هل القرآن يدعو إلى التجديد؟
أحد الأسئلة المفتوحة التي قد لا تجد لها إجابة مباشرة في آية محدّدة من آيات القرآن الكريم، وربما لهذا السبب فإن أكثر ما كُتب كان عن التجديد في الإسلام وما يتفرّع عنه من “التجديد في الخطاب الديني”، و”التجديد في الفقه الإسلامي”، و”المجدّدون في الإسلام”، وخصائصهم، وما واجهتهم من تحدّيات، وما إلى ذلك من مباحث قيّمة ولكنها أغفلت الإجابة على سؤال: “هل القرآن يدعو إلى التجديد“؟
ثمّة خشية تنتاب أكثر المفكرين والمنظرين الإسلاميين قبل الخوض في أي مفهوم جديد ذي علاقة بالإسلام دون الاستناد إلى شاهد قرآني، أو الاعتماد على مأثور نبوي شريف، يعاضد رأيهم، ويستقووا به على منتقديهم والمتربّصين بهم، ليكونوا في مأمن من الاتهام بأنهم طرف في المؤامرة المحاكة ضد الإسلام باسم التجديد أو التنوير أو الحداثة وغيرها، أو يتحصّنوا به خوفاً من تهم التكفير والرِّدة والتخوين التي أُطلقت على الكثير من المفكّرين المجدّدين، لذلك لا تكاد تقرأ موضوعاً أو بحثاً أو مؤلَّفاً عن التجديد في الدين إلاّ وفيه ذكرٌ للحديث اليتيم المأثور عن رسول الله (ص): “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها” كجواز عبور، وتصريح مرور للأفكار التي سيسوقها الكاتب في بحثه من بعد، مع أن الدعوة لكل ما هو أحسن مفتوحة في القرآن تحث الإنسان فضلا عن المسلم للبحث عنها والعمل بها..
لم ترد كلمة “تجديد” في القرآن الكريم، ولكن تكرّر لفظ “جديد” ثماني مرات، وجميعها ارتبطت بـ(الخلق): “أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ” (قّ:15) “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ”، “أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ” (الرعد: من الآية5).
ومع ذلك إلا أنه يمكن القول أن روح القرآن كلّه تدعو إلى التجديد، فالدعوة إلى عمل ما قد تأخذ صوراً وأشكالاً متعدّدة، باستخدام المفهوم ذاته صراحة، أو بمرادفاته، أو بتطبيقاته العملية على أرض الواقع، أو بذم مقلوبه، وقد ذمّ القرآن الجمود، والتقليد الأعمى، و محاكاة الأمم السالفة “قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ” (الأعراف: من الآية138)، وجدّد عملياً في الكثير من العادات الرذيلة والعقائد الفاسدة، وأحيا ما درس من السنن الاجتماعية الطيبة.
التجديد حصاد مزارع الأنبياء ..
“يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ”
التجديد حصاد مزارع الأنبياء، كلما أسنت الحياة بعث الله رسولا يبين الصواب لتجديد الحياة، فكان كلّ نبي ورسول مكمّلاً ومجدّداً لشرائع من سبقه من الأنبياء والرسل، إلى أن بُعث النبي محمد (ص) ليضع أسس الرسالة الخاتمة، ويقوّم الاعوجاج الذي نال من تعاليم من جاء قبله من الأنبياء (ع)، ويجدّد الأحكام التي بُليت أو المنتهية صلاحيتها، ويُقرّ ما سلم منها من التشويه والتحريف، فكان الكتاب الذي أُنزل إليه (مصدقاً) لما بين يديه من الكتب في الوصايا الأخلاقية والثوابت القيمية التي لا يخلقها الزمان ولا يختلف عليها العقلاء كالوصايا العشر، و(مهيمناً) عليها في العلوم والمعارف وفيما يُستجد من قضايا وأحكام، فجاء محمد (ص) مجدداً لمن قبله من الرسل كآخر حلقة من سلسلة متّصلة تربط رسالات دين الله الواحد ببعضها، وبُعث (ص) بكتاب خالد دُوّنت فيه تراكم خبرات الأنبياء والرسل (ع) مع أقوامهم مذ آدم (ع) إلى محمد الخاتم (ص).
قبل أن نأتي على تفصيل مجالات (صور) التجديد في القرآن الكريم، لابد من الإشارة إلى أن مصطلح التجديد موضوع بحثنا نعني به (الجِدّة) في مقابل (الخَلِق). جاء في معنى (جدّ) عند الراغب الاصفهاني أنه (قطع الأرض المستوية)، وفي المقاييس: جادة الطريق أي سواؤه وكأنه قُطع عن غيره، و(جُدّ) هو البئر حيث تُقطع الأرض، و(قطع) هي نفسها (cut) باللغة الإنجليزية، وهي تومئ إلى (الحزم والعزيمة والصرامة) الملازمة للجِد في العمل والسير.
التجديد يحتاج إلى (جدّ) يقطع (المجدّد) عن حالته السابقة ويسلك به طريقاً (جديداً) واضحاً مستوياً، وإنه تجديد لما (خلُق) أو (بلى) من الأفكار نتيجة جمود أو تعصّب، أو تجديد فهم وتفسير ما لم يعد صالحاً منها بسبب تغيّر الظروف.. تجديد يبدو وكأنه يقطعه عما سلف فيظهره في حلّة جديدة مختلفة، مع احتفاظه في جوهره بمكوناته الأصيلة الثابتة.
ذمّ تقليد واتّباع عقيدة الآباء الفاسدة .. دعوة للتجديد
لقد شاء البارئ جلّ وعلا لهذه الرسالة الخاتمة أن تحمل بين دفّتي (كتابها) سرّ بقائها وتجدّدها واستمراريتها ودوامها، لذا فدعوة القرآن للتجديد نجدها بصراحة حين يدعو المرسل إليهم، لمناقشة العقائد السالفة، ونبذ عقيدة الآباء الفاسدة ويستنكر عليهم الجمود عليها، ويثبت فسادها “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ” (التوبة: من الآية23)، ويسفّهها في أكثر من موقع كقوله تعالى “… أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ” (البقرة: من الآية170)، “قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ” (لقمان: من الآية21)، وحين يعدّ الإطاعة والإتباع الأعمى في مرتبة الشرك بالله: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ” (التوبة: من الآية31)، وعندما يحرّض على الاستجابة لدعوة الأنبياء المصلحين المجدّدين “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ” (الأنفال: من الآية24) ويقرّر أن حياتهم فيها، فأعظم أدوات التجديد وأهمها وأولها وجذرها هو تحرير العقل من أصنام الفكر وحث الإنسان على التفكير الحر المتوازن بعيدا عن كل ضغط خارجي أو ذاتي، وهذه من أعظم القضايا التي حرص عليها الدين فلم يقبل إلا الإتباع المختار الواعي عن قصد ونية بل ولم يقبل عملا من الإنسان إلا عن وعي وقصد ونية منبعثة من الذات لا بالتبعية، وحمّل الإنسان تبعية عمله والمسؤولية عنه رافضا التعلل والتبرير بقول إنما كنا تبعا، وليت شعري فهذه عكرة التجديد.
نسخ الأحكام .. تطبيق عملي للتجديد في القرآن
أوضح صور التجديد في القرآن نراها في تبدّل الأحكام استجابة لتغيّر الظرف، فعندما ينسخ القرآن أحكاماً من الشرائع السابقة بأحكام من الشريعة الجديدة فهذا تطبيق عملي للتجديد، لأن الشرائع وضعت لتنظّم الحياة المدنية والاجتماعية ولتكون مواكبة للتغيرات الطبيعية التي تطرأ عليها، فتأبيد حكم جاء تأديباً لقوم ما، أو تعميم حكم فُرض ليعالج مشكلة خاصة لفئة معينة، ليس من الحكمة، كبعض الأحكام التي فُرضت على اليهود وكانت نتيجة لتعنّتهم كما في قوله تعالى: “فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً” (النساء:160)، فجاءت أحكام النبي عيسى (ع) لتخفّف عنهم بعض الشيء: “وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ” (آل عمران: من الآية50)، ثم جاءت شريعة النبي محمد (ص) لتضع عنهم إصرهم “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (لأعراف:157)، لذا فالقرآن يقول أن بعض الأحكام التي نُسخت (أي مُحيت) استُبدلت بأحسن منها والتي أنسئت (أي أُجّلت) جيء بمثلها ولكن بما يتناسب مع ظرفها.
جاءت أحكام الشريعة الخاتمة لتصحح أوضاعاً خاطئة وتعيد الناس إلى جادّة الصواب، وتطوّرت مع تطوّر المجتمع الذي أُرسلت له، فتدرّجت، وتنوّعت، وتبدّلت بحسب الحاجة والمرحلة، أي أنها لم تكن أحكاماً جامدة، بل أتت (محكمة) على ظرفها، وهذا هو منهج القرآن في الدعوة إلى التجديد، فبُعث محمد (ص) بالرسالة الخاتمة ليدعو الجميع بترك الجمود على شرائعهم القديمة واعتناق شريعته (ص) لأنها جاءت ميسَّرة ومنسجمة مع حاجاتهم، وقد جمعت إلى جانب فضائل شرائعهم مزايا وفضائل أخرى، فكان التجديد الذي جاء به القرآن بمثابة حصاد ثمار مزارع الأنبياء (ع).
أما على صعيد القرآن فإن الأحكام لا تتناسخ فيما بينها كما ذهب القائلون بالنسخ حتى نسخوا أكثر القرآن، بل تتنوع بحسب تنوع الظروف ومناسبة الحكم له، فعلى سبيل المثال يرى بعض المفسّرين أن آية 66 نسخت آية 65 من سورة الأنفال: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (لأنفال:65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” (لأنفال:66)، والواقع أن حكم الآيتين باقٍ وكل يعمل في الظروف المناسبة له، ففي زمن القوة والقدرة لابد من العمل بناء على الحكم الأول، عشرون في مقابل مائتين – أي لا يحق لهم الفرار من الزحف – إذا كان العدو عشرة أضعافهم لأنهم أقوياء وقادرون على إلحاق الهزيمة به، ولكن سُمح لهم في وقت الضعف أن يستمروا في القتال إذا كان عدد عدوهم ضعف عددهم فقط (هذه المعادلة تتحدث عن القتال الجماعي وليس الفردي بمعنى أن فرداً واحداً لا يمكن له أن يصمد أمام عشرين مقاتل ولكن أدنى عدد لهم هو العشرون فإذا كان عشرون صابرين يمكنهم أن يقاتلوا مائتين وبهذه النسبة مهما تزايد العدد) إذا هما حكمان أحدهم لزمن القوة والآخر لحين الضعف، وبناء على تقييم الواقع يتم اختيار الحكم المناسب لمستوى الصمود والاستمرار في القتال.
وكذا هناك من يقول أن حكم جلد الزانية (المتأخر) نسخ حكم الحبس في البيت حتى تموت (المتقدّم)، ولكن بالنظر إلى الحكمة التي عالج فيها القرآن الكريم المفاسد الاجتماعية آنذاك، فإننا نستنتج من هذين الحكمين المختلفين كعقوبة لذنب واحد هو اختلاف الظروف، ومناسبة أي الحكمين للواقع المعاش، فإذا كان المجتمع اعتاد ارتكاب الفاحشة، بل ربما كان جزء من الناتج القومي للدولة (يُذكر أن في الهند وحدها يوجد خمسة عشر مليون بائعة هوى بحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان!)، فمن الصعوبة بمكان البدء بتطبيق عقوبة الجلد دفعة واحدة، فالحكم الأنسب لهذه الحالة هو البدء بحبس بائعات الهوى ومنعهن من ارتكاب الفاحشة وإشغالهن بأعمال تدر عليهن دخلا، وتربيتهن وتزكيتهن ومنع كل سبل العودة لطريق الفاحشة فإذا استقرت الأمور ومُنعت أسباب ارتكاب الخطيئة يبدأ تطبيق الحكم الثاني لأن أسباب ارتكاب الفاحشة انتفت وليس هناك من عذر للعودة إليها.
فتغيّر الأحكام بتغيّر الأزمنة والظروف عمل به النبيّ محمد (ص) والخلفاء الراشدون من بعده بحكمة ودراية بمتطلبات الظرف الراهن، فعلى سبيل المثال عطّل عمر حدّ السرقة في عام الرمادة حين جفّت الأرض وأصبحت كالرماد ومات الناس جوعاً، كما أنه عطّله عندما سرق رعاة حاطب بن أبي بلتعة ناقة من قطيعه وذبحوها وأكلوها، فلما سألهم عن ذلك قالوا: “يستعملنا ويأكلنا” (أي يستخدمنا ولا يدفع أجرنا)، فقال له عمر: “أما والله لولا أعلم أنك تجوعهم لقطعت أيديهم، ولئن سرقوا مرة أخرى لأقطعن يدك”، فالشريعة لم تأتِ لقطع رقاب الناس بل لحمايتهم وإعطاء كل ذي حق حقّه، فإن لم تفعل فلابد من إعادة النظر في فهمنا وتفسيرنا لأحكامها.
الدعوة إلى تغيير نمط حياة المسلمين .. تجديد
القرآن يدعو إلى التجديد حين يخاطب من أُرسل لهم في تفاصيل حياتهم، في مأكلهم، وملبسهم، وسكناهم، وعاداتهم، وسلوكياتهم، ليتأطّر الدين الجديد بإطاره الخاص به ويتميّز عمّا سواه، فحين يأمر نبيه (ص) “وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ” (المدثر:4) في مجتمع اعتاد كبراؤه على الخُيلاء بلبس الملابس الطويلة، فهي دعوة لنبذ القديم السيئ وتبنّي الجديد، وحين يأمر من اعتادوا على رفع أصواتهم في خطابهم مع رسول الله بـ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ” (الحجرات: من الآية2)، وهذه السورة بمجملها تعيد تنظيم العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم الفتي، في علاقتها مع قيادتها المتمثلة في شخص رسول الله (ص) وفي علاقة الأخوة الإيمانية فيما بينها، لترسم أسلوباً (جديداً) في التعامل الإنساني بينهم، وحين يهذّب عادة دخول البيوت من غير أبوابها بأن “أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا” (البقرة: من الآية189)، وحين يحرّم عليهم أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه “وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ” (الأنعام: من الآية121) وحين يتدخل ليخلّص الناس من الأعراف غير المقبولة في المجتمع الجديد فيحرّم الظهار مثلاً، ويدعو لدعوة الأبناء لآبائهم ويمنع التبنّي، ويحافظ على علاقات الرحم الأخوية فيحرّم الزواج من الأختين، وحين يرفض التشبّه باليهود والنصارى فيما لا يتناسب وقيم الدين الجديد، بل وحتى في المظهر والهيئة، وحين يحرّم شرب الخمر، والتعامل بالربا، ووأد البنات وغيرها، فيأتي بقيم وسلوكيّات ومظاهر جديدة لم يعهدها المجتمع آنذاك فإنه بذلك يختط طريقاً جديدة لحياة متجددة، فيبقي الصالح، ويقوّم المعوج، ويصلح الفاسد، ويجدّد البالي، فجاء بدين (جديد) في حزمة متكاملة بحيث يُعرف أصحابه ويتميزّون عن غيرهم، وهي دعوة لنا بأن نفعل كذلك كلما اقتضت الحاجة.
تطوير أساليب الدعوة وتنويع أدوات الردع .. تجديد
ونفهم دعوة القرآن الكريم للتجديد ضمناً حين يستعرض أساليب دعوة الأنبياء (ع) وطرق هدايتهم لأقوامهم المتعدّدة، والمتنوّعة، والمتجدّدة، فلم يكرّر نبي إعجاز نبي آخر، بل أتى كل منهم بجديد يبهر أبناء زمانه، فبين مهتد بآيات موسى (ع) كالسحرة الذين خرّوا ساجدين عندما علموا يقيناً أن ما عند موسى ليس سحراً، ومهتد بطبابة عيسى (ع) وإحيائه للموتى، ومتكلّم في المهد، أو صائم عن الكلام، وفي العقوبات أو أدوات الردع التي استخدمها مع أقوامهم من صيحة وخسف وإغراق وإبادة وغيرها، كلّ ذلك متماشياً بما يتناسب مع ثقافة كل قوم وعلمهم ومشاكلهم وذنوبهم وزمانهم، فمن كان يشكو من ظلم اجتماعي شُرّعت له قوانين تزيل هذا الظلم كقوم شعيب (ع)، ومن ابتلي بشذوذ أخلاقي كقوم لوط (ع) أُعطي دواء لدائه، وهكذا تتقدّم البشرية ومعها تتجدّد الشرائع.
الدعوة لممارسة الحكمة .. دعوة للتجديد
يدعو القرآن للتجديد حين يحثّ على الدعوة إلى سبيل الله بـ(الحكمة) فإنه عندما يفعل ذلك إنما يدعو لوضع الأشياء في مواضعها الصحيحة لتحقّق أغراضها، دون تقييد لمفاعيل (الحكمة) التي تتباين من ظرف لآخر في تطبيق تلك القوانين والأحكام، ولكنها حتماً مناسبة تماماً و(محكمة) على ظرفها الخاص، كما (الحكيم) الذي يصف الدواء الأفضل، ويخلط مكوّناته بمقادير دقيقة بما يتناسب وحالة المريض وبحساب محكم، وكذلك في الدعوة لمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، لتتسع معاني (أحسن) فتشمل المجادلة بأحسن الحجج، أو باختيار أحسن الفرص، أو أحسن السبل، أو بتذكيره بأحسن ما لديه لينعطف قلبه نحو الداعي فيستمع إليه ويهتدي به، وغيرها من معاني لا يمكن لأحد أن يدّعي احتكارها، يريد بذلك أن يوصل إلينا رسالة مهمّة، مفادها أن الجمود في عالم متغيّر ليس من الحكمة ولا ينبئ عن وعي أو يقظة لمجريات الأمور وآثارها، فهناك جملة من القوانين والسنن التي تنظّم الكون كله وتحكمه منطقياً وإن معرفة منطق هذه القوانين هو فهم الأسباب والمسببات وهو الفهم الأولي للظواهر القابلة للتوقع عند توافر الشروط، ما يعني بلوغ حدّ من تطبيق الحكمة.
وكما أنه ليس من الحكمة، بل ليس من المعقول ولا من الممكن أن يظلّ المرء مرتدياً ملابس الطفولة في سنّ الشباب، وغير مقبول منه ولا من المنطق السليم أن يتصرّف في سنّ الرشد بجهالة الطفولة أو رعونة الشباب، فكذا من غير المنطقي أن ندّعي أن القرآن يخلو من الدعوة إلى تجديد الحياة والفهم لعدم وجود آية صريحة تدعو إلى التجديد.
التجديد جدّ في تفسير الوجود
إذا آمنّا بأن التجديد هو (جدّ) في تفسير الوجود، فالقرآن الكريم كله دعوة للتجديد، فقد كان القرآن كتاباً حيّاً متحركاً في قومه، يُسدّد، ويعاتب، وينهر، ويذكّر، ويعلّم، ويزكّي، ويدعو للتفكر والتأمل والتعقّل والتدبّر، ويسأل، ويستنكر ليحفّز على التفكير وليُحرّر الإنسان من قبضة الركون إلى النفس والهوى، أو الجمود على العقائد البالية، ويخلّصه من تحكّم الآخرين بعقله ومصيره، آباءً كانوا أو أجداداً، كبراء أو سادة، فطالما لم تبلغ الحياة كمالها فنحن بحاجة إلى التجديد.
كما النور الذي يملأ المكان ضياء ولكن لو سئلت ماذا ترى لعدّدت كل شيء ولأغفلت وجود النور، هكذا الدعوة للتجديد في القرآن متضمّنة في كل شيء ولكن لعدم وجود دعوة مباشرة إليه خفي علينا وتردّدنا وتساءلنا: هل القرآن يدعو للتجديد؟ والجواب أن القرآن كله يدعو إلى التجديد تصريحاً وتلميحاً وتطبيقاً وتعليماً، وخير أداة لعدم الجمود والاستمرار في إنتاج المعرفة هي ممارسة صياغة السؤال وتهذيبه، فتلك كانت أدوات الأنبياء (ع) التي انبثق عنها الإلهام ومن ثم اجتاحهم الوحي مؤكّداً أن لهذا الوجود خالق.