
كانت حرية الإنسان وما تزال موضوعاً خصباً وذات أولوية لدى علماء الفلسفة والاجتماع والمنطق وعلم النفس والمفكرين وكل من يعنيهم شأن الحرية بنحو ما.
ومن دلالات استمرار حديث الحرية أن وضع الإنسان ما زال متأزماً وما زال في حاجة إلى مواصلة جهود العلماء والمفكرين، بل إن اشتراك الفلسفة وعلم النفس والاجتماع وعلوم أخرى في تناول موضوع الحرية – على الرغم من استقلال كل علم بموضوعه – يدل هذا الاشتراك على قناعة هؤلاء المفكرين بأن حل مشاكل الإنسان من استبداد سياسي وظلم اجتماعي وانحطاط سلوكي وكل ما يترتب على ذلك من آثار حل هذه المشاكل وغيرها يكمن في جوهرة عزيزة اسمها الحرية.
من ناحية أخرى فان الدرب الوحيد الذي إذا سلكه الإنسان كان إنساناً هو درب الحرية فالإنسان بالحرية إنسان وبدونها إنسان ناقص ذلك أن عطاءه وسعيه وانطلاقه إنما يكون كل ذلك طبيعياً بل وقابلاً للنمو والزيادة حينما يمر من بوابة الحرية، أما حينما تغلق هذه البوابة فإن الإنسان سيخبو ويتضاءل لتتكرس فيه عيوب الإنسان الناقص وتتفاقم مشاكله فرداً وأسرة ومجتمعاً.
وستغدو في هذه الحالة كل الميادين المنتظرة لعطاء الإنسان خاوية على عروشها فارغة مما يفترض أن تمتلئ به من عطاء جم متنوع في ميادين العلم والسياسة والعمل والمعيشة ودنيا الحياة كلها.
وعلى الرغم من كل هذا الذي أحرزه الإنسان في مجال العلوم والاختراعات والمصانع وما سخّره في مجالات متنوعة من الطبيعة وما بلغه من علوم الفضاء ودنيا الكتب والمكتبات، على الرغم من كل هذا وأشباهه فإن ذلك كله ليس هو ناتج الإنسان لو كان حراً في مجتمعه، حراً حاكماً ومواطناً، حراً في سعيه وعطائه.
إن التاريخ يقول منذ أن عرفت الإنسان لم تنقطع استغاثة المظلومين وأنات المحرومين وصراخ المعذبين وأنين اليتامى الجائعين وحرمان الشعوب وإبادتهم على أيدي الجبابرة المتغطرسين وقتلهم الأحرار من العلماء والثائرين. يقول التاريخ هكذا عرفت الإنسان مذ عرفته وهكذا بالفعل كان الإنسان وهكذا كانت حياته ظلم وظلام.
وسبب ذلك كله ومحوره هو غياب الحرية ذلك أن الاستبداد والظلم والنهب والتعذيب لا يكون إلا في أمم لا يجوز لها أن تعترض وأن تسأل وأن تطالب يعني أمم لا تعيش الحرية.
أما الأمم التي تستطيع أن تسأل وتطالب وتشارك في اتخاذ قرارات تتعلق بحياتها فهي أمم تعيش الحرية فإن الظالمين هناك يعلمون أنهم سيتعرضون للمحاسبة ومن ثم للمؤاخذة والعقاب. ويبدو أننا كأمة بشرية نتحرك ولأسباب عديدة صوب عالم الديمقراطية التي تعتبر تجسيداً للحرية في بعديها الاجتماعي والسياسي وكما نالت كثير من البلدان حرياتها السياسية وعاشت الديمقراطية وتخلصت مما كانت تئن تحت سياطه من ظلم وفساد واستبداد فإن الأمم الأخرى في طريقها لنيل هذه الحرية السياسية إن عاجلاً أو آجلاً.
لكن الحرية التي هي أس الحياة الكريمة المتناغمة مع طبيعة الإنسان لا تقف عند هذا الحد فبالإضافة إلى البعدين الاجتماعي والسياسي فإن للحرية بعداً آخر غاية في الأهمية ذلك هو البعد الذاتي في الحرية الذي إذا اتصف به إنسان قلنا له هذا إنسان حر. لأن السؤال المهم هنا ونحن نتحدث عن الأمم المستقلة الديمقراطية: هل حقاً نالت حريتها الحقيقية؟ هل يعيش أفرادها الحرية الذاتية؟ هل هم أحرار في أنفسهم؟ أي هل أن حريتهم كأمة ومجتمع تنقلهم وبشكل تلقائي إلى أحرار في أنفسهم؟
أم يمكننا القول أن مجال حرية الأمة غير مجال حرية الفرد فيمكن أن تكون الأمة حرة تعيش الديمقراطية كأجمل ما تكون لكن الفرد داخل هذه الأمة ليس بالضرورة حراً في نفسه، ليس بالضرورة أن تكون هذه الأمة كلها وعلى صعيد أفرادها أحراراً في أنفسهم فقد يكون بعضهم أحراراً وبعضهم غير أحرار وبالطبع يوجد في هذه الأمم التي نالت حريتها السياسية من يسرق ومن يتجاوز القانون والمحتالون على الأشخاص والمتلاعبون حتى بكرامة الإنسان ومن يستغل الحالة الديمقراطية استغلالاً سيئاً ولا يمتنع علينا أن نرى المكابرين للحق أينما كان وكيفما كان بل قد نجد من يحاول القضاء على الديمقراطية نفسها وإرجاع الناس إلى سابق عهدهم.
وما من أمة نالت استقلالها إلا ووجدنا التيار الذي ضربت مصالحه يحاول جاهدا العودة بالأمة إلى المرحلة التي كان فيها هو طليقا يفعل ما يشاء وأمته تعاني القهر والاستعباد فهل يمكن اعتبار هؤلاء الناهبين المحتالين ومن على شاكلتهم أحراراً في أنفسهم أم هم مستعبدون أشد الاستعباد استعبدتهم أهواؤهم وشهواتهم أو عصبياتهم القومية أو الحزبية أو الجهل أو المكابرة والعناد, وما أكثر ما يستعبد الإنسان فكم سمعنا عن أولئك الذين حكموا باسم الديمقراطية ما سمعنا من اختلاسهم للمال العام وقبولهم الرشاوى واستغلالهم مناصبهم في تحقيق مصالحهم الشخصية بل لو تمكن الكثير من مسئولي الدول رؤساء ومن دونهم لو تمكنوا لجمدوا الديمقراطية إلى حيث أوصلتهم إلي مقاعدهم, فهؤلاء وإن عاشوا الديمقراطية في مجتمعهم إلا أنهم عبيد في أنفسهم وهذه العبودية أسوأ أثراً على الإنسان من عبوديته لمجتمعه.
ذلك لأن الجانب الأكبر في الحرية هو حرية الإنسان في نفسه ولذلك فبالرغم من أن كل الناس يتوقون للحرية السياسية الاجتماعية إلا أن الذين يكافحون ويضحّون حتى بأنفسهم من أجلها هم عادة الأشخاص الأحرار في أنفسهم.
ولو أن الناس تحرروا على صعيد أنفسهم فإن حريتهم الاجتماعية السياسية ستكون نتيجة تلقائية طبيعية لأن النظام السياسي في حد ذاته انعكاس للمستوى المعرفي الذي تعيشه الأمة.
والحرية الحقيقية لدى الأفراد أرقى الدرجات المعرفية عند الإنسان لأنها تعتمد على العلم والمعرفة وقد قيل: “كما تكونون يولي عليكم” فإن كان الناس أحراراً في أنفسهم فإنهم لن يرضوا بنظام سياسي يسلبهم كرامتهم وحريتهم، وكذلك أيضا فإن الرجال الذين يتولون أمر شعب حر في نفسه هم أحرار أيضا, والأحرار لا يرضون أن يستعبدوا أحدا أو أن يستعبدهم أحد، لذلك فإن حرية أفراد الأمة في أنفسهم ضامنة بكل تأكيد حريتها السياسية والاجتماعية.
ومع أن هذه الحرية حرية الإنسان في نفسه لها الأولوية، ومع أن الحرية كما تقدم كانت محوراً خصباً شارك في موضوعها الكثير من العلوم والعلماء إلا أن هذا الجانب من الحرية على أهميته لم ينل حظّه من الاهتمام كالذي حظيت به الحرية السياسية من اهتمام الفلاسفة والمفكرين والساسة وغيرهم.
والإسلام بوصفه دين الحياة الموجه لها تلقاء وجهتها الصحيحة، لذلك فإن توجيهاته متكاملة، فهو في الوقت الذي يدعو لحرية الإنسان السياسية فإنه أيضا يدعو لتحرير الإنسان من أغلاله الذاتية والضغوط الخارجية ليغدو حراً في تصرفه من دون أن يكون فكره متأثراً بأي مؤثر يحرفه عن إصابة الحقيقة, وليكون حراً قادراً على قول الحق بعد معرفته، وأخيراً ليكون حراً في تنفيذ الحق الذي آمن به, وبتعبير آخر حرية الإنسان في ذاته وتفكيره وقوله وعمله بمعنى أن يحرر فكره من كل ما يحول بينه وبين إصابة الحقيقة، فهناك الكثير من العناصر والأسباب التي تحول بالفعل بين عقل الإنسان و الوصول إلى الحقيقة كعادات المجتمع ومسلماته الخاطئة وأهواء الشخص وتكبره وعناده وهكذا، فلابد أن يحرر فكره من كل ما يؤثر عليه سلباً لينتصر بعد ذلك للحق بقوله وعمله بعلم ويقين، إذن هذه مرحلة أولى ومهمة في مجال الحرية وهي المفتاح الحقيقي لمسارها ولابد من الابتداء بها.