الحداثة:
الحداثة كلمة تُستخدَم اليوم كمعيار عند مناصريها على المصيب والخاطئ، والمتقدم والرجعي، من الأفكار والاتجاهات، ومؤخراً أصبحت عند معارضيها معياراً للكفر والإيمان.
ثم إنها الأمّ للكثير مما نتداوله من مصطلحات وألفاظ، من مثل الحريّة، الديمقراطية، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، العولمة، فصل الدين عن السياسة، وهي الأمّ كذلك لأكثر التوجهات والأيدلوجيات المعاصرة، من ليبرالية ومحافظة، واشتراكية ورأسمالية، وغيرها.
وهي شيء آخر غير التحديث، فما كل من قام بالتحديث حداثيا بالمعنى الاصطلاحي، خلافا للدكتور عبد الله الغذامي في كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) الذي تسامح في اعتبار الملك عبد العزيز حداثيا بمعنى ما، فيما لو كان يمارس الحداثة بوعي أنها موائمة مع العصر، فالتحديث بمعنى المواكبة قد لا يعني الإيمان العقدي بالحداثة، بل لمجرد المنفعة والمواكبة الدولية، فالحداثة اليوم عقيدة والتحديث مجرد وظيفة قد يمارسها الرؤساء القبليون المحافظون، كما أننا لن نُفرق هنا بين الحداثة بالمعنى النظري الذي تبلور في مراحل متأخرة نوعا عنها في زمن تبلورها الفعلي زمن عصر التنوير، إلا أننا هنا لا نعتني بخصوص ما خص الأدب والنقد منها، وإن كانت هذه من تلك.
الحداثة ثمرة أوربيّة:
تنظر أوروبا لنفسها على أنها مركز التفكير العقلاني، فالغرب عقلاني والشرق دينيّ، يعتمد على الأنبياء والرسل والصالحين، بينما أنبياء الغرب هم الفلاسفة العقلانيون والمشرعون المدنيون، فأفكار الغرب تنطلق من الإنسان وتعود إليه، أما الشرق فأفكاره فوقانية سماوية. ولهذا تجد أن الغرب يُؤرّخ للتقدّم والتطور ابتداءً منه، واستمراراً به، وبقاء فيه، فخط التقدم يبدأ من اليونان وينتهي بالحضارة الغربية المعاصرة.
وسُميّت العصور الوسطى بعصور الظلام، لأنها الفترة التي غزا فيها الدين المسيحي والفكر الكنسي أوروبا، وسيطر عليها قروناً طويلة، وصادر منها حق التفكير العقلاني المستقل، إنها فترة غزو الشرق للغرب، غزو الطوباوية اللاعقلانية لأوربا العقلانية الواقعية بطبيعتها.
ولهذا فالغرب يُؤرّخ للتقدّم من اليونان وينتهي به إلى حضارته المعاصرة، وأما بقية العالم فهم على الهامش، لا يكاد يقرّ لأي منهم بفضل، بسبب عدم استقلال عقلهم بالتفكير، والعقل الغربي عند عامة الأوربيين ينظر للناس من خلال هذا المنظار، سواءً منهم العنصريون أو الإنسانيون، فالعنصريون ذهبوا مذهب التميّز على الناس، وأما الإنسانيون فنظروا بإيجابيّة لتفوقهم حمّلتهم رسالة لتطوير البشرية كافة، وأن تطوير الإنسان مهمة غربيّة.
إن أوروبا تنظر إلى الدين كله كما لو كان نسخة كنسيّة، وموقفها من كل تفكير ديني أنه لا عقلاني لا تقدمي لا واقعي، ينطلق من مُسلّمات جاهزة، ونصوص ثابتة معيقة للتقدّم غير قادرة على التكيّف مع التغيير الذي هو سنة حتمية، فالغربي عموما غير قادر على استيعاب أن هناك فكرا دينيا وتقدميا في آن، فهما أمران متناقضان، فالديني ثابت والواقع متحول، والثابت غير قادر بالطبيعة على حكم المتحول، فالدين والعلم لا يمكن لهما أن يسيرا بالتوازي أبداً، فالدين يتخلف عن العلم، إن لم يكن اليوم فسيكون غداً، مادام العلم يتقدم باستمرار والدين واقفا باستمرار، فلأجل ألا يتخلّف المجتمع علينا أن نفصل الدين عن السياسة ، فنتبع العلم ونكون علمانيين، ونترك لمن أراد التدين الحرية في مجاله الشخصي.
الحداثة توجه:
الحداثة ليست عقيدة ونظرية منجزة، تضم أجوبة شمولية حول كافة القضايا، بل هي توجه وطريقة في التفكير، لها آثار ونتائج مستمرّة في التتابع وقد ينقض بعضها بعضاً، فليست هناك نظرة ولا نظرية واحدة في الحداثة، بل هناك أصول عامة غالبة تُمثّل خطها ومنهاجها، وهي من حيث الوجود متقدمة عليها من حيث التنظير الذي ظهر في الأدب والنقد، فهي حقيقة يمكن تأريخها منذ أن انقلب عقل عصر التنوير على العقل الكنسي واستلم منه قيادة أوروبا.
تعريفات الحداثة: ليس هناك تعريف واحد للحداثة، بل ذهب الغذامي للقول بأن كل حداثي له تعريفه الخاص بالحداثة، ولكن الأمر ليس بهذه الرخاوة، فالعبارات تتعدد ولكن ضمن مزاج متقارب، فمن هذه التعريفات(1):
- ماركس ودوركايم: “هي صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح مجتمع صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات”.
- جيدن: “نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي الكنسي.”
- كانط: “الأنوار” ( الحداثة ) أن يخرج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في استخدام فكره دون توجيه من غيره “، ” إن شرط الحداثة هو الحريّة بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل”. “تستبدل فكرة الله بفكرة العلم، وتقصر الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد”
- أدونيس: “هي الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام.”
- ناصيف: “الحداثة حالة خروج من التقاليد، وحالة تجديد”.
- كمال أبو ديب: “الحداثة هي وعي الزمن بوصفه حركة تغيير”.
” الحداثة انقطاع معرفي ( عن التراث ) ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث”
” كانط ” فيلسوف الحداثة:
منذ فرانسيس بيكون، والفلسفة ماضية في إجلال العقل وتعظيمه وتأليهه، فقد أصبح العقل – بعد أن كان الدين- هو مصدر الحق والعلم والتطور وتعاضد على ذلك من بعده سبينوزا ثم فولتير، فما جاء ما سمي عصر الأنوار إلاّ والعقل إلهاً يعبد، يُحّكم في الأمور كلها، وتراجعت منزلة الدين، وانتشر الإلحاد بين المثقفين والفلاسفة بل وحتى بعض رجال الدين، وتبناه بعض الملوك والأمراء وصار يُنشر برعاية ملكية.
ثم بدأ العقل يأكل منزلته بنفسه، وذلك حينما طالب جون لوك بتحكيم العقل في العقل؛ كيف يعمل هذا العقل؟ وكيف تبدأ المعرفة؟ وكيف تنشأ؟ هل هناك مسلّمات أولية فطرية تولد معنا وعلى أساسها يعمل العقل ويفكر؟ هل نحن نميّز بين الخير والشر بشكل فطري؟
جون لوك: ( 1632-1704 )
” قال بأن جميع أنواع المعرفة تأتينا بالتجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس، والعقل صفحة بيضاء حين الولادة خالياً من كل شيء، وتأخذ الحواس والتجارب في الكتابة عليه، فتتكون الذاكرة، والذاكرة تلد الآراء، فنحن لا نعرف شيئاً سوى المادة ومنها نستمد أفكارنا “.
جورج بركلي ( 1684- 1753 )
سلم بنفس مقدمات لوك ولكنه قلب النتيجة، فقال نحن لا نعرف المادة إلاّ من خلال الحواس، فمعرفتنا بأي شيء هي مجرد أحاسيسنا عنه، ولا توجد معرفة خارج الأحاسيس، إن الشيء مجرد حزمة من الإحساسات، تمثل الشكل واللون والملمس والرائحة والوزن، ولو فقدنا حسّ اللون لما كانت البرتقالة عندنا برتقالية، ولو فقدنا كل الأحاسيس لما كان هناك شيء موجود خارج الذات، وعليه فإن المادة ليست سوى حالة عقلية، والعقل هو الشيء الوحيد الذي نعرفه، فنحن لا ندري عن خارجنا إلاّ ما أحسسنا به منه وهذه الأحاسيس تولد أفكارنا فالمادة وهم لا نعرف جوهرها.
دافيد هيوم ( 1711- 1776 )
قال: كما أننا لا نعرف المادة إلاّ من خلال الأحاسيس كما قال بركلي، فإننا أيضاً لا نعرف العقل إلاّ من خلال الإحساس الدَّاخلي، فإننا لا نشعر بالعقل كذات مستقلة كما نشعر بالرجل أو الدماغ أو العين، فليست هناك ذاتٌ مستقلة فينا يمكننا أن نشير إليها بالعقل، بل هو مجرد حزم من الأحاسيس، وكل ما ندركه هو مجرد آراء منفصلة وذكريات ومشاعر، فالعقل ليس جوهراً هو الآخر، أو عضواً له آراء إنه مجرد أسم لسلسلة الآراء، فالمشاعر والإحساسات والذكريات هي العقل، وليس هناك نفس وراء عملية الفكر، وعليه فالعقل هو الآخر ليس ذات موجودة ، فنفى هيوم وجود النفس والعقل والمادة كجواهر ثم نفى فكرة القانون والحتمية، وقال بجواز تخلف القانون العلمي.
فانهار العقل كما انهارت المادة. ثم جاء “كانط”.
كانط ( 1724- 1804)
تساءل “كانط” هل حقاً أن العقل لا يملك مسلّمات أولية تولد معه؟ هل حقاً لا توجد حقائق ثابتة وإنما مجرد احتمالات غير يقينية كما ذهب هيوم؟ قد نقول نعم إن النار التي تحرق الأشياء قد لا تحرقها في كوكب آخر، أو أن الشمس قد لا تشرق غداً، ولكن هل يمكن أن يوجد وقت أو زمان تكون فيه 2+2 لا تساوي 4؟
وتوصّل إلى أن العقل ليس أداة سلبيّة تنقش عليها الأحاسيس ما تريد، ولكنه عنصر فاعل يتصرف في الأحاسيس ويُرّتبها وفق أنماط مقصودة لينتج منها أفكاراً تتوصل إلى الحقيقة بقدر دقتها في ضبط هذه الأنماط بعيداً عن مفسدات التفكير، إن الأحاسيس مشّوشة والتجارب غير مُنظّمة، فإذا ما استلمها العقل حَوَّلها إلى وحدة من الفكر المنظم والمرتب، وعليه فقد أعاد كانط للعقل استقلاليته وأثبت وجود المسلمات الفطرية لديه والتي على أساسها ينظم الأحاسيس والتجارب ليتوصل إلى الأفكار.
إن العقل يستقبل أحاسيس منفصلة ومشوشة، ولكنها إذا اجتمعت عنده في الزمان والمكان كونت معرفة، كالبرتقالة ينبغي أن تجتمع كل الأحاسيس في زمان ومكان واحد ليدرك العقل أنها برتقالة ويكوّن معرفة حولها، ولكن العقل ليس سلبيّاً حتى في تلقي الأحاسيس، فقد يرفض إحساساً ولا يتقبله إنه يختار بنفسه ما يريد التركيز عليه، فقد تستمع إلى حديث شخص واحد ضمن ضوضاء ، وقد لا ترى إلاّ طائراً في السماء تتبعه بعينيك فلا تلحظ آلاف الأشياء التي من حوله، فالعقل مريد ومتصرف وليس مجرد مستقبل لضرورات الإحساس، العقل سيد وليس مسوداً.
إن العقل هو الذي يُنظّم الأحاسيس والتجارب وفقاً لقوانين عقلية ثابتة كقانون الزمان والمكان، وقانون السببية وقانون استحالة اجتماع النقيضين والقوانين الرياضية، ولولا العقل المتصرف لما انتظمت معرفة ولا تولدت أفكار، وإن قوانين العقل هي نفسها قوانين الطبيعة، فالوجود كله يقوم على أساس من العلم والمنطق وليست أموره قائمة على الفوضى والعبثية، إن العلم مطلق والحقيقة خالدة.
اليقين النسبي:
ومع هذا فإن هذا اليقين محدود ونسبي، محدود داخل التجربة، ونسبي لهيئة تجربتنا البشرية، فظاهر الشيء كما يبدو لنا قد يكون مخالفاً كل المخالفة للشيء الخارجي قبل أن يجيء في دائرة حواسنا، ويستحيل علينا أبداً أن نعرف حقيقة ذلك الشيء الأصلي، لأن الإنسان لا يعرف إلاّ ما يصادفه في تجربته، فإن وقع ( الشيء في ذاته ) في حدود التجربة تغير أثناء مروره خلال الحواس والفكر ” إننا نجهل حقيقة الأشياء وماهيتها المستقلة عن إدراك الحواس جهلاً تاماً، إننا لا نعرف شيئاً عن الأشياء إلاّ كيفية إدراكنا لها، ولما كانت تلك الكيفية خاصة بنا، لم يكن من الضروري أن تشترك فيها كل الكائنات ولو أنها لا ريب عامة بين البشر جميعاً.” فنحن نعلم الشيء بعد تحويله إلى فكرة.
الدين الأخلاقي:
إن حفظ الدين يكون بالابتعاد به عن العقل النظري، وإخراج الدين عن متناول حكم العقل وسيادته، وليشيد الدين على أساس الأخلاق، الأخلاق المطلقة المستمدة من باطن النفس، يجب أن نجد أخلاقا عامة وضرورية، مبادئ أخلاقية مسلماً بها، ومطلقة وتعينيّة كالرياضيات، إن الأخلاق فطرية فينا ولم تستمد من التجربة وهي أساس الدين، وبسبب هذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا يكون العمل صالحاً.
الفرد والمجتمع:
هناك تنازع طبيعي بين الطبيعة الفردية والطبيعة الاجتماعية، فالطبيعة الفردية ميالّة نحو الطموح والزهو والحسد والغيرة والاستئثار والغلبة والتسلط، ولولا هذه الدوافع الطبيعية لعمّ الخنوع والتخلّف وماتت روح المغامرة والمنافسة، ولكن الحياة الاجتماعية تتطلب بالضرورة تنظيم المجتمع وسيادة القانون والمشاركة وحفظ النظام.
النظام الدولي:
وكذلك الحال في النظام الدولي، فالدول فيه كالأفراد وتجمعها كالمجتمع، ينبغي فيه للدول أن تسعى نحو النفوذ والقوة والحرية التامة اتجاه الدول الأخرى، وفي الوقت نفسه ينبغي على العالم أن يخلق مجتمعاً دولياً يحفظ النظام بين الدول ليسمح بالتنافس والنظام في آن واحد.
التاريخ تقدميّ:
إن تاريخ الجنس البشري يدل على أنه يتجه نحو تحقيق خطة خفية للطبيعة تستهدف إقامة نظام سياسي متكامل يتيح التطور لكل الإمكانيات والطاقات، ولولا هذا التطور والتقدم إلى الأمام لكانت جهود أعمال المدنيات المتعاقبة أشبه شيء بما حدث إلى ” سيفيوس” كلما بلغ بصخرته القمة أعادته إلى السفح.
الديمقراطية أساس السلام:
إن شروط السلام الأبدي بين الدول هي أن يكون الدستور المدني لكل دولة دستوراً جمهورياً، وأن لا تشن الحرب فيها إلاّ بعد استفتاء الجمهور، لقد وقف “كانت” مؤيداً للديمقراطية والحرية ودعا إلى إقامة النظام الديمقراطي في كل مكان.(2)
الركائز العامة للحداثة:
ترتكز الحداثة في كل مسيرتها وعلى تنوع تناقضاتها وتضاداتها، على محاور مشتركة، وهي مستمرة في النمو والتفاعل على امتداد تاريخها ولا تزال وهكذا ينبغي لها لكي تكون حداثة.
- المحور الأول:
العقل في مقابل النقل، فالنقل كلمة مرتبطة بالأديان خاصة السماوية منها لأنها تعتمد على النص الديني الثابت، على المعرفة المرتبطة بالمعرفة الغيبية المنزلة، والمستمدة من الوحي، حيث عادت أوروبا جرّاء مسيرة الإحباط مع الكنيسة، لبدايات سيرتها العقلانية مع الفلاسفة اليونان، فتعرفت عليهم من خلال التراجم العربية ثم من خلال العودة للغة القديمة، ثم التراث القانوني الروماني قبل المسيحية ” تشريعات مدنية “، فصار التوجه نحو الثقة في عقل الإنسان وأنه قادر على التوصل إلى المعرفة والحقيقة دون الحاجة إلى وحي السماء، أو وصاية رجل الدين، وأن مصادر المعرفة هي شيء آخر غير النصوص، بل هي في الفكر والتجربة والبحث المستمر عن كل جديد.
وبالفعل تفجرت العلوم نتيجة هذه الثقة وهذا التوجه، وتمكن الإنسان الأوروبي من إثبات ما يناقض نصوصه الدينية بشكل علمي ومثبت، وتمكن من اكتساب فاعلية هائلة ومتطورة في الاكتشاف والابتكار والإبداع، مما ساعده على التيقن من صحة مذهبه العقلي، وتمكن من تجريد المعرفة من بعدها الماورائي، وكسر التحريم واحتكار المعرفة حتى في النظر في النصوص المقدسة، وجعل العلوم ماثلة بين يديه يسقط منها كل يوم جزءً ويضيف إليها أجزاء في متوالية لا تنتهي.
- المحور الثاني:
العودة لاكتشاف الحق وما ينبع عنه من رؤية قانونية جديدة كأساس لبناء عدالة اجتماعية، فالحق لا يعني الشريعة، لأنه لا يرتبط بالانصياع لأحكام منصوص عليها أو مطلوب تطبيقها من قبل سلطة إلهية عليا فكرَّت في العدالة مرة واحدة وإلى الأبد، إنه جزء من التفكير المستمر في العدالة الإنسانية، تفكير المجتمع نفسه بعدالة أسسه وصلاحيتها، وهو ينبثق من الاعتقاد بأن على المجتمع (الجماعة) ككل واجب هو تحقيق العدل، وتكوين القوة العامة التي تتكفل بتطبيق القانون واحترامه، كقانون اجتماعي وليس ديني، فالمجتمع يحدد أهدافه ويصوغ تشريعاته وفقاً لحالته وظروفه بعيداً عن أوامر دينية أو تقليدية من خارجه أو من فوقه، وهكذا استقل مفهوم الحق بالمعنى المدني القانوني وتطبيقه عن مفهوم، الشريعة، ورجل الدين، وكتب الدين، وأصبح القانون مقدساً اجتماعيّاً ولكنه مفتوح على التغيير المستمر أيضاً.
- المحور الثالث:
النظر إلى الإنسان على أنه ذات حرَّة مريدة، وأن أفراده متساوون في الحقوق والواجبات فهم أنداد، فليس هناك ناس أعلى من ناس، فكل شخص سيد، والمجتمع يتكون من أفراد متساوين وعليهم مسؤوليات وواجبات ولهم حقوق متساوية ومن هذه ظهرت فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان ونبذ أنواع التمييز وحق الناس في رسم برامج حياتهم ومجتمعهم.(3)
بين التجديد والحداثة:
و الآن أين نحن من هذا؟ وأين هو الحق وأين هو الباطل في الحداثة؟ وكيف هو السبيل؟
لا شك أن الحداثة لم تفلح في الإجابة على السؤال الأبدي الذي ظل يلح على الإنسان منذ أول وعيه، والذي لولاه لما كان الدين؛ من أنا؟ ولم وجدتُ؟ وكيف وجدتُ؟ وأين سأذهب من بعد الموت؟ فإجاباتها المادية البحتة لم تتمكن من إبعاد الناس عن الحاجة لجواب الدين عن نفس الأسئلة، بل كانت أجوبة الدين أكثر قربا من نفس الإنسان ووجدانه، فأجوبة النظريات العلمية لم تجعل لخلق الإنسان هدفا، فقد نشأت الحياة في الأرض بالصدفة، ثم تطورت أشكال الحياة بالطفرة، ثم أثبت وجوده منها ما هو قادر على البقاء في الصراع. تسلسل لم يخرج الإنسان في وجوده عن اللاغاية، وهو جواب لا زال الإنسان يشعر ببعده عن تركيبته النفسية والعقلية والروحية.
كذلك لم تعتن الحداثة بالبحث العلمي الرصين عن سر النبوات السماوية، فهل يعقل أن يكون كل هذا الذي عند البشرية من تراث عن النبوات كذبا؟ ألا تعد كل هذه الآثار المتواصلة منذ القدم دليلا على صحة وجود الأنبياء والرسل؟ وصحة دعوى وجود عالم عاقل وراء عالمنا؟ وأنه يريد منا شيئا أن نفعله؟ لا شك أن آثار الدين هي أوسع وأظهر بكثير من آثار الحيوانات المنقرضة التي شغل العلماء أنفسهم بها طويلا ليثبتوا الديناصورات أو وجود الإنسان القرد، ولكن من ذا الذي لا تغلبه الأيدلوجيا؟
ولا شك أيضا أن الحداثة لم تنصف الأديان السماوية كعامل أساس في تطوير الإنسان منذ فجر الإنسانيّة، بل قامت بفعل موقفها المعادي للدين الكنسي بسرقة كل آثار الأديان السماوية وثمراتها ونسبتها للملوك والأباطرة والطواغيت عبر التاريخ، فلا ترى دراسة علمية تبحث في آثار آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرسل ولكنك تجد تعظيما لمن لا أثر له في تاريخ البشرية كالفراعنة وملوك الروم واليونان وفارس والصين وغيرهم على قلة تأثيرهم في الإنسان قياسا لتأثير أولئك الذين لا يخلو موجود بشري سابق أو لاحق من تأثيراتهم العميقة فيه، ولكن من ذا الذي لا تعميه الأيدلوجيا؟
ولا شك أيضا أن الحداثة قد قامت في الناس على منظومة من الإسراف، بدأ إسرافا في الإنتاج مع الطفرة الصناعية ثم بلغ النتيجة الطبيعية لتلك المقدمة فصار إسرافا في الإنتاج والاستهلاك، فنحن اليوم في حضارة الإسراف الذي يوشك أن يقضي على الطبيعة ونظامها، ويقضي على البشرية ونواميسها، فقد استهلك البشر في النصف ساعة الأخيرة من يوم البشرية أضعاف ما استهلكته كل الأجيال السابقة لنا، ففسدت الطبيعة وفسدت طريقة حياة الإنسان المنسجمة مع قدرة الطبيعة على توفير الموارد.
ولاشك أيضا أن الحداثة، قد قتلت منهاج الروح الذي عرفته البشرية منذ وجودها، فلا مجال للروحانيات في الحداثة وذلك بسبب الصرامة المنهجية في البحث العلمي والعقلي، الذي حدد أدوات المعرفة بما يثبت بالعقل والتجربة، فغاب عنا علم كثير مما تعجز أدواتنا العلمية على حضوره وإحضاره، بل لم يعد ما وراء الطبيعة يستحق أن يدخل دائرة العلم فهو عندها مجرد وهم، أو حالات نفسية على أفضل تقدير.
ولكن لا شك أيضا أن الحداثة قد وضعت يدها على الداء العضال الذي أصاب الدين، وأثارت حوله إشكالية عظيمة لا زال الفكر الديني ماكثا في حلها بما يعرف بجدلية الأصالة والمعاصرة، الثابت والمتحول، وهناك بالفعل من قدم جديدا في هذا المجال، إلاّ أنه يوجد أيضاً الكثير من الحلول المُزيّفة، التي لا تملك حلاًّ حقيقياً وإنما طرقاً ملتوية تتلبس التجديد شكلا، لتعود تستقر عند الموروث التقليدي المقدس في النفوس، فتلبس القديم ثوب الجديد، وإنما ليظل القديم قديماً خالداً وثابتاً مهما تخطاه العصر.
كل حركة تسعى نحو التجديد في الفكر الإسلامي والمجتمع المسلم مطلوب منها الوعي الدقيق لهذه المسألة بالذات، لأنها إذا لم تستوعب الأمر بدقة فقد تتوه فتخرج عن الدين، أو قد تعود للمحافظة على الجامد القديم، وبالتالي تذهب جهودها هباءً، وتعود ثمارها كقبض الريح، أو كالسراب يحسبه الظمآن ماء.
علينا أن ندرك أولاً أن مسألة التجديد ليست مسألة ثانوية يمكن للحياة والدين وخط السماء أن يستمر قائدا بدونها، فإنه وبالأخص في هذا الزمان الذي فجرت الحداثة الغربيّة طاقاته، فإنه إما التجديد وإما الموت والفناء واضمحلال خط الإيمان الحي الحيوي القادر على قيادة الإنسان نحو الريادة والسبق مع الهداية والتمسك بالمقدس، وهو كما ترى خيار لا خيار فيه.
إن ضمائر المؤمنين لا تزال متمسكة بالدين كمنجاة لها ومخلص، ولكن الناس متى لم يجدوا عنده الشفاء فسيبحثون عنه عند غيره، فلا أحد يريد البقاء مع العاجز الضعيف المتخلف عن التقدم والابتكار، وتطوير الحياة بالتقنيات الجديدة، وتوفير نسمات الحرية.
فأين التجديد من الحداثة؟
يشترك التجديد مع الحداثة في الإقرار للزمن بأنه عامل تغيير، وأن مسيرة التاريخ تقدميَّة، وأن العلوم تراكمية، وأنه من الواجب القيام بتطوير الحياة كلها بما ينسجم مع القدرة العلميّة والعمليّة للإنسان، فكلما زدنا علما وجب أن نزداد عملا بذلك العلم وإلا فلن يكون للتطور العلمي معنى عند الناس ولن يعودوا يكترثون به فيموت داعيه فيما بينهم.
ولكن التجديد يفترق عن الحداثة، أو قل المشتهر من مفهومها، بأنه لا يعارض وجود الأصول الثابتة ما دامت تقدمية، أو تسمح بوجود فهم تقدمي، فالحداثة بمفهومها السائد تعارض الأصولية بمعنى وجود ثوابت فلا ثابت فيها إلا عدم الثبات، بينما التجديد الديني لا يمكن له ليكون دينيا إلا أن يتمسك بالقرآن نصا ثابتا ومتجددا في آن، ثابتا في المبنى ومتجددا في المعنى، وهذا هو وجه إعجازه الأكبر. التجديد يرفض التقليد وهو هنا يشترك مع الحداثة، ولكنه لا يعارض إلا خصوص تثبيت الأصول المعيقة للتقدم سواء في مبناها أو جمود معناها، مع أن واقع الحداثة لا يرفض وجود أصول ثابتة بثبات انسجامها مع الطبيعة الإنسانية وقيمها، فلا شك أن جوهرة الحداثة وهي قائمة قوانين حقوق الإنسان هي أصول ثابتة على قيم راسخة لا يتصور تبدلها ما دام الإنسان إنسانا، فهذه أصول ثابتة وتقدمية في آن، والذين يرفضون كل الثوابت والأصول باسم الحداثة مشتبهون.
إذا ما تبين ذلك فيمكن القول أن مقتضى التجديد يلزمنا بأمور عدة منها:
أولاً: إنه وعلى عكس الفهم الديني السائد والمتشبث بالسلفية على ألوانها المختلفة، فإن المجتمع الفاضل والدولة الفاضلة هي دولة دائمة التجديد “حداثية”، لا يوقف تطورها جمود على نص تشريعي مهما كان مصدره، لأن التشريع ما جاء ليجمد التطور بل ليرتقي به، فمهما وجد المسلمون تشريعا هو أرقى وأحسن من التشريع الذي فهموه من النصوص فينبغي عليهم التحول نحوه، ولقد ضرب الله لنا مثلا بقضاء داود وسليمان في حكمهما في الحرث، فتنازل داود لحكم سليمان لما وجده أفضل من حكمه، رغم أن داود قد حكم بالشرع الذي كان يعلمه، فشرع الله دائما مع الأحسن والأكثر عدلا والأوسع رحمة بالناس، فالنبي شرع بلحاظ واقعه، وبما يصلح لعرب الجزيرة في زمانه لا بما يصلح للبشرية طوال دهورها.
وحتى القرآن الكريم، فإنه لابد من التفريق بين آيات القرآن بحسب فئاتها، فمنها ما هو من أم الكتاب ومنها ما هو من العلوم والسنن والتاريخ، ومنها ما هو من القيم الإنسانية الأصيلة، وهذه حق لا تتبدل ، ولكن آيات التشريع ليست مخلدة، فقد لا يكون ثابتاً، بل قد لا يكون مطلوباً إلاّ على نحو الكراهة بحسب ظروف التشريع أيام النزول، فمما لا شك فيه أن القرآن لم يكن ليحب العبودية، ولا التمييز بين الناس في الحكم بحسب مواقفهم الثقافية والفكرية، ولكن التشريع لا يمكن أن يحلّق في الهواء بل لا بد له من ملامسة الواقع، فآيات كآية اللعان والظهار وغيرها ينبغي السعي لجعلها منسوخة من حياتنا بالتقدم على موضوعها وقد حدث ذلك بفضل الله ورسوله.
وأحكام العبودية والأسرى والمحاربين كلها محكومة بظروفها الخاصة، وحتى الضرائب وغيرها من شئون الإدارة محكومة بظروفها الخاصة، يجب التحول عنها كلما عثر الناس على ما هو أحسن، أو كلما تغيرت الظروف التي اقتضتها، فأنْ توجد اتفاقية دولية تنظم معاملة الأسرى وتنظم الحروب وأنواع السلاح وحقوق المدنيين في الحرب وحقوقهم في الأراضي المحتلة، وأن يوجد عهد دولي لحقوق الإنسان يحفظ كرامته بما هو إنسان، وأن توجد عهود لحقوق الأسرة والطفل وغير ذلك مما تقدمت به البشرية ولم يكن ممكنا أيام نزول التشريع، لعدم إمكانية ذلك في ظل تخلف علمي و تقني هائل عن اليوم، هذا كله يوجب التخلي عن ما ورد من تشريعات ما كانت هي أفضل ما عند الله بل كانت أفضل ما يناسب الناس في ذلك العهد.
وقس على ذلك في كل مجال من العلاقات الأسرية إلى العلاقات الاقتصادية والسياسية، فالطلاق حلال مبغوض عند الله، ولو أمكن الرقي بالعلاقات الإنسانية حتى يبلغ بغضها للطلاق بغض الله له فلا تفعل ما يوجبه، أو تبتكر حلا بديلا عنه هو أرحم بالأسرة والأولاد لكان ينبغي الأخذ به وبكل سرور، فالتشريع يدور دائما وما ينفع الناس.
ولكن ذلك لا يعني استغناء الإنسان عن توجيه السماء، ولا استغناء المؤمنين عن أصول للتشريع، نعم هناك ثوابت في التشريع وهي المقاصد الشريفة للشريعة، من إحقاق الحقوق وإقامة العدل ورعاية الضعفاء وحفظ العقول و الأموال والأنفس، ورعاية الأسرة، ومحاربة الإسراف والتبذير، وحفظ عزة المسلمين.
ثانياً:إن الدين قد بلغ بالإنسان تدريجيَّاً نحو مرحلة القدرة على ممارسة عدد من واجبات الخلافة، ونيل الثقة في نفسه وعقله، وأنه قادر على تمييز الخير من الشر والفاسد من الصالح، وإقامة أوجه العدل، دون الحاجة إلى التوجيه في كل صغيرة وكبيرة، ، فقد اغتنمت الحداثة الفرصة، وأثبتت للناس قدرتهم، وأعادت لهم الثقة في أنفسهم، التي أفقدتهم إياها التربيّة الدينية الخاطئة، التي استبدّت بعقولهم وسلبتهم حريتهم وجعلتهم أسارى خوف الخطأ والخطيئة، وحاصرتهم بالوعد والوعيد، وحبست علمهم في النصوص دون السير في الآثار، في الوقت الذي لم يتكرر شيء في القرآن كما تكرر الحديث عن الخلق والحث على التدبر فيه، وأخذ المنافع المسخرة لنا منه، فآن للإنسان أن يتولى التشريع والاختيار لنفسه ومجتمعه، ولن تكون مهمة الدين إلاّ إرشاده لئلا يتجاوز حد القيم الفاضلة، ولقد كانت هذه إرادة الله منذ البداية حينما ترك كتابه الكثير من أمهات حاجات الإنسان والمجتمع دون تشريع، تركها للناس فهي من أمرهم الذي هو شورى بينهم والذي أسماه بعض العلماء بمنطقة الفراغ، وهي واسعة ولكن ينبغي أن ندخل ضمن التجديد كل ما هو خارج عن العبادات والعقائد والمقاصد الموافقة لكرامة الإنسان.
ثالثاً: إن الدين الصحيح لا يمكن أن يخالف العلم الصحيح، ولأن التأكد من الإثبات العلمي التجريبي هو أكثر مصداقية ويقيناً من التأكد من القول الديني الذي هو ظني الصدور أو الدلالة، فإنه متى ما اختلف ثابت العلم مع شيء من الدين علمنا أن ذلك الشيء من الدين إما أنه قد وقع له خطأ في الفهم أو أنه مما نسب للدين ولم يكن منه، فنتمسك بثابت العلم، ونتأول من الدين بما يزيل التناقض بينهما، وإذا لم يمكننا ذلك تركنا فهمه للتاريخ وتمسكنا بما علمنا من علم وتجربة، بل لو حدث وأن ثبت بالعلم والتجربة عدم موائمة ونفع تشريع ما في معالجة المسألة التي من المفترض أنه مجعول لمعالجتها، لكان واجبا علينا أن نعيد النظر في التشريع بما يعيد هذه الموائمة ويحقق الوظيفة، لأن الأحوال والأنفس لا تثبت على حال واحد، والتشريعات وظيفية توصلية وليست مرادة في حد ذاتها.
رابعاً: الحداثة لا يمكن لها إن أرادت أن تكون علمانية بحق وحقيقة، أن تقول لا لأي أمر لم يثبت عندها خطأه، ذلك أن أحد جواهر الحداثة الأصيلة هو القول بلا نهائية العلم، وأنه دائماً يوجد وراء كل علم علمٌ، وأننا لا نزال نجهل أكثر مما نعلم، وعليه فإنه يوجد من العلم المجهول ما لا نهاية مما لم نتوصل إليه، وهذا واضح في الكثير من الأسئلة التي يمكن طرحها في كل باب من العلم دون أن نجد لها إجابة، وواضح في عدم قدرتنا على تفسير العديد من الظواهر التي نلحظها ولا نعلم لها تفسيراً، وبالتالي فإذا وجد في الدين من الأمور التي لا نعلم خطأها ولكننا لا نعلم صحتها وثبوتها علمياً، فإن على العلمانية أن تتوقف ولا تجزم فيها بقول إن أرادت أن تظل علمية، وعليه فإنه قد يوجد في الدين ما ليس خطأّ ولكنه غير مثبت بالعلوم.
خامساً: يجب التسليم مع الحق في أن هناك العديد جداً من الحقائق التي لا يزال انكشافها لنا نسبيّاً بل وسيظل نسبيا، وأن الظواهر الاجتماعية بالخصوص هي نسبيّة الحقيقة، وقد لا تُشكّل أكثر من أفضليات عند قوم وهي ليست كذلك عند آخرين حتى لو جمعهم دين واحد، فإنّ أكثر الحسن والقبح اجتماعي وليس عقلياً محضاً، وبالتالي فإن دواعي تغير التشريع تظل قائمة اجتماعياً، كلما مَرَّ الزمان وتغير المكان.
سادساً: قد يتوهم البعض من أن حقيقة الإسلام والدين ستذهب إذا ما تغيرت التشريعات فيه، وهذا ليس صحيحاً البتة، فإن التشريعات في الإسلام لا زالت تتبدل وتنسخ وتجدد من لدن آدم حتى محمد (ص)، عقيدة في التوحيد ثابتة، وأخلاق أصيلة كبرى مستمرة، ثم تشريعات ونظم ومستحسنات ومكروهات وأعراف متناسخة على مر التاريخ، فإن التشريعات والأعراف وما شابه؛ كثوب الجان، لا بد من سلخها إذا ما ضاقت على نمو البدن، وما عادت تناسب حركته ونموه، والمسلم اليوم يجد المسلم مع نوح وإبراهيم يقفان في ذات الخط والاتجاه الذي يقف عليه، لا يفرق بينه وبينهم أنه يصلي الخمس ويصوم رمضان ويتزوج اثنتين أو واحدة فقد اختلف الشكل وبقي المضمون الأكبر، وهو الجوهر.
سابعاً: إن مما نؤمن به وينسجم مع الحداثة أن التشريع في الشأن العام الذي يمارسه البرلمان ينبغي إعادة النظر فيه بحسب القدرة التي تجدد بها علومه، فكلما ازداد علما وجب توظيف ذلك العلم في منفعة الناس تشريعا وتعليما وتربية وصناعة، والعلم الآن بلغت سرعته أن يتجدد كل خمس سنين، فينبغي مراجعة التشريعات في البرلمان كل خمس سنين، أو جعل هذه المدة مسوغا لطلب إعادة النظر في التشريعات.
ثامناً: إن علم الإحصاء هو سند التشريع، ينبغي توظيفه لتوفير قاعدة البينات اللازمة له، لأنه مؤشر علمي على فشل التشريع المعمول به من نجاحه، فينبغي تطوير أجهزة الإحصاء لتتابع كل أنماط السلوك المجتمعي وبعلمية رصينة لتكون هاديا في متابعة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
تاسعاً: إن الناس عبر أهل الحل والعقد منهم (النواب) مخولون بالتشريع وليس رجال الدين، لأن عملية التشريع إذا كان ينبغي لها أن تنظر من خلال ظروفها الحاضرة فلا معنى لمتابعة رجال الدين في ذلك لأنهم لا يؤمنون حتى اليوم بهذه الحيوية في التشريع، وإذا آمنوا بها فهم وغيرهم فيها على حد سواء، وليس صحيحا أن التشريع في الشأن العام هو حكر على رجال الدين، فقد شرّع المهاجرون والأنصار لأنفسهم طريقة الأذان وأقرّهم الرسول عليها وأخذ بها، بل وصارت دينا.
عاشراً: إن هذا التخويل للنواب بالتشريع يتطلّب شروطا للأهلية، فليس كل من أتقن الكتابة والقراءة صار مؤهلا للنظر في مصالح الناس والتشريع لهم، فلابد من توفرهم على درجة كافية من العلم والثقافة والأدب والتجربة والحكمة والموضوعية، وأما فتح الباب لكل من هبَّ ودبَّ من الانتهازيين والمتعصبين دينيا وسياسيا، أو البائعين ضمائرهم لمن يدفع من الحكام وذوي المال والنفوذ، فإنما يحقر هذه المجالس في أعين الناس ويفقدهم الثقة فيها، ويجعلها حقا غير مستحقة لأداء هذه المهمة الخطرة.
أحد عشر: إن التجديد قد يحمل صفات حداثية وصفات ما بعد حداثية، فهو من جهة يؤمن كما الحداثة بوجود حقائق منجزة وثابتة، وقيم إنسانية خالدة، ونصوص تتأبد مع الإنسان، ولكنه يؤمن في نواح أخرى باللاثبات وبنسبية الحقيقة في بعض معانيها، الأمر الذي يتطلّب تجددا مستمرا ولكن وفق مبادئ يقينية، ففي التجديد لا تؤخذ المواقف من الأيدلوجيا دونما محاكمة موضوعية، فالعلم والتجربة بما يثبت الفعل الايجابي للفكرة أمر مهم في التجديد، وإلا فلندعها ولنستبدل بها ما هو خير منها، فالمؤمنون هم الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم” الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، ولكن الأعراف والأفضليات المتفاوتة قد تشكل جانبا من النسبية و اللاثبات التي ينبغي احترامها.
اثني عشر: إن التجديد كما الحداثة غير مقتصر على جانب التشريع بل هو نمط من التفكير الحر القائم على احترام البرهان وعلى الإبداع وسعة المخيلة، والثقة بأن الإنسان قادر عليها، وأنه يسير بتطور في نهج تقدمي يزيد فيه كل جيل على من سبقوه علما وتجربة، بل إنه قد أبطأ طويلا، و تأخر كثيراً عن الدرجة التي يراد منه بلوغها، إلا أن التجديد الديني يظل مهتديا بالنص القرآني وما لا ينافيه من سنة الإنسان المعصوم وبالتجارب الإنسانية وبما تبين من مقاصد الشريعة في الفرد والمجتمع، في إطار من القيم الإنسانية الأساسية التي لا يمكن لها أن تتغير وإلا لأصبح الإنسان كائنا آخر، فالتجديد كما الحداثة ينبغي أن يظل طبيعة حياة ومنهج عمل يستحث الإنسان على البحث عما هو أفضل والتخلي عن المفضول، في إطار هدى نص سماوي مرشد لا مقيد، ودون الركون إلى السكون لمجرد أن هذا الذي بين أيدينا هو حكم شرعي، فهناك دائما في دين الله ما هو أحسن إذا ارتقينا للدرجة التي تؤهلنا له (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم)، والدين في عمومه له غايات عليا ألا وهي الارتقاء بالإنسان نحو معالي الأخلاق وبالعمران نحو الحضارة، وكانت هذه رسالته ولا زالت.
(1) علي وطفة، مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، موقع الجابري.
(2) ول ديورانت، قصة الفلسفة، ف 6، ص315.
(3) برهان غليون، محاضرة: الحداثة ومركزية الإنسان (في ذكرى رحيل محمد باهي)، مكناس 2006.