“يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ.. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ” (الحديد:12-13).
مشاهد الآخرة هي انعكاس لمشاهد الدنيا، هي تجلّي لصورتها الحقيقية الكاملة، بلا حُجب ولا سواتر، هناك تظهر الأشياء كما هي، فمن صنع لنفسه النور في الدنيا واستضاء به، فسيلازمه “ذلك النور” إلى هناك.
وللنور مصدران، الأول “بين أيديهم”، مصدره خارجي مقتبس من الخارج كالاقتداء بالصالحين، والاهتداء بالتجارب والتجاوب مع نداءات الخير.. الخ، والثاني “بأيمانهم”، مصدره داخلي يشعّ بمقدار صلاح وصدق أنفسهم. فالنور الذي اكتسبوه في الدنيا سيتجلّى لهم في الآخرة، بذات الدرجة ونفس القوة. هذا حال المؤمنين، أمّا الآخرون الذين يمشون مع المؤمنين في الظاهر فقط (المنافقون نموذج كما في الآية)، فإنّه قد ينالهم نصيب من الأنوار الخارجية، يفرحون بها، وقد تنير لهم الدرب لمسافات معينة، لكنهم سيتفاجؤون بدخولهم لوحدهم في منعطفات شديدة الظلمة، حيث لا مجال للانتفاع بأنوار غيرهم، وليس بإمكان أحد اجتيازها إلا من حمل قنديله بـ”يمينه”، أي لمن صنع لنفسه نوراً، زكّاها وقوّمها، وأدّى واجباته وتحمّل مسئولياته، ولكن ذلك غير ممكن الآن، فلقد فات أوان “صناعة النور”.
في تلك اللحظات، يقال لهم “ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً”، كلمةٌ عابرة للأزمان، صرخةٌ كونية يسمعون صداها هناك، وكانوا قد سمعوها في الدنيا من قبل، فلطالما دُعوا إلى إصلاح أحوالهم قبل أن يفوتهم أوان صناعة النور، لكنّهم انتظروا لحظة الحقيقة، ليدركوا أنّهم قد ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا.
تتلاحق الأحداث، فإذا بالسور يُنصب أمامهم، ليصعّد صعوبة الموقف، ولتكتمل فصول المشهد، باطن هذا السور الرحمة، لأهل الباطن، لمن اشتغل على صورته الباطنية فهذّبها وأصلحها، يبقون مع المؤمنين إخواناً على سُرُرٍ متقابلين، وعلى الجانب الآخر منه، يقبع أولئك الذين تضاعفت مصيبتهم بهذا السور وهم أصحاب الظاهر، من قضوا العمر على تجميل صورتهم الظاهرية، فلم تتطابق يوماً تلك الصورة مع حقيقتهم الباطنيّة، أقاموا الأسوار على نفوسهم في الدنيا، أسوار خداع النفس والتواءاتها، أسوار الاغترار بالأماني والمصالح الضيقة، وغيرها، فصدّتهم عن الاستماع إلى النُصح أو الاستجابة للخير.. وها هم اليوم أُسراءُ تلك الأسوار.
الآخرة ما هي إلا تجسيد للوقائع التي لا يمكن أن نراها على الحقيقة هنا في الدنيا.. فتظهر هناك بكل جلاء.. فهلّا صنعنا أنوارنا؟