منذ فجر الإنسانية، والتدافع قائم بين تمحورات القوى، في المجتمعات الإنسانية حول قيمها المفضلة، تتسارع فترات، وتخبو فترات أخرى. ولكن ضمن منظومة قيمية واضحة، يتمسك فيها السادة الكبراء بحقوق السيادة، وقوة الاستئثار، معلين الصوت: بأن هذا لهم حقاً مفروضا. كانت منظومة القيم بين السادة من جهة والعامة من جهة أخرى واضحة المعالم، حيث ينادي السادة بحقهم في الحكم والأمر والحيازة والسيادة، وأن الضعفاء تبع لهم نافعين منتفعين، فالناس العامة يجب أن تظل دائماً تبعاً للخاصة الذين حباهم الله، أو الحياة، بصفات وحظوظ من الطبيعي أن يتمتعوا بها.
وكان لهذا التيار عظماؤه، وقادته، وكتابه وفلاسفته وشعراؤه، يسيرون الجند، ويسيسون الدول، ويصنعون تاريخ الناس. وفي الطرف المقابل كان تيار العامة – الناس – ينادون بالمساواة والعدل، والحرية، وتكافؤ الفرص وتوازن التفاوت، إلى آخر منظومتهم القيمية، وكان لهذا التيار عظماؤه، وقادته وكتابه وفلاسفته وشعراؤه، يقودون المستضعفين، ويشعلون الثورات ويصنعون تاريخ الناس.
وأنت واجد في التاريخ بين هذين، تداخلات وتلونات معتدلة ومتطرفة، عادلة وظالمة، رحيمة وقاسية، مؤمنة وكافرة، وإنما تاريخ الإنسانية كله هو تدافع بين هذين التيارين. ولكن منظومة القيم بينهما ظلت متميزة المعالم، أو شبه متميزة، إن غامت في ناحية أضحت في نواحٍ أخرى.
ظلت الإنسانية هكذا حتى العقدين الآخرين، حيث سقطت قلاع اليسار المنخورة والذي كانت قيم العامة ينادي بها تحت شعاراته، ولكن الحقيقة أن اليسار لم يكن يساراً مختلفاً عن اليمين قيمياً، وإنما جهوياً ليس إلاّ، فلم تعد منظومة القيم مختلفة، والقادة الذين حركوا التاريخ لأجل المساواة والعدالة، والمفكرون والفلاسفة الذين تكلموا في منظومة القيم كمميز للإنسانية الفاضلة، والروحانيون الذين أعلوا من روحانية الإنسان ونادوا بوضع الميزان بالقسط، كل هذه القيم قد ذابت وتلاشت، ليلتقي اليسار واليمين على أن السعادة هي في الاستهلاك والتمتع بالحياة.. لم يبق هناك يسار أخلاقي قيمي وإنما يسار سياسي تهالك وتهاوت قلاعه.. كان الصراع بين قوتين تتنازعان السيادة، ولكن تعدان الإنسان بنفس الأشياء، الطعام الوفير، والمسكن اللائق، والتعليم والعلاج والضمان الاجتماعي، ورعاية الشيخوخة، و ضمان العطالة، أصبحت معالم التقدم الإنساني متمثلة في عمارة الأسواق، ورواج الصناعات، وتنوع المشتروات، ومقدار المتع المتاحة، والنعم المتوفرة، كان اليمين واليسار يعد الناس بأنه الأقدر على كل ذلك، وكانت معركة اثبت اليمين أنه فارسها ، وصاحب قدحها المعلّى.. لقد انجلت معركة اليسار واليمين عن مسخ في مجموعة القيم الإنسانية.
لقد كانت الإنسانية دائماً فريقين في منظومة قيم الحياة السعيدة، وكان دائماً هناك من قوى اجتماع الإنساني، من يؤمن وينادي بالحرية والعدالة والأخلاق كمحاسن ذاتية، ينبغي الحفاظ عليها لأنها جوهر الإنسانية، مع غض النظر عن آثار التمسك بها: جلبت شدة أورخاء، بؤس أو نعماء.. كانت الكرامة والشرف والإيثار والصدق والتضحية قيماً أخلاقية إنسانية تعكس عندهم جوهرة الإنسان الحقيقي، وكانت هذه القوى تلاقي من يصطف معها من الناس: الكثير من العامة، والقليل من الخاصة، فهي لم تعدم من يؤمن بها حتى من الخاصة والعلية.
ولكن الإنسانية اليوم – كقوى اجتماعية – تعيش حالة من المسخ الخطير جداً، بل لعله أخطر ما انجلت عنه معركة اليسار المهزوم واليمين المنتصر على الإنسانية، حيث تباريا جميعاً في مسخ روح الإنسان، وعلقاه عبر صراع أعلامهما الطويل بمجموعة من القيم الاستهلاكية، صورت له السعادة في استهلاك النعم، والغنى والثروة والضمان الاجتماعي، ورخاء الحياة، وإتاحة المتع.. وأنه بهذا يكون قد دخل الجنة..
واليوم كل الدول تعد شعوبها بهذا، وتتمعير به، فأكثرها تقدماً من قد وفرت مزيداً من الرخاء، والذي له صورة واحدة عند الناس: سعة القدرة على الاستهلاك وتناول المتع، لقد غاب خطاب القيم وتواري وضعف في النفوس، وزاغت عنه الأبصار، وعلا صوت ثقافة الدجال الذي يعد الناس بجبال من الطعام والشراب، وجنة دائمة الاخضرار.. ها قد عثر الدجال على آلة سحره العظيمة: التقنية ! فصار يفجر بها ينابيع الآمال، ويسحر بها العقول، ويغير بها النفوس، انه يعد فيفي بوعده، انه سامري هذا الزمان، إذا ما قذف في حلي الناس صار لها خوار يسحر العقول فتظنه الهاً فتعبده.
حضارة السادة اليوم ألبست قيمها نفس ثوب قيم الضعفاء، فظن المغرور أن قد توحدت الدنيا على الصدق والفضيلة، وسارت ركبان الناس وراء ما سماه السادة: الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان والعولمة، تلك الثياب الجميلة للمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة، ولكنها اليوم مجرد ثياب لنفس قيم السادة القديمة من الاستئثار والسيطرة والاستمتاع، لقد دلها دهاؤها إلى أن تتجلبب بها، فهي اليوم أسرع الطرق لأغراضها: إنها اليوم اكبر المنادين بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والعولمة، فبالعولمة يصل الأقوياء إلى ما في أيدي الضعفاء من بلدان وأوطان وثروات، دونما استعمار بغيض، فأصحاب العولمة هم القادرون على الاستثمار والتمويل، وبالديمقراطية يتمكنون من كسب اصطفاف القوى الاجتماعية ضمن مجموعاتهم القيمية، وبالحريات تسير الآلة الاجتماعية بلا ضجيج.
لقد تساقطت أولوية القيم الإنسانية أمام رياح القيم الاستهلاكية، وإن كان بقي من نؤمله اليوم فهم المخلصون من دعاة حقوق الإنسان.. فيا دعاة حقوق الإنسان المخلصين؛ نحذركم: أنكم تضغطون بنفس الآلة ا لكبيرة للسادة مروجي روح الاستهلاك في العالم، يحاولون تسخيركم لنفس منظومتهم القيمية، كما سخروا الديمقراطية والحرية والعولمة، فأنتم يمكن أن تكونوا إحدى عصيهم التي بها يضربون، ولكنكم يمكن أن تكونوا ن آخر أسوار الدفاع عن فضائل الإنسانية وجوهرها، حينما تدافعون عن حقوق الإنسان التي قد لا تكون مكتوبة في ميثاق الأمم المتحدة، بأن لا يمسخ الإنسان ويُزيف جوهره، و يبتعد به عن الفضائل، ويستأثر الأقوياء بخيراته، باسم العولمة وحرية التجارة، ويسخر أجيراً ضمن آلة الإنتاج في خدمة الشركات العالمية التي ترى فعلها ولا ترى الفاعلين.
إن هذه القيم الاستهلاكية لن تزيد الإنسانية إلاّ حسداً وطمعاً، حسداً للمتنعمين، وطمعاً فيماً عند الآخرين. ومع هذه الآلة الجبارة من التطور التقني، ومع هذا العلو الكبير في آلة الدمار، فإن الإنسانية لا بد وأن تشهد يومها الأسود؛ الذي تدمر فيه الحضارة العالمية الحالية نفسها، هذه سنة في الحياة، فقد كان الله سبحانه يتولى تدمير الأقوام الذين تنمسخ قيمهم الإنسانية، فيتمسكون بالمتع على حساب الفضائل، فمنهم من لم يكن يرى حقاً للصلاة في أن تمنعه من أن يفعل في أمواله ما يشاء، ومنهم من يرى حقه في قطع السبيل وإتيان المنكر، ومنهم قد دمر الله عليهم، ولأمثالهم أمثالها..
إن الحضارة الحاضرة تملك من وسائل تدمير نفسها ما يكفي ويزيد، ولم يبق إلاّ أن تستحق ذلك بانمساخ قيمها، وقد فعلت ذلك، فهي الآن على طريق الذين مضوا، ويومنا الأسود أيها الناس، قد تراءى لكل ذي عين بصيرة، فهل من أمل في اجتماع أصحاب القيم الإنسانية الأصيلة في التعاون والتعاضد لأجل إعادة روحنة الإنسان، وهل من أمل أن يلتفت الأخوة دعاة حقوق الإنسان، إلى أن هذا الحق الذي لا يخص أحدا دون أحد ولا فردا دون فرد، هو الأوجب من بين كل الحقوق ؟