أطلق الفقه على الارتباط الشرعي بين الرجل والمرأة عقدًا، وذلك لما عرّف العقود بأنَّها اتفاق بين طرفين كالبيع، تمييزًا لها عن الإيقاعات التي يجريها طرف واحد فقط كالهبة، ولكنَّ هذه الشكلية القانونية خالفت تسمية القرآن حيث سماه ميثاقا ونعته بالغليظ: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)(النساء:21)، وهذا النعت يبين ضرورة الوفاء به، إذ المواثيق في القرآن عهود عظيمة الحرمة، فهناك ميثاقان نعتهما الله بالغلظة، ميثاقه مع بني إسرائيل في قوله سبحانه: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء: 154)، فلمّا خالفوا الميثاق الغليظ مسخهم قردة وخنازير، والثانية في ميثاقه مع الأنبياء عليهم السلام: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب: 7)، وليس ثمة من هو أوفى بالميثاق منهم عليهم السلام. ولبيان الفرق بين العقد والميثاق في القرآن من حيث الأهمية فلا نجد في القرآن آية تتحدث عن العقود على نحو قانوني مباشر إلا آية منفردة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، ولا يعني هذا أن الوفاء بالعقود أمر غير ذي بال، كيف وقد جعله الله من لوازم الإيمان، ولكنَّه بلا شكّ أقل من حيث الأهمية والخطورة على الدين والإيمان من نقض المواثيق المغلظة.
إنَّ أول تبعات ترك التسمية القرآنية إلى التسمية القانونية إنزال رابط الزواج من درجته الرفيعة والخطيرة إلى درجة العقود كالبيوع، مما لوَّثه بشروطها وخياراتها، فمادام عقدًا إذًا فلتجر عليه طبائع العقود كالتفحص الحسي من النظر إلى الجسم والشعر والوجه والساقين والمشية، كأنَّها بضاعة يراد شراؤها، ثمَّ المساومة في المهر كما المساومة في أثمان البضائع، ثمَّ في الخيارات كخيار العيب فيما لو وجدها على غير ما قال أهلها، كأن تكون ثيبًا بعدما قيل إنَّها بكر، أو بشعر مستعار، إلى غير ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه، ثمَّ لحقه ما يلحق العقود في حال الفسخ، من تفاوض ومساومة على المبالغ المسترجعة، ومقدار فقد القيمة بالاستخدام، إلى ما هنالك من رذائل أخلاق السوق وخصوماتهم وتناسيهم الفضل بينهم.
ولكن وصفه بالميثاق، ونعته بالغليظ، يقتضي تعاملا آخر غير التعامل الذي درج عليه الفقه، كما يقتضي إعادة ترتيب الأولويات فيه.
فأول الأولويات: تشديد الحرص على تطبيق مبررات الاختيار الصحيحة عند الخاطب في المخطوبة، فليس عبثًا أن يقول النبي (ص): “إياكم وخضراء الدمن، قيل: وماذا يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ذلك أنَّه إن اختارها لمجرد جمالها فسيضطره الميثاق الغليظ لتحمل تبعات الاختيار ولن يكون من السهل عليه التخلص من تبعاته بمجرد أن يقول أنتِ طالق، فأنتِ طالق لا تصلح أداة للتعامل مع المواثيق المغلظة، لأنَّها طريقة مشبعة بالاستخفاف، فمن هنا ينبغي أن يكون هناك وعي عام ومحترم يجعل البحث عن الزوجة المناسبة أمرًا له ما بعده، فيبحث عن التي خصالها منسجمة مع خصاله، وكرائم عائلتها متفقه مع كرائم عائلته، من حيث القيم والأخلاق والثقافة، فكلما علم الناس وتعلموا أنَّ الزواج ميثاق غليظ، وأنَّه لن يكون من الهين التخلص من تبعاته، سيكون اختيارهم للزواج المدبر المدروس أكثر من الاختيار العشوائي أو المزاجي العابر.
وثانيها: أن يعلم الخاطب أنَّه لن يكون له إنهاء الميثاق بمجرد دعوى الكراهية، بل سيكون مطالبًا بالصبر حتى مع الكراهية، وأن يتوقع أوجه الخير التي قد تكون موجودة في هذا الشيء الذي كرهه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، فيلزم بالصبر انتظارًا لانكشاف أوجه الخير الكثير المحتملة، والتي قد يكون في غيبوبة عنها بسبب حالته النفسية، وينبغي على الأهل والمجتمع و القاضي أن يرقبوا معه بالصبر ثمرات عسى المحتملة، توقيرًا لكلام الله وانسجامًا مع كونها قد أخذت منه ميثاقًا غليظًا، بحيث يتحول هذا التصبر إلى ثقافة عامة، ليصبح عادة مجتمعية يُعيّر تاركها، خصوصًا أن موقف الكره غالبًا ما يكون في أوّل بدء العلاقة، ففي أولها قد تحدث نفرة نفسية ابتداءً فيظن الزوج والزوجة أيضًا أنَّه لا مجال للعيش معا كزوجين فيبادران للطلاق والانفصال قبل أن يبتلوا بالأولاد، ولكنَّ العقل سيجد حتمًا مواقف هي أكثر حكمة من الطلاق الفوري أو الإنجاب، لو فكر المجتمع تفكيرًا أكثر حكمة.
هاتان مثالان على ما ينبغي إعادة ترتيبه في أولويات الزواج وغيرهما يقاس عليهما، حتى يصبح ثقافة عامة. وأمَّا ما يقع تحت تغيير الموقف الفقهي
فأوّله: أن يقف القاضي في حال الخصومة في صف الزوجة لأنَّها هي من أخذ الميثاق الغليظ، والزوج مأخوذ منه، فيجعل ميله في عدالته نحوها حتى يتبين له العكس وأنَّها هي الظالمة، لا أن يجعلهما على نحو سواء كما في بقية القضايا. فالموقف هنا تقتضي موازين العدالة فيه الميل نحو مظلومية الزوجة وجعله الاحتمال الأوّل، تمشيًا مع كونها آخذة الميثاق الغليظ منه، حتى إذا تبين له العكس، ساوى ميزانه بينهما إلى التعادل، بمعنى أن يجعل الأصل عنده أنَّها هي صاحبة الحق، وأنَّه هو المانع عنها حقَّها إلا أن يتبين العكس. وهذا يقتضي منه قبول قولها مبدئيا بلا بينة وعدم قبول نقض زوجها إلا بالبينة والدليل، إلا أن يرى تهافتًا في أقوالها يلزم منه عدم موضوعيتها، فالزوج هو الملزم بالدليل والبينة لإثبات عكس مدّعى زوجته، بينما الأمر في الزوجة الاكتفاء بمحاكمة مدى الموضوعية في أقوالها.
وثاني الأمور: وجوب التعامل مع الزوجة بالمودة والرحمة تلك التي جعلها الله بين الأزواج، فيكون التقصير في هذه المودة وهذه الرحمة مستحقًا للمحاسبة والمؤاخذة، وأولى من مجرد اشتراط توفير النفقة والمسكن والعلاج؛ الأمور التي يعتني بها الفقه كثيرًا في العلاقات الزوجية، بينما لا يملك معايير لقياس فيما إذا كان يوادها ويرحمها ويوقرها ويحترم مشاعرها ويبتعد عن إهانتها، فما هي قيمة الثوب الجديد إذا أتبعته بالمنّ والأذى؟ إن كتب الفقه لا تضع معايير لقياس مثل هذه الأمور المهمة بل تكتفي بالماديات من النفقة وغيرها، وهذه من آثار اعتبار العلاقة عقدًا لا ميثاقًا غليظًا.
وثالث هذه الأمور: إدخال شَرطي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان شرطين حاكمين في هذا الارتباط، بمعنى إمّا أن يكون الإمساك إمساكا بمعروف – وهو أدنى ما يمكن قبوله لاستمرار الميثاق – أو إنَّه يذهب للتسريح ولكن بإحسان.
الإمساك بالمعروف هو الدرجة الأدنى من بعد وجوب المودة والرحمة، فإن لم تكن درجة المعاملة مسبوغة بالمودة والرحمة فلا أقل من التعامل بالمعروف، وهو المقدار الذي يعده ذلك المجتمع ناهضًا بالزوجية المقبولة.
الإمساك بالمعروف يدين مواقف الإهانة والتضييق والشك والاتهام والبخل والتعيير وأخواتها، ويدين منع الحقوق ومنع المنفعة ومنع التطور العلمي والوظيفي، ويمنع الذكر السيئ عند الناس وكشف الأسرار وغير ذلك، بحيث تكون هذه الأمور داخلة في محاسبة الزوج قانونيًا ويعتبر بها زوجًا مسيئًا.
وأمّا التسريح بإحسان فيمنع العضل مطلقًا، ويمنع التحكم، كمثل طلب ما هو أكثر مما أنفقه على مهرها، أو طلب التنازل منها عن حقوق تخصها قبل الزواج من مال أو أرض أو عقار، أو حقوق تخصها تجاه الأبناء فيشترط عليها التنازل عن الحضانة أو تواصل الأبناء، بل الإحسان يوجب أن يتخلى عن حقّه عندها إكرامًا لما أفضى به بعضهم إلى بعض خلال سني العشرة، بل على القاضي أن يأمره بالتنازل عن هذه الحقوق إذا وجد أنَّه يستخدمها للتعسف، أو أن الطرف الآخر عاجز بواقع حاله عن أدائها، بل يفرض عليه التنازل بموجب اعتبار التسريح بإحسان شرطًا حاكمًا في ميثاق النكاح.
ربما يظن البعض أن هذا ميل لصالح المرأة على حساب الرجل، وأنَّه إخلال بموازين العدالة، كلا بل هو موازنة لما أعطي للرجل من صلاحيات تجعله قادرًا على الاستبداد بدون هذه الكيفية التي بيناها، فهو الخاطب، والخاطب بيده الاختيار الأوسع بينما المخطوب لا يملك إلا فرصة محدودة، والقيمومة في الأسرة بيده، والطلاق بيده دون أن يحتاج للترافع للقاضي كما هو الحال بالنسبة للمرأة، والنفقة بيده وهذا يمكنه من التحكم في مستوى المعيشة إن كان مالكًا، أو يجعلها مشاركة له فقره إن كان معدمًا، وحقّ التربية يؤول إليه بعد انتهاء حضانتها، هذا على ما هو عليه من قوة الطبيعة وما هي عليه من الضعف والرقة، وقد أوصانا النبي (ص) بالرفق بالضعيف ومنهم المرأة، فمن هنا لا بدَّ من موازنة كلّ هذه الحقوق بواجبات ثقيلة تقمعها وتمنعه من سوء استغلالها.
ثم الأمر كما ترى ليس خارجًا عن النص الشرعي الذي ضيعه الفقه، ولم يوفهِ حقه القانوني، ورماه في زاوية الأمور الإرشادية التي ليس على من خالفها حرج في القانون ولا عقوبة، فكلما يتطلبه الأمر هو اعتبار النص: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229) أمرًا مولويًا لا إرشاديًا، فمن خالف طرفًا منها فهو مستحق للعقوبة الدنيوية والأخروية لا الأخروية فقط، كما يتطلب إنزال مقتضى التسمية للرابط بالميثاق الغليظ بما يناسب مقتضاه لا تركه على جنب.
ولعمرك هذا التطرف لصالح الرجال هو ما أسهم في فساد من فسد منهم، وسهل عليهم عملية البغي والتلاعب بحقوق أزواجهم، فيجلس الرجل في مجلس لهوه ويقسم بالطلاق، أو يرى أخرى تعجبه فيتزوج ويطلق، وكأنَّ الأمر عبث والمشرع غير حكيم وبلا حكومة، مما شوَّه الشريعة وأظهرها منحازة للرجال دون النساء.