قصة الأطفال المعروفة عن “انتحال” الذئب شكل الجدّة الوديعة واستلقائه بفراشها ليخدع الطفلة ليلى، هذه القصّة تُعاد بحبكةٍ مع الشعوب في معظم مواطن حياتهم السياسية والإيمانية.
هل فكّر القارئ لماذا نُسمّي “النحلة” “نحلة”؟! لأنّها “تنحلنا” عسلاً، “نحَل” تعني أعطى، و”انتحل” تعاطى واتّخذ، الانتحال تعاطينا واتّخاذنا صفةً ليست لنا، وليس كما قال ابنُ فارس (“نحل”: النون والحاء واللام كلماتٌ ثلاث: الأولى تدلُّ على دِقّةٍ وهُزال، والثانية على عطاء، والثالثة على ادِّعاء؛ فالأولى: نَحَل جِسُمه نُحولاً إذا دقَّ، وأنْحلَه الهمُّ. والثانية: نَحلْتُه كذا أي أعطيتُه، والثالثة قولهم: انْتحَلَ كذا، إذا تعاطاه وادَّعاه)، بل أصلها “كلمة واحدة”، تدور حول “العطاء/الأخذ”، فالجسم “النحيل” (نحَل) أعطى ما فيه، والهمّ “أنحل” الجسم يعني “أخذ” قوّته وحيويّته، و”الانتحال” هو “اتّخاذ/تعاطي” صفة، شبيهاً لما قال.
سبب تعاطينا مفهوم “الانتحال”، رواجُ منظومة “الانتحال” العالميّة التي تُلبس الحقّ بالباطل، وتستضعف الناس وتُعاملهم كأطفال، ليستلطفوا ذئاباً متسربلة بألبسة الرحمة وباستقامة الأسنان، خافية الذيول والتبعات!
فبالأمس لم تُفاجئنا الأنباء أنّ أمريكا “المُنتحلة” لراية “حقوق الإنسان” وألوية “الحرّية والمساواة”، هي أوّل منتهكيها بحسب منظمة العفو الدولية، التي وجّهت انتقادات لاذعة لها، بمناسبة الذكرى الستّين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأنّ الانتهاكات للإنسانية بالتعذيب، وبالمعاملة السيّئة، وبالمحاكمات التعسّفية ووأد حرّية التعبير ما زالت السائدة، بل أقوى دولة (حامية) أصبحت مثالاً سيّئا للتعسّف لا مثالا يُحتذى، فهي تمارس التمييز للأقلّيات الإثنية والدينية، لتفضح كذب الإدارة الأمريكية بدعاوي الحرية والديمقراطية حين تدعم الحكومات القمعية والديكتاتوريّات كبرويز مشرّف وغيره..!
إنّ “انتحال” راية حقوق الإنسان والحرّيات والسلام ومقاومة “الإرهاب”، (بل وانتهاكها علناً وسرّا)، “انتحالها” لتحقيق غايات الهيمنة على أقطار العالم وتنميطها، ليُصبحوا آلات مستتبعة ضامنة لاشتغال الآلة الرأسمالية المتوحّشة واستدامة سياساتها “الشفطية” الجشعة، واتّخاذ هذه الرايات “المنتحلة” وسيلة رخيصة للتسلّل والاحتلال، وتوقيع مواثيق الانتداب والاستعباد (كما يجري للعراق)، ولنشر الحروب والقلاقل وعسكرة البحار والمتاجرة بالسلاح واحتكار مصادر الطاقة، إنّ هذا “الانتحال” بذاته أسوأ من الغايات الدنيئة المتستّرة، لأنّه يشطب “أمان” الطالبين، فإذا كان الجاني “ينتحل” منصب “القاضي” فلا أمان لعدالة ولحقوق، وإذا الداعر ينتحل “الطبيب” فلا أمان لفتاة في التطبّب، وإذا المغتصب والحاقد ينتحل “المعلِّم” فلا أمان للأطفال ألا تفترسهم شراسةُ الاعتداء، وإذا كان السارق والمُخاتل والجبان والشبق والأحمق والطائفيّ والحاقد والمرائي ينتحلون صفة “رجل الدين” فلا أمان وملجأ لدين ولفتوى إلاّ كمقصلة سريعة التكفير والتأثير.
التراث الديني أصّل هذه العبرة، أنّ إبليس “انتحل” الصفة الملائكيّة، ثمّ فضح كبرياءه الأمرُ بالاتّضاع لآدم، فتعالى وسَقط، كلّ “المنتحلين” ستُواجههم عقبة يتعثّرون بها، تُشلّح عنهم ألبسة “الانتحال” لتُعرّي عوراتهم.
اثنتان هما بقيّة أصداء صيحات الرسل: (لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلا تَعثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، يمثلهما اليوم منظماتُ حقوق الإنسان ومؤسّسات الرقابةِ والشفافية والصحافة والنقابات، ومن جانب آخر منظمات حماية البيئة.
لكنّ منظومة “الانتحال” تُحاول التسلّل لتفريغ تلك الجهات من مضمونها الرساليّ، فالحكومات الفاسدة تسرق الرايات لتوظّفها لصالحها بالكيفيّة “الانتحاليّة” الإبليسيّة، فيتبخّر بعدئذ وثوقنا براية إنسانية، أو بتحاكمنا إلى جهة غير طاغوتيّة، إلاّ كلجوء زوجةٍ مُنكّل بها إلى قاضي “مستقلّ/مستغلّ” ليُخلّصها بالطلاق، فيشترط موافقتها ضمنيّا على “تحولّها” لملكيّته “الخاصّة” بالحلال والمستحبّ!
لقد سُرقت الكثير من الرايات الحقوقيّة الرسالية والإنسانية، كما اختُلست و”انتُحلت” راية “تحرير المرأة” فغدا شقٌّ منها استرجالاً، وشقٌّ دعارة وتسليعًا، وسلم قليلٌ صائنٌ لنفسِه، وإلا ما أتى “بالمرأة” كواجهة كلّ دعايات صناعة الرجل، تلوّن بوجهها الممكيَج وبجسدها المُعرّى كلّ الأغلفة لتملأ الأحداق؟!
وأيضاً سُرقت رايات الأديان فصارت طقوساً، وشكليّات، ووجاهات، وإرثا خاصّاً، ودعوى اختصاص، وألقاباً طويلة، وأزياء ومراسيم، وجباية أموال، ولغةً معقّدة، وتلقينات تسليميّة، وأفكاراً خرافيّة، وكيانات نابذة للآخر، ومذاهب وتحكّمات وتفصيلات، صارت (الأديان) نهبَ رجالٍ يتناوبون بإضافاتهم التحريميّة والتحليليّة، والتشدّد والتعسير، فأفرغوه من التراحم والحرّية وعفويّة القيَم.
حمداً على نعمة وعينا “بانتحال” أمريكا، إذ بيّنت دراسة أمريكيّة أنّ أربعة أخماس العرب المشمولين بالدراسة، يقرؤون السياسات الأمريكية كسياسات معادية، ولم تنطل عليها أكذوبة الترويج للديمقراطية والحرّيات والحقوق!
لكنّنا بحاجة لمزيد وعي، لكشف “الانتحالات” الخفيّة التي تُحيل حقّنا باطلاً، فمن أبجديّات مجاهدة آثار “الانتحال” الخفيّة، مناهضة محاولات السلطات الرسمية التنفيذيّة: سرقة، ومصادرة، وإنشاء كيانات، أو التدخّل لتوجيه، ولاصطناع، مؤسّسات الشفافية والرقابة والحقوق ومناهضة التعذيب، وحماية البيئة، والصحافة، لئلاّ يكسوها شبهة “الانتحال”، فتغدو مجرّد ملمّعات شمعية لا رسالة وراءها سوى التطبيل، لتشتيت الآذان عن تلقّي ذبذبة أصوات الاستنجاد الحقيقية.
ومثله (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كمفهوم، هو ليس حكراً “للمنتحلين”، الملتحين أو السلطويّن، بل حقّ المجتمع الأهلي والمدنيّ يُمارسه عبر صحافته الحرّة وفعاليّاته المجتمعيّة ومثقّفيه ودواوين الرقابة.
كما أنّ عدم دخول “رجل الدين” المعترك السياسي ومؤسّساته بوصفه “رجل دين” (بل بوصفه سياسي مبدئي نزيه فقط)، يقي “الدين” و”رجاله” شبهة “الانتحال”، كما يعصم السياسة من صولات الجاهلين غير الكفؤين.