للإعلام بصفة عامة، والصحافة بصفة خاصة سلطة وسطوة قلّ ما تتوفّر لغيرها من السلطات (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، لذا سُمّيت الصحافة من دون بقية وسائل الإعلام الأخرى “السلطة الرابعة” بعد السلطات الثلاث آنفة الذكر، لما يُتوخّى منها من دور رقابي (غير رسمي) على أداء الحكومة والسلطات الأخرى (عدا عن السلطة القضائية)، ولما لها من قوّة تأثير وسعة انتشار في أوساط شريحة كبيرة من فئات المجتمع وبالأخص المتعلّمة منها والمثقّفة.
والصحافي – بالدرجة الأولى – باحث عن الحقيقة ومن ثمّ فهو مبعوث الحقيقة ورسولها إلى الناس، وهنا تكمن أهمية عمله وخطورة دوره، فهو إمّا أن يكون أمينا على رسالته، خادماً للحقيقة، متبرّأ من انتماءاته وولاءاته حين إيصالها للناس أو خائناً لمبادئه ولأمّته. فالإعلامي إذاً وبالأخص ناقل الخبر – يتطلّب منه أن يكون بمثابة (الشاهد والشهيد) على الحدث، وهو بهذا يتمثّل دور حاملي رسالة السماء وقد يصل بذلك إلى مرتبة رسول الأمة (ص) المخاطب بقوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)، المهمة التي أبكت رسول الله (ص) وجَلاً من ثقل مسئوليتها.
فالصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة أو هواية كما يعتبرها بعض خريّجي الثانوية العامة المنتدَبين لنقل الأخبار، غير المؤهّلين لنقلها بموضوعية ودقة وأمانة، والمتحمّسين للانقضاض على السبق الصحفي الذي يجلب لهم مزيداً من الشهرة على حساب تحرّي الحقيقة والإخلاص لها.
المشكلة ليست في الصحفي حديث العهد بعمله وإنما في طريقة تأهيل هؤلاء المبتدئين لأداء هذا الواجب الحسّاس، وهي مشكلة تتكّرر في مجالات الحياة التي توحي بأن لا حاجة للتدريب عليها، فكما أنّ الشاب والشابة – على سبيل المثال – يقدمون على الزواج دون أن يؤَهّلوا لذلك للاعتقاد الخاطئ بأنهم مزوّدون بالفطرة بمهارات توطيد العلاقات الزوجية، فكذا يُنظر إلى بعض الأدوار الصحافية فيُظن أنّ “الميدان” خيرُ مجالٍ لأيّ “حميدان” أن يتعلّمها دون الحاجة لأن يُزوّدوا بأخلاقيات المهنة قبل مباشرة العمل؛ من قبيل تغليب الجانب الإنساني على الجانب المهني إذا تضاربا، والانتصار لقيمه على حساب المكسب المادي، وغير ذلك.
تستحضرني هنا قصة إحدى الصحافيات السعوديات التي ذهبت لتغطّي خبراً في منطقة محظورة بسبب كونها امرأة وبسبب ظروف الحادث فاضطرت أن تحتال على رجال الأمن ليسمحوا لها بالدخول ولكنها بمجرّد أن التقت بالشخصيات التي تكبّدت هذا العناء لأجل الالتقاء بهم أخبرتهم بأنها صحفية واستأذنتهم في إجراء اللقاءات المطلوبة معهم وقد عبّرت عن فعلها ذلك بقولها: “لا يمكن أن أخدع الشخص الذي أريد أن أخدمه، ولا يمكن أن أستغلّه كذباً فمرحلة الكذب المحمود انتهت أمام البوابة” (!)، هذا المستوى من الدقّة في التفريق بين المفاهيم هو المطلوب لتأهيل الصحافيين وتدريبهم عليه بحيث تضمن الصحافة للقرّاء سلامة الخبر المنقول، وتكسب ثقتهم، وتزيد من مصداقيتها.
حالنا مع وسائل الإعلام يُرثى له، فنحن من جهة متأخرون عن مواكبة الدول المتقدّمة في ديمقراطيتها وشفافيتها ومهنيّتها في تقصّي الحقائق ونقل الأخبار بموضوعية وصدق، وإذا حاولنا مواكبتها اليوم فسوف نجلبها مع علاّتها وتشوهّاتها فنظنّ أننا نعيش الديمقراطية الحقّة بينما يمارَس علينا أساليب غسيل الأدمغة في أجواء الديمقراطية فنُخدع دون أن نعلم ونوافق على ما لا يتّفق مع قيمنا ومبادئنا دون أن نشعر، ومن جهة أخرى نحن متنكّرون لقيمنا التي تحتّم علينا توخّي الصدق والأمانة في نقل الخبر، والتريّث والتبيّن قبل تصديق أي خبر أو نشره، فخسرنا محاسن الديمقراطية، وتنكبّنا عن صراطنا السوي المأمورين بالعمل به.
ولو تعامل الصحافيون مع (مهمّتهم) وليس (مهنتهم) تعامل الرسول (بمعنى حامل الرسالة) مع رسالته من أمانة، وصدق، وتفانٍ، وإخلاص، في إيصالها كما هي فلا يتصرّف بمحتوياتها، ويحافظ عليها فلا يسمح لأحد أن يسرقها منه، ويوصلها إلى الجهة المعنية دون تلكّؤ أو خوف، لربما ساهموا كثيراً في الارتقاء بمستوى وعي الأمة، ولعاشت بسبب احترامهم للحقيقة – حتماً – سلاماً ووفاقاً يكاد يكون مفقوداً اليوم بسبب تحوّل الصحافة عن دورها الرقابي الإصلاحي إلى ساحة معارك أيديولوجية، أو حروب كلامية، أو أقلام مأجورة لصالح عدوّ داخلي أو خارجي – بعلم أو بغير علم – أو دعاية وتملّق ولحس أحذية هذا المتنفّذ أو ذاك.
في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي الثاني للمجلس الوطني نوّه الملك بضرورة وجود “قانون مستنير يكفل حرية الصحافة وإيصال الكلمة النزيهة المسئولة التي نعتبرها ضمانة الديمقراطية ونعتبر أقلامها الحرة شركاءنا في البناء”، فأتحفنا الكثير من الصحافيين بكلمات الإشادة والشكر والتقدير والامتنان، ونسوا مطالبة رؤساء تحرير الصحف اليومية بالخطوات العملية التي يجب أن تتبع أمثال هذه التصريحات من أعلى رأس في القيادة من قبيل فسح المجال (للكلمات النزيهة المسئولة) أن تعبّر عن نفسها، وإعادة النظر في جميع الخطوط الحمراء – المكتوبة وغير المكتوبة – لتتحقق فعلاً (شراكة أصحاب الأقلام الحرّة في بناء الوطن)، وهذا هو ما ينفع الناس أما عبارات المجاملة فما هي إلا زبد وسيذهب جفاء.
استجابات