم إذا كان حذاؤك ضيّقاً”، فكيف لو ضاق العالَم أيضاً، وحاصرتْنا كوارثه؟!..

لكن تصوّر منزلاً لمّ أناساً متحابّين، فإظلامُه لن يزيدهم إلاّ قرباً والتماماً، هذا حالُ العالَم.. وحالُ الأوطان، حالَ نزول الكوارث، ستجعل متوحّشةَ الناس تعلو وحشيةً، وستجعل متّقيهم تشعّ نقاءً..

إنّ معركتنا الأخيرة أن نحافظ على شعلة الضمير في دواخلنا، لأنّ المصالح الشخصية، والهويّات الدينية والمذهبيّة، وألاعيب السلطات السياسية، واصطفافات الكراهة الطائفيّة، تُطلق رياحاً نتنةً عاتية لإخماد هذه الشعلة، لتحيل الجميع وحوشاً بشريّة، يتكلّمون كحذّاقٍ بالسياسة والدين والقانون وبكلّ أدوات الفهم والعصر والإقناع، لكنّهم مظلمةٌ ضمائرُهم، هم سكَنةُ تلك الغرفة المضاءة، التي وشيكاً ستُظلم أيضاً، لتُعلن ساعة الصفر لنشب المخالب ونهش الأسنان بمحفل أكل لحم الأخ لأخيه.. “.. فرْد فرْد”.

فيا إخوتي البشر، ليس لكم غير أخوّة بعضكم، وإلاّ شيئًا فشيئًا تتعرّون مِن ألبسة الإنسان، وخطوةً خطوةً تتبّعون خطوات الشيطان، فاستيقظوا.. استيقظوا قبل أن يستحكم الاحتناك، ويُحشر الكلّ والشياطين جثيّا.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة