حين يكون المرء شيعيا متعصبا؛ فمن الطبيعي أن يقول بلا مواربة أنّ عليا ما بايع أبا بكر بتاتا، وإن يكن سنيا متطرفا، بعيدا عن وعي التاريخ، فهو يتمنى ألاّ يشك أحد في مبايعة علي في أول يوم مع المبايعين، وحقّ أن يدّعي بأنّ البيعة جرت بشكل طبيعي وسلس، دون أدنى تحفظات، أما لو كان لا هذا ولا ذاك فقد يسعى إلى محاكمة الحدث بغية التوصل إلى معرفة الحقّ الذي يقتنع به، وتسطير رأيه حسب ما يملك من أدلّة، لأن حرية الاعتقاد تؤهل المرء للبوح بما يعتقد.
إنّ إثبات هذه الحادثة تاريخيا أي:(بيعة الإمام علي للخليفة أبي بكر) أو نفي حصولها؛ لا تنفصل عن آثارها المترتبة على وحدة الأمة أو تفرقها، وتعتمد أيضا على وعي الإمام علي وإخلاصه للأمة، دون أن يكون لها أي صلة بتمنياتنا ما دمنا على حال من العصبية العمياء والتطرف الأرعن. وعدم الحسم في إثباتها وفي كيفيتها تُعدّ فتيلا لا يُطفأ لنار العصبية المذهبية، ينفخ أوارها المنتفعون مهما كان الثمن ضارا بالأمة ووحدة كلمتها.
ورجوعا إلى التاريخ فإنّ الأقوال مع كثرتها تعود في النهاية إلى رأيين رئيسين: أنّ الإمام علي ما بايع إلا بعد ستة أشهر بعد موت فاطمة (ع)، أو بايع بعد أيام وفي حياة فاطمة- سواء حدثت البيعة في ظروف الإكراه السياسي أو دونه-، وقد استند أصحاب الرأي الأول بما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من أنّ فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها رسول الله مما أفاء الله عليه، فرفض احتجاجا بالحديث: بأنّ الأنبياء لا يورثون، وما تركه صدقة، “فغضبت فاطمة وهجرته ولم تكلّمه إلى أن تُوفيت بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله، فلما تُوفيت التمس علي بن أبي طالب مصالحة أبي بكر وبيعته، إذ لم يكن بايعه في تلك الأشهر، وكان له وجه عند الناس في حياة زوجته فاطمة رضي الله عنها”.
فالرواية لابدّ لها من محاكمة ليصمد الرأي أو ينهار، فقد صورت العائق من البيعة هو وجود فاطمة الزهراء وغضبها من الخليفة، وبمجرد وفاتها، فلا أحد يشكّل عنصر ضغط يمنع عليا من المبايعة، وعند تحليل بعض فقراتها يبدو ضعفها للأسباب التالية:-
- لم يُعهد في حياة فاطمة أنها مارست استبدادا مع زوجها أمير المؤمنين، خلافا للرواية.
- أليس أمير المؤمنين بقادر على أن يُقنع فاطمة بالحكمة والمصلحة من مبايعته في أي وقت يشاؤه، وإن لم تقتنع بالتوقيت فلا أقل لا تشكل ضغطا عليه؟! وهو في حدّ ذاته اتهام لفاطمة بعدم إدراك رؤية الإمام ولا إخلاصه للأمة، واتهام لأمير المؤمنين كذلك بأنه ينساق مع ردّات الفعل دون رؤية واضحة تجنب الأمة ويلات تفرقها وتطاحنها.
- هل من المعقول أن يُصدر الإمام فتوى لنفسه ويجرّ بني هاشم وباقي جمهوره للمقاطعة ستة أشهر أو سنوات دون تغير في الظروف، ويرجع للمصالحة والبيعة شبه الذليل لا لشيء إلا لأن فاطمة قد واراها الثرى؟ ما هكذا أمير المؤمنين وحاشاه!
- قول الرواية (وكان له وجه عند الناس في حياة زوجته فاطمة، فلما توفيت استنكر عليٌ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته) فهل كان وجه احترام الإمام علي مرهونا بفاطمة من دونه وفي حياتها فقط، فلما توفيت زال الاحترام واستنكر وجوه الناس، إنه تعبير لا يستدعي الردّ سوى الإثارة.
من هذه الأسباب يتضح رفضنا للرواية، فعليٌ(ع) فوق هذه الضغوط المدعاة وغيرها، ولقد جرب حظّه أبو سفيان وخالد ابن الوليد، وسعيا إلى الإمام (ع) أكثر من مرة يحضّانه على الاستمساك بحقه في طلب الخلافة؛ فطردهما، لكن أبا سفيان لم ييأس بل عاد بمغريات شديدة، لعلّ عليا يلين إلى عرضه، وتقدم قائلا: “إن شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجالا ولأسدنّها عليهم من أقطارها”، فقال له عليٌّ: يا أبا حنظلة، (إشارة مفهمة للنصيحة الخسيسة المرّة)، وأردف عليٌّ مستنكرا عرضه النتن “إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت للإسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك”.
لقد حزّ في نفس أمير المؤمنين أن تنشغل رجالات الأمة ولو لحظة عن مراسيم التجهيز والتغسيل والتكفين والصلاة ودفن الجسد الطاهر وتوديع نبيها الوداع الأخير، ثم تتفرغ لأمر الخلافة بعد حضور كافة أهل الحلّ والعقد، ومن هنا نتفهم بعض المؤاخذات التي أشار إليها الإمام علي(ع) في بعض خطبه وعتابه قبل البيعة، أراد الإمام علي أن يكون مشهد البيعة أقرب إلى العدل تتساوى فيه الفرص لمن يؤهل للقيادة لتتم البيعة في أكمل صورها، تكون مثالا تحتذي به الأمة، وتتراكم خبراتها السياسية، لكن الأمر قد حُسم في سقيفة بني ساعدة، واختارت أكثرية سادة القوم شخص الخليفة، وعلم عليٌّ(ع) وبنو هاشم بالأمر بعد انتهاء المشهد، وقد ارتأى الإمام علي أن يسجل تحفظاته على العملية الانتخابية، وسار مع الأمة في اختيارها في الأيام الأولى بعد وعيها للمؤاخذات، غير آبه إلى تحريض المحرضين وعتب العاتبين، فجمع بني هاشم عنده، ثم أرسل ابنه الحسن(ع) إلى أبي بكر(رض): أن ائتنا، ولا يأتنا أحد معك، فانطلق أبو بكر حتى دخل على بني هاشم عند الإمام (ع)، فقام الإمام علي (ع) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: “فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً فاستبددتم به علينا”4، ثم بايعه وبايع بعد ذلك بنو هاشم، وبهذا سدّ على بني هاشم فتنة أبي سفيان، وأبدى استعداده لمناصحة الخليفة والعمل بما تقتضي مصلحة الأمة ووحدتها.
استجابات