شهر السلام الرمضاني
حلّ شهرُ صناعة الخليفة الحقيقيّ، الخليفة الإنسان، ناشر العدل وصانع السلام.
أتى شهر صناعة أقدارنا لسنةٍ قادمة، إمّا حافلةٍ بأعمال البرّ والإعمار، أو مسْودّةٍ بشرورنا وبالدمار.
أطلّ شهرٌ هو عند الله خيرُ الشهور، شهرُ إعمار القلوب بالذكر والمحبّة، وإعمار الأرض بالعدل وبالصلاح.
وليس (الذكر) بأوراد لسانٍ خاوية فقط، بل هو (ذكرٌ) للهدف الذي صنعنا الله له، لاستعادة ملامح خطّة “الصراط المستقيم” التي ينبغي سير البشر عليها والاستقامة بها وعليها.
وليس (إعمار الأرض بالعدل والصلاح( إلاّ معنى الاستقامة لقيامةٍ بالواجب الحكيم تجاه الأشياء، ومقارعة الفساد والاعتداء، الطبيعي منه أو المصطنع، النفسي أو الغيريّ، الدوليّ والسياسي والاجتماعي والأسريّ والشخصيّ، فالذي لم يعرف بعد كيف يجعل ذهنه مستقيماً وقلبه وأخلاقه ومبادئه مستقيمة، لن يكون سلوكُه وقضاياه وقيامه وقعوده مستقيماً، مهما صلّى أو صام، فلا سلامٌ له ولا منه ولا عليه حين يقوم أو يقعد، لأنّه لن يقوم لله ولا لرعاياه بل جامحاً بميوله وباعوجاج نفسه.
في شهر الله (رمضان) هلّ أمرُ وجودنا، بدأ الإنسان، حين بدأ وصْل السماء بالأرض، وفي ليلة قدره، صنع الله فيها خليفته الآدميّ، ووهبه شيئاً من روحه ليستلهم منه نوره، ما به يستطيع أن يُدبّر أمر هذا الكوكب بميزان العدل والرحمة والحكمة والسلام، لكنّه زلّ وضلّ وما زال تائهاً (ظلوماً جهولاً).
كانت ليلة القدر وكانت أفضال التنزّل فيها (من كلّ أمرٍ سلام)، ليُفرق فيها (كلّ أمرٍ حكيم)، لكنّ الإنسان منذ فارق (الحكمة) فارق (السلام)، منذ انقلبت مفاهيمه وانتكست صفاءُ تدابيره تودّع (السلام)، فثارت حروب النزوات بين أفراده ومذاهبه وطوائفه ودوله، ووقفت شياطينه الإنسيّة وطواغيته الأمميّة الجشعة تؤجّجه وتؤزّه للحروب وللقتل بأعتى آلات الدمار باسم الحرّية والسلام كذباً، فما عاد لا مذهب ولا دين ولا شرعة قانون يكبح شياطينه المنفلتة، بل ربّما صارت (بقايا الأديان)، و(تفاصيل المذاهب)، و(قوانين وشرائع الأقوياء) القابلة للإشعال والاشتعال، سبباً آخر أشدّ يُضاف في إيقاد أوار الحروب وتبرير قتل بذور البراءة والسلام.
منذ خلق الله إنسانه خطّ له طريق سلوك السلام معه سبحانه ومع كونه ومع نفسه، لكن الشيطان صدّه عن هذا الصراط وهيّجه ليسلك مسلك الفجور والشرور، فأُعدّ شهر الخليقة، شهرُ المحضن الربّاني الأوّل، مهدِ الربّ، شهرُ رمضان، ليكون مصنعاً لصيانة العطب ترتاده آلةُ الإنسان الداخليّة المتعطّلة عن الاشتغال والمسير، كان شهراً لحرق السيّئات والشهوات الدافعة لألوان الشرور، كان شهر الصيام عن المعاصي وعن شهوة البطن والفرج واللسان التي هي مسعّرات كلّ حروبنا الدامية الجارفة، لتطلّ الروح تنطق بقدسها الأعلى وتجعل نارنا برداً وسلاماً.
ثمّ في رمضان، مرّةً أخرى، أنزل الله سبحانه على أنبيائه المصطفيْن دساتير تقويم إنسانية الإنسان لتتوهّج حكمتُه ونقاؤه، وشرّع رسالات انتظام مجتمعاته، وكان آخرها (قرآنه الحكيم) هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ماذا كان يعني رمضان للإنسانية، وللمسلمين الأوائل؟
* كان شهر التجديد؛ تجديد الخلْق فينا لينبعث إنساننا الدفين، تجديد الفهم بالمراجعة وتنقية الذهن، تجديد العهد بشحذ الإرادة التي كلّت، تجديد الانتماء بترك التسكّع خلف الهواء والأهواء، تجديد الصلة بالربّ بعد فتورها أو انقطاعها، تجديد الانضباط بقواعد الصراط المستقيم المفضي للسلام والسكينة.
* كان يعني عودةً للانتظام في مشروع السلام الإنساني مع النفس والكون وخالق الأشياء.
* كان يعني صرف الأنظار عمّا به يكون التقاتل على الدنايا والزوائل لحزازات النفوس.
* كان شهر الانتصار على الأنانية والرذائل، وفضّ التكتّل الأهوج على المذهبية والحزبية وهُراءاتها، لاستبدالها بمشاعر النبل تجاه الإنسان، أيّ إنسان، طريد، محروم، مسكين، موجوع، بريء، والتكاتف مع الآخرين لقضايا العدل والسلام.
* كان يعني التكافل للتراحم، وتحسّس الحرمان والتضوّر، وإرهاف إنسانيتنا بمظاهر إحساسنا بالجوع والعطش، والتزهّد عن الأكل والشراب لحبّ إطعام الصائمين والفاقدين (على حبّه مسكيناً ويتماً وأسيرا)، كان معملاً لجلسات الذكر والتذاكر للعلم والمعرفة، لممارسة الدعاء الحقيقي لتأسيس واقعنا الصحيح، واقع التضامن والانسجام والسموّ.
* كان يعني اختبار صمود الإنسان أمام المغريات، ليستبين أنّه إنسان حرّ مريد لا المربوطةُ همّها العلف، ويعني صموده أمام نفسه لكفّ شروره وردع نزواته واستفزازاته، ولجم لسانه عن الوقوع في تحطيم الآخرين كذباً أو عبثاً، ليهتمّ بذكر ربّه أي بذكر هدفيّة وجوده الروحاني فردًا ونظاماً، فتسري فيه بركة الشهر وبركة القدر وبركة القرآن فيكون كعيسى (ع) (مباركاً) في أيّ موقعٍ كان، (متّصلاً) بالربّ، (مزكّياً) لنفسه، (بارّاً) بالمحيطين، تاركاً دروب (التجبّر): (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً(.
* كان يعني سواسية الغني والفقير في التصبّر ليشتعل التشاعر بينهما، وعطف الواجد على الفاقد، في الحاجات والضرورات (الماء والغذاء والدواء)، لينصهرا ببوتقة مشاعر الألم والأمل المشتركة، فتُصاغ أخوّة الإنسان.
فلنجعل من مدرسة الصوم، عودة لخالقنا وخالق فطرتنا، واعتماداً عليه واغتناء به، وتكافلاً بين الأمم، وتراحمًا بين أفراد بني الإنسان وطوائفه، وتحسّسا لمحروميه ومعدميه وبائسيه، شهر التصافي بين الإخوة و(إنّما المؤمنون إخوة).
* شهر الصوم عن العبث اللاهدفي، بالتوجّه للعدوّ الحقيقيّ الذي يُجاهَد إمّا بجهادٍ “أكبر”، وهو مطامع (النفس)
والتواءاتها وجبروتها، أو (عدوّ الأمة) ويُجاهَد بالجهاد “الأصغر” لأنّه أهون من سطوة تخلّفنا، بدل الانشغال -لتخلّفنا- بمجاهدة ومنازلة بعضنا البعض بخصومات شخصية وطائفية وحزبية ودينية فنتدابر وتذهب ريحُنا.
علينا كأفرادٍ نتوخّى التتلمذ في المدرسة الرمضانية العليا، وتحت ظلّ قرآنها الذي أًنزله فيه الله هدىً للناس، يقع
عبء تمحيص ما في تراثنا لنُلغي تقهقرنا، فنلتزم بخيره وندع شرّه، ونستلّ منه جواهر قيمنا ومبادئ عزّتنا ونهضتنا، ونزيح جانباً عصبيّاتنا وأمراضنا التي لم يشرّعها الله لنا ولم يكتب لنا فيها جهاداً ولا أجراً بل ذمّاً وإبعاداً، فأبقت على م يفرّقنا ويزري بنا، علينا أن نستلهم منه ما به يُصعّد روحنا وفكرنا وتلاحمنا وينزع
قشورنا، لنتصالحمع الله، ونصنع أقدارنا البطوليّة مع ليالي قدره، ونرمّم (فطرتنا( العليا مع تعييد (فطره)، فتختم دورة الله الرمضانية فينا بهداه إلينا:
(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
23- سبتمبر-2006
مملكة البحرين