بيان التجديد في عاشوراء 1427هـ

رأسٌ ينطق في رمحٍ أخرس

 

“إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي رسول الله (ص)”

متوجهاً إلى كربلاء انطلق الثائِرُ يجلجل بشعار الإصلاح في أمة جده (ص)، مدركاً ببصيرته حلَكة حاضر سيؤول لمستقبَلٍ أشدّ إحلاكاً، إذا ما رزحت الأمّةُ الحرّة تحت إمْرة الطغيان، جابه الطاغوتُ تلك البصيرة النافذة بتضليل أمة محمّد (ص)، لبثّ روح الهزيمة فيها، فوصم نشيدَ التغييرِ بخروجٍ عن طاعةٍ ومفارقةٍ لجماعة، ونشرٍ لفساد وبذرٍ لفرْقة، آتى هذا الإعلام المضلّل أكله حين استنصر الحسينُ الحجيج وأحلّ لخروجه إحرامه، فأحلّ الباغون بخروجه حرماته، وانزوى المتقاعسون عن الصلاح يُجبِّنونه ويخذلونه وتولّوا وهم معرضون (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (النساء:66) وها هي أمّتنا منذ تلك النكسة تدفع ثمن خذلانها الأصمّ عن ابن بنت نبيَّها (ص).

فاستلاب أمر الأمّة، والتوصّي على دينها ودنياها، واستبدال شورى الإسلام بوراثة عضوض، والانقلاب على إرادة الأمّة والتولّي عليها بلا خيار منها ولا بيعة، كان أدنس ما أنتجته النكبة الكربلائيّة، حين فشلتْ مهمّة التغييرُ الإصلاحي وبقي صدى الصرخةُ الحسينيّة جوّالاً في القلوب والضمائر يستفزّ إرادات أحرار الأمّة في كلّ جيل، شاهداً على حقّ لم يزلْ سليبا وهبةٍ ظلّت مغتصبة وقيَم مُعطَّلةٍ أو مُداسة.

تنكّبت الأمّة في سياستها بل واعتقادها عن سمت الراشدين، وسادت بدعة الوراثة الأموية بقوّة دسّ ثقافة التضليل والتدليس، ليُجهَز على الدور الرياديّ للأمّة الإنسانيّة التي أطلقها الرسول لنشر الخُيور في العالَم، في بناء الدولة والحضارات والفضائل، ليتفرّخ كيانُها الواحدُ الأمّ في بُيوضِ فرَقٍ متناحرة ومذاهب اعتقاديّة وكلاميّة متصارعة، مشغولةٍ بنفسها عن هداية العالَم وسابتة الوعي عن التفكير في قطع يد متسلّقيها النازين “الشرعيّين”، وإلى طوائف وطبقات بعضُها فوق بعض يُذيق بعضها بأس بعض ويُكفِّر بعضهم بعضاً، وحصد التالون نتاج ما أسّسه الأوّلون، أمّةٍ تُستدعى للفتوحات (الإسلاميّة) للتوسّع الملوكيّ وهي واغلةٌ في دماء صفوتها وبررتها وربابنة سفينة دينها القويم.

كانت كلمات الإصلاح النبراسيّة التي دوّت في كربلاء على لسان الصدْق الهاشميّ، وبرنامج التغيير الذي أطلقه ذلك الاستشعار الواعي المحمّدي، محاولةً يائسةً أخيرة من ذلك القلب النبيل (ع) وروحُه النافذة، للقيام بواجبها في تجنيب الأمة كلّ مآسي هذا الدمار والتشرذم والفشل الذي ردَح الزمان علينا به وما زلنا نتجرّعه ولا نسيغه، حتّى فاضت لبارئها في غُربة الطفّ مع ثلة من الصامدين الأخيار على يد وُحوش البشر المهتمّين بأغراضهم والمناهضين لتقدّم الإنسان وتطوّر سموِّه.

إنّ واجب الأمّة المكلومة اليوم تجاه ذلك الاستبصار الأقصى وذلك البرنامج الربّاني المُعطَّل، وعزاءَ فقدِها تلك الأرواح الطاهرة والدماء الزكية، أن تُعلي رسالةَ ما قدْ خرج له الحسين فأُخرِس، وما حُزّ له رأسُه ليُمنَع من تخطيط إنجازه، لا خروج الأشرين ولا البطرين، بل خروج الأحرار نُشّاد الإصلاح، إصلاح الأمّة لتحيا رائدة لا فقط لتعيش وتربض بفُتات الآخرين وترضخ، إصلاحها دينياً وسياسياً وقيَميّاً وسلوكياً، جذريّاً لا خطابياً، تُعلِّم الشعوبَ كافّةً، حتّى تلك التّي تدّعي التحضّر وسبقتنا مادّياً منذ تنكّبْنا عن إنسانيّتنا في كربلاء وما بعد كربلاء، تُعلّمهم كيف يكون الاحترامُ وكيف تكون الفضائلُ وبماذا يُمكن أنْ يسود التآلف والسلام، لا أن تُهيّج قطعاناً منهم جرّاء توالي أعمالِها الحمقاء التي انسلّت من بطش ظهيرةِ عاشوراء، تُهيِّجهم للقيام غباءً وجهلاً أو حقداً، في الصحف بشتْم نبيّها الأكرم (ص)، أقدسِ قلب في وجودهم البشري ممّن كان بعثُه رحمةً للعالَمين ولهم، ولولاه (ص) ولولا إخوتُه النبيّون قبلَه (ع) لما عرف الغرب ولا الشرق ولا أولئك الجهَلةُ شيئاً من حضارة ولا فنّ ولا حرّية تعبير وسلوكٍ وذوقٍ حسن.

كم هي عظيمة تلك الأمّة التي تضع دماغها في الرأس بدلاً من الذيل، تُقدّم الأوْلى لعزِّها ونهضتها وتُولي أذنها الصمّاء القشورَ، تضع التناحرَ والخواء الكلامي والأنا الشخصيّة والمطامِع التي أسّسها فيها يزيدُ وأمثالُه تحت رجلها لترقى، تتسلّح بالتعاون والتوادد وفضائل السلوك لتحظى بمسمّى “أمّة جدّ الحسين” وتكون كحواريّ الحسين، مُعجزةٌ أنْ تُرجع أمّةٌ رأسَ الحسين لينطقَ فيها، وإنّ الرأسَ الذي للحسين كان واجب الإصلاح في أمّة جدِّه (ص)، “الإصلاح” النزيه كان رأسَ قضاياه التي أنطق به رأسَه، أكان مُصطلباً على رقبته الشريفة المحزوزة بحبال أكياسِ تصدّقه الليليّ على المعوزين والمُعدمين، أم المحزوز عنها ليَصْطلب على رمحٍ جوّال في الآفاق، ليس يهمّ الحسينَ.

وكم هي مقصرة أمّة تدّعي أنّها أمّة رسول الله (ص) رحمة العالَمين، تريد أن تفتح الدنيا لكنْ لا بالرحمة، بل برمحٍ يعلوه رأس الدين المقطوع، حين جُزَّت رأسُ قضاياه وتعاليمه، فأدبر معروفُها وحرمتْ نعمة معنى “الصلاح” ومعنى “أصبحتم بنعمته إخوانا”، فكان لأمّتنا عزاء آخر، فعزاء الحسين هو أن تبقى قضاياه وتعاليمه، أمّا أن يذهب الحسين، وتذهب قضاياه، وتعاليمه، فلم تُضيِّع الأمّة الحسين، بل ضيّعت الرأس أيضاً، وبقي الرمحُ صالحاً للاستعمال!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة