الحرية دعامة لتكريم الإنسان، ولازِمتها أن يكون هذا الإنسان مختارًا، وخطاب الحرية خطاب عام ومطلق مؤكد في الكليات والمشتركات من الحقوق، لكنّ ممارسة الحرية نسبية؛ لأّن احتمالات تطبيقها تتسع باتساع الحالات وظروفها وملابساتها، لذلك تتراوح الحرية في زاوية الممارسة بين أن تكون مؤكّدة أو محتملة أو مستحيلة أحيانًا.
خطاب الحرية خطاب عاطفي تحريضي عام، مطلق وعريض؛ لأنّه ينتصر لحقّ أصيل لكل إنسان أما الممارسة فهي عقلية وواقعية نسبية وتفصيلية؛ لأنها تتعامل مع مواقف وظروف وحالات، ففي الممارسة نحن نذعن أو نرضى أو نوافق على قيود تحبس الحرية، تقيدها أو تطلقها بحساب عقلي يتلمحّ العواقب؛ لأنّ معطيات الواقع تساعدنا في الحساب.
اندفاعاتنا العاطفية وميلنا إلى الاختصار تجعلنا نرفض فكرة المساس بالحرية بحبس أو تقييد أو منع؛ لأنّه ليس لدينا معطيات واضحة ترشدنا لاتخاذ موقف عقلاني والناس أعداء ما جهلوا!
كلّ ما تقدم لا يبخس من حقّ الخطاب والتنظير، إذ أنّ التأسيس الثقافي للحقوق هو الأساس لمعرفتها والوعي بها، بقدر ما يناقش طبيعة الفرق بين لغة الخطاب وواقعية الممارسة، على أنّ هذا ليس خاصًا بالحرية فقط بل يشمل كل فروع المفاهيم والعلوم والنظريات، لكنّ المأمول هو أن ترشّد الممارسة لغة الخطاب فمن ذاق مشاكل الممارسة عرف حلولاً في التنظير.
الحرية والقانون
الحرية هي انطلاقة عفوية للروح والخيال والطاقات، بينما القانون هو قواعد عقلية لتقييد تلك الانطلاقة لا يطلب لذاته بل لغاية النظام.
تصوّروا لو أن شركة عمّمت على موظفيها أنّهم أحرار في إيقاف سياراتهم في مواقف السيارات البكر بالطريقة التي تعجبهم، ماذا سيكون عليه شكل السيارات؟ ثمّ قامت وخططت الأرض وعمّمت شروطًا وإرشادات لمن يريد إيقاف سيارته في موقف السيارات، فكيف تتصوّرون وضع السيارات الآن؟ طبيعي أن يكون شكل السيارات أجمل وأنظم، وسيتخلّص الجميع من مشكلة تعطيل أو إعاقة الحركة. فالنظام كان مصدراً للجمال الحاصل من التنسيق الجميل ومانعاً من الفوضى والتعدي (الجور).
ولنتخذ من المثال نموذجًا نقيس عليه مواقف الناس في الحياة، فلو كانت أمورهم تسير بعفوية مع إطلاق الخيال لحرية عمل ما يشتهون، فكم سيخلّف ذلك من فوضى وجور؟! نحن – كبشر- في التنظير نمتعض من القيد ولكنّنا في الممارسة ندرك أهميته وعدم الاستغناء عنه.
الحرية والمعرفة
في مواقع معينة من حياتنا لا نقبل أن نمنح سلطة اتخاذ القرار إلا لمن نثق في خبرته وكفاءته؛ لأنّنا ندرك أنّ الحرية لا تتوج إلا بعد مسيرة من الخبرة، سواء كنّا نتعامل مع أبنائنا أو نوّابنا أو ممثّلينا، أو حين نكون في مواقع التفويض الإداري ونحوها، فلا يستوي في ذلك الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
ففي التنظير ولغة الخطاب المطلقة والتجريدية لا نقبل أن يُحرم فرد من حرية الاختيار واتخاذ القرار، أما في الممارسة فتاج تلك الحرية لا يلبسه إلا من يقطع مسيرةً من التدريب والتعليم واكتساب الخبرة والمعرفة، فحرية كهذه ليست قفزة وإنّما مسيرة، ومن يقفز بغير تأهيل سواء بمحسوبية أو واسطة ليلبس ذلك التاج، فكأنَّه قفز إلى قاعدة هرم مقلوب متصورًا أنَّه بلغ القمة والغاية فلا يأمن أن ينهار به، أما من سار إلى موقع القرار بعد تأهيل وتعليم ومعرفة فهو كمن صعد هرماً مستوياً من قاعدته، فخطواته مبنية على جدارة ارتقاء درجات بعد درجات على منحدر هذا الهرم الصاعد.
فالمدرسة والمنزل وبيئات العمل هي المدارس الأولى التي تقدّم التربية والتعليم والتدريب لمن سيصعدون نحو شرف الحرية ومسئولية الاختيار. فإذا كنا حريصين على منح الحرية لأبنائنا أو لموظفينا وغيرهم علينا أن ننتهج أسلوباً يقرّبهم من تلك اللحظة التي يحصلون فيها على شرف الحرية ومسئولية الاختيار، فالأب والمسئول والمعلم والرئيس الذي يوفّر الأجوبة على المشاكل ويفكّر نيابة عمّن تحت سلطته يؤخّر من وقت منحهم الحرية. علينا أن نسلك منهجًا يجعلنا نقاوم إغراء تبرّعنا بالحلول، وتدريب من نرعاهم على إيجاد الحلول تحت توجيهنا لنقرّب عليهم مسافة وصولهم إلى الحرية، وكما يقول المثل “علمهم صيد السمكة بدلا أن تعطيهم السمكة”.
الحرية والرقابة
في التنظير لا نحبّ أن نسمح بالرقابة على حريتنا، لكن هل نعرف أنّ الرقابة التي تأتينا من خارج ذواتنا أسهل من رقابتنا الذاتية على قراراتنا؟ في الممارسة نودّ أحيانًا أن يرشدنا أحد إلى اتخاذ قرار ما منعًا أو سماحًا، يقول أحد رؤساء تحرير الصحف: “إنّ الناس ترانا نكتب ولكن لا ترانا ونحن نقف أثناء التحقيق أمام نيابة الخمور والمخدرات”، ويقول رئيس تحرير صحيفة أخرى: “أصعب شيء أن تُمنح الحرية وأن تنصّب من نفسك رقيبًا على ذاتك، إنَّ العمل سهل في الصحف المراقَبة، والتي تفرض الحكومة قبضتها عليها؛ لأنّك تلقي بكلّ المسئولية على أجهزة الرقابة. اسألوا الموظف حينما يريد أن يقرّر شيئًا ولكنّه يريد إذنًا من مديره، وكان يتوقّع إجابة بالنفي أو الإيجاب، بالنهي أو السماح، فيقول له ذلك المدير أنت قرّر!! كم من الإرباك ينتابه هاهنا، إذ أنّه أوكل إلى تحكيم ضميره وقيمه وتُرك في مواجهة مع ما يترتّب على قراره واختياره من مسئوليات”.
الحرية والمسئولية
في التنظير يأخذنا الكلام أكثر عن الحرية مع إيلاء قليل من الكلام عن المسئولية، فالمسئولية قرينة الحرية. وواضح أنّ الحرية إذا فقدت مسئوليتها تحوّلت إلى نقيضها، وينبغي أن يكون بين الحرية وبين المسئولية علاقة تكافؤ.
في المواقع الإدارية حيث السلطة أو الصلاحية التي تمثّل مساحة من حرية، عادة ما يكون هناك تعهّد أو التزام باستخدام تلك السلطة أو الصلاحية في أوجهها الصحيحة، مع ضرورة القبول بالمساءلة بل والاستجواب عن حالات توظيفها خارج الخط المرسوم لها.
عدم التكافؤ بين السلطة (حرية اتخاذ القرار/ الصلاحية /الأمر والنهي) وبين المسئولية قد يكون مصدرًا للفساد لو زادت مساحة السلطة عن مساحة المسئولية؛ لأنّ القدر الزائد من السلطة سوف يوظّف في مقاصد أخرى من إثراء واستيلاء ونحوه، أما لو كان العكس وزادت المسئولية عن مساحة الصلاحية فينتج عنها حالة من الظلم المعبّر عنه بكبش الفداء، وذلك عندما يكون من يمتلك السلطة في حِلٍّ من العقاب الذي يحلّ على من لا يمتلكها.
والسيناريو الأسوأ أن يكون لأحد سلطة من دون مسئولية؛ لأنّه سيجد نفسه في حالة من التيه، فالحرية في المستوى الإنساني لا بدّ أن تقترن بمسئولية، ووحدها الآلهة هي التي لا تسأل عمّا تفعل؛ لأنّ الخطأ منفي عنها، ومن ينظّر لحرية من دون مسئولية فهو يعمل بمقولات الأيديولوجية الجبرية.
عقود الإذعان
تتأسس العقود على إرادة طرفين، الطرف الموجب الذي يحرّر العقد ويعرض البضاعة أو الخدمة والطرف القابل الذي يطلب البضاعة أو الخدمة ثم يوافق على شروط عقد التزويد.
تسارع المعاملات في عالمنا فرض نمطية في كثير من العقود من أجل توفير الوقت، هذه النمطية كانت على حساب توازن الحقوق، فالطرف الموجب أصبح هو من ينفرد بوضع الشروط والأحكام فمن ضمن هذه الشروط والأحكام، “لا يحقّ للطرف القابل الاحتجاج على توقّف بعض الخدمات ولا المطالبة في التعويض ولا مقاضاة الطرف الموجب!. أمَّا الطرف القابل فلا يحقّ له مناقشة تلك الشروط والأحكام أو تعديلها بل عليه أن يقبلها جملة وتفصيلاً.
فدرجة إذعان الطرف القابل تزداد كلَّما كان مضطرًا للبضاعة أو الخدمة لا سيما لو كانت من لوازم حياته كالقروض وخدمة الهاتف والكهرباء، أو كان ملزمًا بها بحكم القانون كبعض فروع التأمين ونحوها، ويكون مضطرًا أكثر لو انحصرت البضاعة أو الخدمة لدى مجهز أو مزود واحد ولم تكن هناك خيارات أخرى. فأين هي حرية الإنسان المتمثلة في اختياره والدفاع عن حقه من الغبن والغش والبخس!
هذه واحدة من مجالات الممارسة للحرية التي تجعل التمتع ّ بها في ظل الاضطرار مستحيلاً، لذلك على المنظّرين للحقوق إن يطرقوا هذا الميدان ويدفعوا باتجاه سنّ تشريعات تؤسّس لجهات حقوقية ومهنية مستقلة، من أجل أن توفّر قدرًا من العدالة في معادلة النمطية وتوازن الحقوق عن طريق امتلاك تلك الجهات لسلطة مراجعة جميع العقود قبل تبنيها في التعامل.
وفي المجمل، فإنّه لا ينبغي أن يتخذ القانون مبرراً لتقييد الحرية، لأنّ القانون خادمها وميسّرها، وهو الموكل بوضع نظامٍ يرسم لها طريقًا وسطًا لا يجرفها إلى فوضى ولا يقودها إلى جور، وكذا فإنّ المعرفة والوعي فليست إلا مزوّدات شيّدت لتحرّض على منح الحرية إلى من يستحقها، والرقابة التي نطالب بها ليست دعوة إلى فرض الهيمنة الخارجية أو استحسانها لتضييق الطوق حول الحرية، بل لبيان أنّ الرقابة الذاتية هي الأصعب ولكنها الأسمى والأقدر على إبراز جمال الحرية وطعمها الألذ، والقول في المسئولية إنما هو دعوة للمحافظة على علاقة متكافئة بينها وبين الحرية لئلا تكون مصدرًا لظلم أو حافزًا لفساد، وأمّا فتح الجدل في موضوع عقود الإذعان فلكيلا تنتصر النمطية على حساب التوازن في الحقوق، وكما تقول الحكمة “بأنّ أكثر منطقة مظلمة هي التي تقع تحت الشمعة”، فنأمل أن تكون هذه الحالات العملية قد سلطت بعض الضوء على هذه المنطقة المظلمة.