لمْ يُخلقِ الإنسانُ لِيشهَقَ ويزفِرَ بلْ ليحيا الحياةَ بمعانيها وبحَملٍ حقيقيٍ لمسؤولياتِها، ومِنَ العبَثِ أنْ يُحاولَ أحدُنا أنْ يُقنعَ نفسَه بغيرِ ذلكَ أوْ يسمحَ للآخرِينَ بأن يفعلوا به ذلكَ فيُستغفلُ ويُسترقُّ، بلِ الواجبُ أنْ ننطلقَ بكلِّ ما حبتْنا به الحياةُ.
لِهذا، علينا أنْ نتساءلَ هل نحيا الحياةَ التي ينبغي؟ وهلْ لم يكنْ ولنْ يكونَ أفضلَ ممّا كان؟ بلْ هلْ بدأتِ الحياةُ لدينا؟
الحياةُ قوّةٌ، وبحثٌ دائمٌ عنْ مسؤوليةٍ، وتنفيذٌ جادّ لاستخلافِنا الإلهي، الحياةُ ليستْ ارتخاءً أو مساومةً، إنّها مفروضةٌ على الإنسانِ وليست اختيارًا، بهدفِ أنْ يعيشَها بما تحمِلُ الكلمةُ مِنْ معنى، فالحياةُ بطبيعتِها ليستْ ميسّرةً سهلةً، بلْ تتطلّبُ عملاً وتحمّلاً وفرحاً وحُزناً، ولو كانتْ سهلةً ميسّرةً لَما كانَ الصبرُ فيها أحدَ أبوابِ الجنةِ، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ وكذلك الآياتُ التي تحُثُّ على القَبولِ الإيجابي للتكليفِ الإلهيِ والانغماسِ في أسبابِ البناءِ المسبوقةِ بالتعلّمِ وبناءِ الخبراتِ.
إذنْ فالحياةُ عمليّةُ تفتُّحٍ وازدهارٍ، أيْ أخذٌ بحقٍّ وعَطاءٌ بحقٍّ، إذ الهدفُ أنْ تُستثمرَ الحياةُ في التفتّحِ بواسطةِ الأخذِ بالتَعلّمِ واكتسابِ المعارفِ الماديةِ، وتراكمِها بالخبراتِ العمليةِ، ليبدأَ بعدَها الازدهارُ أيْ البذلُ والعطاءُ عَبْرَ نقلِ هذه المعارفِ والخبراتِ إلى الآخرِينَ بالتعليمِ والتدريبِ، لتعُمَّ المعرفةُ والخبراتُ الجماعيةُ سيادةً للفائدةِ وتحقيقًا للمصلحةِ العامةِ، وما ينطبِقُ على العلومِ والمعارفِ الماديةِ ينطبِقُ على الجوانبِ الروحيةِ والمعنويةِ فهما وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ.
الأخذُ (التفتُحُ) والعطاءُ (الازدهارُ) عمليةٌ متوازنةٌ منَ الواجبِ ممارستُها بتناغمٍ معَ القوانينِ الطبيعيةِ حفظًا لها كشرطٍ أساسٍ ووسيلةٍ ناجعةٍ لتحقيقِ النتائجِ المرجوةِ وتجنّبِ سلبياتِ إساءةِ استخدامِها.
منْ هذه القوانين أنّ الإنسانَ مخلوقٌ متّزنُ لم يُخلقْ عبثًا، وأنَّ لكلِّ إنسان إطارًا مُفرَغًا مُعدًّا له سلفًا، وأنّه خُلقَ ليملأَ هذا الإطارَ في حدودِ النظامِ الثابتِ والذي يُعبَّر عنه بالهُويةِ، والتي منَ الواجبِ عليه أنْ يجدَها ويحدّدَ معالمَها عملاً بالحكمةِ الحاضرةِ في مقولةِ “لم أكنْ الذي حدّدَ ظروفَ وجودي، لكنْ سأكونُ الذي يُحدّدُ مَنْ أكون، وكيفَ أكون، وكيفَ أحيا، وكيفَ أموتُ”.
الحياةُ التي نعيشُها نداءاتٌ تتجدّدُ معَ بُزُوغِ كلِّ شمسٍ ومعَ كلِّ حدَثٍ وكلِّ خطْبٍ للناسِ كافةً، وبِحكمِ أنّ الجميعَ راشدٌ بما حُبِيَ منْ عقلٍ وقلبٍ، وبما اكتسبَ مِنْ ثقافةٍ وتجاربَ، وحُجِزَ له مكانٌ في هذا الوجودِ، فالجميعُ من دونِ استثناء معنيٌّ بالنداءاتِ، التي هي إشاراتُ الجِدِّ التي تلُوحُ من حولِنا، وكلُّ مَنْ يُنكرْ ذلك عليه أن يُعيدَ مراجعةَ نفسِه ويُعيدَ استكشافَ فطرتِه، ولْيبحثْ عنها في كتابِ اللهِ مستشعرًا دلالاتِه ومتفكّرًا في نداءاتِه. سيجدُ أنَّ آياتِ القرآنِ الكريمِ وتوجيهاتِه زاخرةٌ بالحثِّ على العملِ، والدعوةِ للتفكّرِ والتأمّلِ، والحثِّ على الصبرِ ومساعدةِ الآخَرِ، وعلى بِرِّ الوالدينِ والناسِ، وكثيرٍ غيرِها مما يساعدُنا على فهمِ رسائلِ الحياةِ التي تعرِضُ لنا كلَّ وقتٍ، وسلامةِ التصرّفِ أمامَ أصواتِ النفسِ البشريةِ منْ جهةٍ، ودعواتِ الكسلِ والعيشِ على هامشِ الحياةِ منْ جهةٍ أخرى.
لكلِّ نداءٍ مسارُه ومراحلُه التي نتفاعلُ معها، معَ الانتباهِ إلى أنْ يكونَ فعلُنا وردُّ فعلِنا متّسقًا معَ كلِّ مرحلةٍ، مستحضرًا أدواتِ الاستجابةِ الملائمةِ.
منَ المفيدِ بدايةً أنْ نُحدّدَ موقفَنا منَ النداءِ، فإنْ كانَ نداءً للإصلاحِ فالسؤالُ هلْ نحنُ معه أو ضدَّه؟ هلْ نحنُ معنيّونَ به؟ وهلْ نحنُ معنيّونَ بالتغييرِ باتجاهِ الخيرِ؟ ومنْ ثمَّ نجدّدُ موقعَنا منَ النداءِ بالانتقالِ منَ الأماني والكلامِ إلى بذْلِ الجُهدِ ومكابدةِ صعابِ الأمورِ، لوضعِ ما نعتقدُ به ونُؤمنُ به موضعَ التطبيقِ والعملِ، لنستكملَ تلبيةَ النداءِ بقياسهِ على ضوءِ زادِ التقوى، فهذا وقتُ العطاءِ بعملِ التغييرِ والتطويرِ وتصحيحِ المسارِ، وتأمينِ التقوى باستكشافِ دوافعِنا في النداءِ، صدقها وأمانتها أم ذات ذاتيةٍ خاصّةٍ مُشوِّشةٍ لا امتدادَ لها في الصالحِ العامِ.
فلتلبيةُ النداءِ، نداءِ إصلاحِ ما بينَنا، لا بدَّ مِنْ توفّرِ ثلاثةِ عناصرَ أساسية:
أوّلُها المبادرةُ: وعدمُ انتظارِ الحصولِ على الإذنِ أوْ إفساحِ الطريقِ، وعدمُ انتظارِ آخرَ بافتراضِ امتلاكِه أفضلَ ممّا أملكُ أنا منْ أفكار وأدواتٍ لأداءِ المهمةِ، فكلُّ فردٍ بما أُعطيَ مِنْ مواهبِ حَمْلِ الأمانةِ تترتّبُ عليه مسؤوليةُ أدائِها، والفكرةُ أمانةٌ لا يجبُ أنْ تكونَ حبيسةً، بلْ تحضُرُ لنتطلِقَ منْ أجلِ أنْ يجولَ فيها العقلُ ويُعمَلَ بها إنْ صلحتْ، وإنّ عدمَ البَوحِ بها إسرافٌ وتضييعٌ. كذلك فإنّ القدرةَ على أداءِ عملٍ مهْما كان صغيرًا أمانةٌ، وتهيئةُ المناخِ للآخرِ القادرِ أنْ يُساهمَ أمانةٌ أيضاً، والمبادرةُ بتوضيحِ وجهةِ نظرِنا للأخرِ أمانةٌ، انطلاقًا منْ محبةِ الآخرِ ورغبةً في التعاونِ معه، والتزامًا بمشاركةِ أدوارِ الحياةٍ معه، فالمبادراتُ وسيلةٌ لكسرِ الجليدِ وخلْقِ بيئةِ تعاونٍ بدلاً منْ أنْ يسودَ الغموضُ وسوءُ الفهمِ عند أطرافِ المجتمعِ، ومنْ دونِ مبادرةِ الدخولِ في الحدثِ لا يمكنُ إحداثُ تغييرٍ، فليسَ هناكَ مَن يستطيعُ أن يَحِلَّ مُعضلةً يرفُضُ أساسًا أن يُعاينَها أو يرى أينَ هو منها.
ثانيها التقوى: لنتقيَ بها فيما نُفكّرُ ونعملُ، حمايةً لوجهتِنا منْ الابتعادِ عن النقاءِ والصدقِ، إلى النفاقِ والمصالحِ الفرديةِ الضيقةِ، والتقوى المعنيةُ هنا ثقافةٌ نتزوّدُ بها وعلمٌ وخبرةٌ تُنمّينا وتحمينا وتصونُ عملَنا منَ الانحرافِ لغيرِ وجهتِه.
التقوى المنشودةُ تجعلُ المختلفينَ يثوبونَ إلى رشدِهم، وهي العتبةُ الاولى نحوَ الخِيارِ الصائبِ، أي نحوَ نظام نابضٍ بالحياةِ، فهي تُحرزُ أنْ يظلَّ الصلاحُ العامُ هو عنصرَ التركيزِ ومِحورَ الاهتمامِ، كي يُجنّبنا الخروجَ إلى البدائلِ المهلكةِ، هذا الخروجُ يتبدّى بأحدِ عناصر ثلاثةٍ عُرفت قرآنيّاً بـ: الرفثِ والفسوقِ والجدالِ، والتي زحفتْ إلى مواقعَ كثيرةٍ في الحياةِ وأفسدتَها، فالتقوى عنصرٌ حيوي لمتطلباتِ البشرِ الروحيةِ، وجرعةٌ محفّزةً لقَبولِ الإصلاحِ، ودعامةٌ لتحفيزِ المشاعرِ نحوَ غايتِها المنشودةِ.