ثلاثمائة ألف كان تعداد حشدنا هكذا قالت الموالاة البحرينية، إنَّه أكبر حشد شهدته البحرين طوال تاريخها هكذا وصفت المعارضة مسيرتها، هذا وكلا الطرفين لم يملكوا بعد من الأمر شيئًا، ودون أن يكون للأغلبية والأقلية يومًا أثرًا معتدًا به في خياراتهم، فنحن لم نعش يومًا وفقًا لخياراتنا السياسية، ولم يأخذ أحد رأينا فيها، فقد نشأنا وأسلافنا تحت رعاية الآباء الرعاة (خلفاؤنا)، يدبرون شأننا، وينظرون في صلاح أمرنا، نظر الراعي للرعية، وتدبير الأب لأطفاله القاصرين، وقد مضي علينا ألف عام دون أن نبلغ الحلم بعد، فنحن القاصرون أبدًا، وهم الراشدون أبدًا، وهم يأتون ويذهبون وفقا لآليات نمطيّة أو فوضويّة متعددة، ولكن ليس من بينها أنَّنا انتخبناهم عن إرادة حرة، لا بل إنّ مفهوم الانتخاب عن إرادة حرة قد مات وبليت عظامه وانمحت آثاره من ذاكرتنا منذ قرون مديدة.
وأظننا إنَّما نتباهى بالكثرة تبعًا لما نسمعه من احتكام للأكثرية في الدول الديمقراطية، وربما لأنَّنا صدقنا أنَّنا نمارس ديمقراطيتنا (الخاصة)، والتي لا تحقق لنا من الديمقراطية إلا رغبة الاقتراع في صندوق، فإن تكن الديمقراطية اقتراعًا في الصناديق فنحن ديمقراطيون.
ولكن فلندع عنّا هذا جانبًا، فالوقت أضيق من أن نطلب فيه المثالية، ولننظر في واقع حالنا من النقطة التي نحن فيها، مهما كان أقلّ من المأمول، فلعله من المفيد أن نسأل أنفسنا منذ اليوم ونحن مقبلون على تغييرات سياسية لم تتضح معالمها: هل تصلح الأكثرية والأقلية منهجًا لحسم الخلاف السياسي في البحرين؟
لقد اختار منظرو الديمقراطية مبدأ التصويت ومن ثم العمل برأي الأغلبية كمخرج عملي من طريق مسدود، حيث أن رشاد العقل الإنساني لم يبلغ العصمة، فقدراتنا التربوية لم تمكّن عقولنا من بلوغ العصمة من الوقوع في الأخطاء، فلا نزال غير قادرين على التفكير الرصين من غير أن نتأثر بعراقيل التفكير المتمثلة في تأثير العقائد والمسلمات والسبقيات والتقاليد والانتماءات والأهواء وقصور العلم وغيرها، فلأجل الخروج بمخرج يجعل القافلة تسير بسلام أخذوا بحل الأكثرية، لا لأن الأكثرية تكشف خياراتها بالطبيعة عن الرشاد، ولذلك وخوفًا من تحولها أداة للاستبداد بالأقلية ابتكروا ممازجات متعددة كي تحد من استبدادها.
من وجهة نظري أنَّنا إلى الآن لم نبلغ المرحلة التي تصلح الأكثرية خيارًا سياسيًا ناجحًا معنا، ذلك أنّ الاحتكام للأغلبية يقوم على مفهوم آخر لا يزال هلاميًا في مجتمعاتنا العربية كلها، فعلى كثرة حديثنا عن المواطنة إلا أنَّنا لا نعني بها مفهومها السياسي الحديث، فهي لا تعني في فهمنا غير الانتماء للبلد واستحقاق حمل لوازمه القانونية، ولكن المواطنة هي قاعدة الديمقراطية، وهي تعني وجوب النظر لكل من هو منتمٍ للدولة بمنظار حقوقي واحد، وهذا سهل من الناحية النظرية، ومن ناحية التدوين القانوني، ولكننا أبعد ما نكون عنه من الناحية النفسية والعملية.
فنحن لا نزال نقدّم أسباب الولاء الأخرى من الدين والمذهب والعرق والقبيلة والمنطقة على المواطنة، ولا نزال نعتبر هذه الولاءات معايير حقوقية، نعم حقوقية، تقرّب وتبعد، وتوصل وتقطع، وتعطي وتمنع، قد لا ننص عليها في القانون وقد ننص عليها، ولكن سواء أنصصنا أم لم ننص فهي فاعلة في وجداننا وأعمالنا وخططنا!
فقلوبنا وأنفسنا وعواطفنا بل وعقولنا، لا تسكن نفس السكون الذي تسكنه للمسئول الذي لا ينتمي لولاءاتها، فالوزير الذي ينتمي لمذهبي وقبيلتي أولى وأحق بها من غيره، ولا نزال ننتخب نوابنا على أساس من هذه المعايير، هذا الشعور بقرب فئة وبعد أخرى يكشف عن تخلفنا النفسي والعاطفي عن مفهوم المواطنة، والذي يتطلب أن تكون أنفسنا وعواطفنا حيادية تجاهه، وأن تكون عقولنا في غفلة عما هو عليه من انتماءات لا تتعلق بمهمته، فلا يتبادر لعقولنا حين تسمع باختيار وزير أو انتخاب نائب شيء عن انتماءاته الأخرى غير السياسية، من دين ومذهب وعرق وعائلة ومنطقة، فهل يوجد فينا أحد قد بلغ ذلك؟ أم أنَّنا لا نزال نختار الوزير والخفير وفقا لانتماءاته التي لا علاقة لها بالمهمة الموكلة إليه؟
إنّ مفهوم المواطنة هو مفهوم سياسي حقوقي لا علاقة له بالهدى والضلال، ولا الإيمان والكفر، ولا بسائر الولاءات البشرية، فهو فقط يتعلق بالدولة وحقوق المواطنين، ولكنَّنا لا نزال نقدم في السياسة كلّ الولاءات الأخرى على مفهوم المواطنة، الأمر الذي يجعل احتكامنا للأكثرية والأقلية غير مضمون بتاتًا؛ لأنّه لا يؤدي إلى الرضا بالقرار ومن ثم مواصلة العمل بسلام.
قد تكون الظاهرة متوارية في بعض البلاد وملتبسة بمظاهر خداعة أخرى، ولكنها في لبنان واضحة جلية، ومن ثم فالاحتكام للأكثرية لا يورث لبنان الاستقرار والطمأنينة، وأزعم أنّ البحرين – في ظل الوعي السياسي المتخلف في هذه المرحلة من تاريخنا، والمتمثل في هيمنة الولاءات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية، وتحكّمها في عواطف الناس فوق المواطنة ومقتضياتها- هي كذلك مثل لبنان، فالتوافق لا الأكثرية هي المناسبة لحالنا المريض ريثما نشفى.
ولكن التوصّل لآلية فعّالة تقوم على التوافق دونها خرط القتاد، ولمن يريد أن يجلس لطاولة الحوار المرتقبة؛ ولمن لا يريد، نقول: نتمنى أن تعملوا على الإصلاح بتطوير السياسة في البلاد خطوات نحو المواطنة، ولأنّ البلاد كلّها بعيدة عن هذا، فإنّا نأمل منكم أن تستنطقوا عبقريتكم في استخلاص حلّ مناسب للعمل في ظروف تخلف الوعي الحقوقي والسياسي الذي نحن فيه، ولكن دون أن تتحول هذه الحلول إلى محاصصات طائفية وعشائرية تستبد بتاريخنا السياسي المستقبلي كما استبدت بلبنان، فهل يوجد نظام توافقي فعّال لا يكرس الطائفية والعشائرية؟ ابحثوا لنا عنه جزيتم خيرًا.