بعد عقودٍ من الهوان الذي جثم على صدر الأمّة ومسيرة الذلّ والاستلاب التي لطّخت تاريخنا المعاصر، أعاد شبابُ تونس ومصر الروحَ لهذا الجسد المريض الذي ظنّ العالم أنَّه مات منذ دهر، فشكّل قيامُ شعب مصر نهضةً لن تهدأ حتى تُطهّر واقعنا بإذن الله من الدَنَس، ولكي تأخذ أرضُ الكنانة موضعها الطبيعي في قيادة الأمة وريادتها نحو العزّ والتوحّد، هذا الموضع الذي فارقته منذ توقيع اتفاقيات الاستسلام في كامب ديفيد.
لا يخفى على أحد ماذا شكّل غيابُ مصر، وكم هي المحن التي تكبّدتها الأمّة وذاقتها خلال هذا الغياب، وها هم شباب مصر وقبلهم شباب تونس قد أرسلوا نفحات الحرّية والكرامة وعادوا بتذكيرنا أنّ هناك قيَماً دُرست قد وطأتها الأقدام حتى ما عاد لها موضعٌ في قاموسنا.
ذكرّونا بالكرامة، وبأنّ الحرية والعدالة والشراكة والشفافية وتجريم الفساد إنّما هي قيَمٌ إنسانية وحقوقٌ أصيلة وضروريّة ليست بعطايا ولا منَحاً، وهي الضامن الحقيقيّ لاستقرار الأوطان وصدّ مكائد ومطامِع أعدائه.
ها هو رأس الشهيد “خالد سعيد” المهشَّم يدكّ عرش طاغوت فرّط بسيادة وطن ومقدّسات أمّة بثمن بخس، وها هي الشعلة التي التهمت جسد الشهيد “محمد البوعزيزي” تلتهم عرش قرطاج وتنير طريق عزّتنا التائهة.
لم تسعَ الشعوبُ المغلوبة يوماً للانقلاب على صاحب ملْك، ولا استلاب سلطان، أو في خرابٍ للأوطان، بل جلّ مطلبها كان بسط القسط والعدل وتنفّس الحرّيات والاحترام، ولم يكن ذلك يوماً بعيدَ المنال، فلو نظر السادةُ الحكّام إلى شعوبهم بعين العدل (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) لتذلّل الأمر واستقرّ الحال ودخل الكلّ متكاتفين في مشروع بناء الوطن والأمّة ونهضتهما، ولما استدعى الأمر هذا التفارق والخصام وهذه التضحيات الجسام، نسأل العليَّ القدير أن تُؤخذ العبر، ويُصلَحَ الحال، ويمنّ على هذه الأمّة بأنْ يرجعها إلى حيث بدأتْ.. أمّةً مناقبيّةً متّحدةً معلِّمة (.. خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).
فسلامٌ على تلك الأجساد التي مزّقها رصاصُ التوحّش أو داستها عرباتُ الغدر في ميادين مصر، فأسرجوا بدمائهم المسترخصة شعلةَ هذه القيامة، وسلامٌ على الأفواه المؤيّدة التي صدعت وصدحت، والأكفّ التي لوَّحتْ بالتجاوب، وأبحرتْ كفُّ الموفّقِ الهادي بسفنِ أوطاننا جميعاً إلى مرافئ الحرّية والعدالة والسلام.