لقد عرف الإنسان العقيدة والمقدّس منذ باكورة وجوده، وأمّةُ الإنسان عموماً وأمّة الإسلام بالخصوص أمّةٌ مرتبطةٌ بالسماء، تحضّرت وتطورّت وقادت حين ارتبطت بالسماء جلب “عقائد” شتّى توجّه رسالتها ونظرتها، كما جلب لها “قداسات” تعبّر عن تاريخ ارتباطها بالسماء وتُعلن عن استدامته وعن احتفاظها بجذورها.
فهل ظلّت هذه “العقائد” و”القداسات” كما في بدئها، وكما يُراد لها، مطوّرةً للأمّة ومحافظةً على سموّها وعقلِها ووحدتها كما جمعتها وحدةُ الإله والقبلة الواحدة، أم تحوّلت إلى عوائق وسببٍ للانحطاط والجمود؟!
إننا كمؤمنين وورثة لرسالة خاتم المرسلين، نعتقد بصلاحيّة ديننا لرقي الإنسان في أبعاده المادية والروحية، لكنّا نقرّ بالوضع المتردّي لإنسان هذا العالم بمتديّنه ومنكره، ونؤمن بأنّ صلاح الإنسان لا يكون إلا به وبارتباطه بقيم الدين، وبأنّ الإصلاح لا يتمّ إلا إذا ابتدأ من النفوس وتمّ تصحيح النظرة للآخر المختلف في “العقائد” و”المقدسات”.
سنقتصر في هذا الملخص على التطرق إلى المقدّسات (والعقائد) في الدائرة الإسلامية والتي نعتبرها هي المعضلة الأساس التي تحتاج إلى حل جذريّ لما آل حال الأمة إليه من التقاتل والتشظّي وترك ما هو خارج هذه الدائرة- على الرغم من أهميته- إلى التفصيل الموجود في الورقة الأصلية لمن أراد التوسّع.
المقدّس داخل الدائرة الإسلامية
أولاً: ماهيّة المقدّسم / العقيدة:
(المقدّس): ليس هو اختراعاً إسلامياً، بل لقد عرفت الشعوب التقديس بوصفه شعوراً وجدانياً تجاه الأشياء التي لها ارتباط بالقوى العُلوية، وراحت تبني أماكن خاصّة محرّمة لحفظ هذه القداسة، فالتقديس شعورٌ فطري وطبيعي لما له علاقة بالله، وهناك كلمات أجنبيّة تعبّر عن سمات المقدسّ بوصفه المُغلَق، غير قابل للمسّ وللتدنيس والتطاول، وهو حسب بعض المحلّلين اللغويّين نفسه معنى كلمة (Sacred) التي تعني (الذي يُعزل لوحده) فلا يُمسّ وليس بمشاع (Common)، أي هي تماماً اللفظة السريانية (سِكْرِد / سِكْرِت) التي من كلمة (سكر) العربيّة القديمة، أي أغلق وسدّ وغطّى وحفظ وكتَم، واشتُقّت منها كلمات (Secret) و(Secretary) و(Secure) للحفظ والتكتّم. وهناك كلمة (Holy) أيضاً تستخدم للقداسة، وهي من (هالة/هالو: العربيّة السريانية) (Halo) التي جُعلت حول رأس القدّيسين.
فالمقدّس هو المنزّه في مجاله، الثابت، الكامل، المُبارَك، وهو المرتبط بالسماء، فهو يأخذ نزاهته بحرمة تدنيسه من حرمة الله. ولقد ورد اللّفظ (قدس) باشتقاقاته، قرآنياً عشر مرات: (2 القدّوس) (1 نقدّس)، (4 روح القدس)، (2 الوادي المقدّس) (1 الأرض المقدسة)، فثلاث منها للذّات الإلهيّة، وأربع للروح الربّاني الملائكي، وثلاث لأماكن ربّانيّة خاصًة، فهذه التحديدات تحكم موضوع القداسة ومفهومها، وإنّ المتتبّع للكلمة معجميّاً، واستعمالاتها على السنة العرب والسيَر، وباستقراء الطريقة التي تعاملت بها الشعوب مع ما دعوه “مقدّساً”، يستخلص منها احتفافَ “المقدسَّ” بالسمات التالية:
– له ارتباط بالسماء، دلّ على ذلك مشاهدة عيانيّة، أو أثر، أو نصّ، أو وحي، وأحياناً كشفٌ ورؤيا، أو مجرّد قصّة تُؤثر، فالنّاس تُقدّس (الله) في مقدّساتها.
– يتّسم بطهارة ذاتية معنويّة، تُعبِّر عن نفسها أحياناً بأعاجيب/ كرامات تُفصح عن شأنها برفضها التدنيس.
– له بركة ثابتة، روحيّة، وربّما مادّية أيضاً.
– شأنه الثبات، والكمال في ذاته، بدون تغيير ولا منقصة تستدعي الإتمام.
(العقيدة): فهي الحقائق الربّانية والإخبارات اليقينيّة التي يتبنّاها المرء، ومستقرّها القلب لا الاجتهادية الظنونيّة[1].
ثانياً: إشكاليّة المقدّس/ العقيدة
لو سألنا: هل هذه الحالة المرصودة في الأمة من الخصومة المذهبيّة في العقائد والمقدّسات خاصّة بأهل الإسلام؟ كلا، فاليهوديّة والنصرانيّة يتضمّنان مذاهب وفرقاً لا تتزاوج بينها، ومصادرها المرجعيّة وعقائدها ومقدّساتها وأعيادها وشرائعها مختلفة، وتبدّع ويُكفّر بعضها بعضاً .. (شهود يهوه، نسطور، يعاقبة، سامريين، كاثوليك، أرثوذكس، بروتستانت، مورمون) وهذا أمرٌ حكاه القرآن وحذّر منه ، ونصح بوحدةٍ ينبغي أن تكون بين أهل الكتاب تعتمد (الكتاب، التأهّل به، هدى الله هو الهدى، عدم احتكار الهدى ومصادرة الإيمان عن الشعوب، عدم سلب أشياء الآخر وتهوينه)، وأوجز بمقاصده أنّ اليهود على شيء، والنصارى على شيء، ولدينا السنّة على شيء، والشيعة على شيء، وغيرهما على شيء، ولا يُوجد أحدٌ هو على “كلّ شيء” لأنه حتماً عندها سيعتقد وسيقول للمذاهب المختلفة عنه “لستم على شيء”، سيقولها للآخر الذي لديه كتاب سماوي مثله[2]! وهذا إنّما هو نتيجة الغلوّ في الدين والمخاصمة وعصبيّة أصحابه وتفسيرهم الخاطئ، أي حين يتحوّل الدين إلى ملكيّة خاصّة، فهذا الصراع والخلاف يقع ولابدّ، لكنّه غير مشروع في الدين الخالص لله، العالميّ الأمميّ، الذي جاء للتآلف ولدخول السلام للكافّة.
– على مستوى العقائد الخاصّة:
لقد ظهر الاختلاف كنتيجة طبيعية لحرّية الفكر، ولتباينات الميول والطبائع، ونتيجة الاستجابة للحثّ على طلب العلم، إلا أنّ السياسة وطغيانها أفسدت الحالة الإنسانية وأخرجتها عن الحدّ الطبيعي المقبول للاختلاف الفكريّ إلى تمذهب عصبويّ متشاحن بالتنازع والافتراق، وأصبح المسلمون بعد مدّة غير بعيدة من رحيل نبيّهم الأعظم (ص) فرقاً متنازعة تؤسّس لعقائدها الحمائّية التي تعزل بينها وبين الآخر.
اليوم، بعد هذا الركام التاريخي، هل يمكننا فرز اللّب من عقائدنا عمّا ألحق به من الآراء، وجعل الآراء في دائرة الجواز للأخذ والترك؟ هل يُمكننا فرز عقائد الإسلام المشتركة للتوصّي بها والالتئام والتثقّف، عن عقائد الفِرَق، لإعذار بعضنا فيها، والتخفّف من تضخيمها؟
– على مستوى المقدّسات الخاصّة:
كما أسلفنا أنّ التفرّق ولّد “عقائد” خاصة ضيّقة، وولّد لكلّ فرقة “مقدّساتها” الخاصة بها، ونحن بهذا أمام أسئلةٍ ملحّة وهامّة توخّيا للإسهام في مداواة أمتنا:
– هل شاركنا في تفريق ديننا، وتفتيت وحدتنا، التي هي جوهر انتمائنا لله ورسوله (ص)، حين وسّع كلّ فريق من مقدّساته الخاصّة، جعلت التعايش أمراً مستحيلاً لأنّ الآخر المختلف لن يُوصم إلا بكونه منتهكاً لمقدّساتنا؟! هل وسّعنا حدود حرماتنا فوق حرمات الله ؟
– هل حوّلنا “الاختلاف” الذي هو للتنّوع، وآليّة لمنع أيّ إجماع لأمّة الإسلام على ضلالة، حوّلناه تحجّرا وتضييقاً وتقديسا للخصوصيّات وإلى تباغض واقتتال؟
فالذي يُناقش “عصمة وليّ” أو “عدالة صحابي” أو يُشكك فيها (باحترام) يُهيّجنا ويُفجّر أعصابنا بالحمم؟
– هل نستطيع تفهم “مقدّسات الآخر” فلا ننالها إلاّ بالتسامح الأخلاقي أو الجدل العلمي وأدب الحوار، فلا نفرض مقدّساتنا بالقهر، ولا ننسف مقدّسات الآخرين بالقوّة وبالهزؤ، فنجتثّ قبورهم، ونُطفّي نيرانهم، ونذبّح أبقارهم، ونفجّر أضرحتهم، وندنّس كتبهم ومعابدهم، ونسبّ رجالهم، ونستخفّ بشعائرهم؟!
– هل معنى حُكْمنا بعدم “قداسة” شيء أن نُصيّره مُهاناً ومدنساً، أم معناه ألاّ ينبغي الاحتراب عليه وإعلائه فوق الأولويات؟ ومعناه عدم تثبيته والاعتقاد به كمسلّم فوق النقد؟ فهل أضحى المؤمن أخفّ حرمةً وأقلّ قداسةُ من الكعبة؟ وإلا ما معنى أن يتقاتل مسلمان (شيعيّ وسنّي، وغيرها من تقسيمات تاريخيّة مطّاطة) بيافطة دينية ومسوغ ديني (مذهبي) وكلّ يزعم أنّ الآخر وطأ على مقدسه؟
– هل ثمّة مقدّس حقيقي وآخر وهميّ أو مبالَغ، كأن نقول أنّ مثال الوهميّ: (اللحية، الشطرنج، عدالة الصحابة، عصمة الأئمة، إيمان أبي طالب وآمنة، أفضليّة خليفة على آخر، التفاضل بالأسماء الولائّية، العزاء المواكبي وطقوسه، زيارة أو عدم زيارة القبول، تقبيل أو عدم تقبيل الحجر، الاحتفال أو عدم الاحتفال بمواليد الأنبياء والأولياء، اجتهادات الصحابة والفقهاء في الأحكام، أقوال الصحابة، وتفاسير المفسّرين، وكتب القدماء) وكأن نقول أنّ مثال المقدس الحقيقي: (ذات الله سبحانه، صحّة كتاب الله، مقام النبي (ص) وعصمته عن الفواحش والظلم وعن عدم التبليغ، الأعراض المحرّمة، القيَم العّامة، أركان الدين، وحدة الأمّة وقبلتهم)؟
ثالثاً: البحث عن الكلمة السواء(الحلّ)
إن تكوين الطليعة النموذج هو المنطلق الوحيد والبوّابة الكبرى للتغيير، قال تعالي: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)
“العلماء الأمناء” الحريصون على الأمّة، هم نواة طليعة التوحيد هذه، عليهم الخروج من ثقافة الخلاف والتنافر والجدل والاحتجاج على الأفضليّة التاريخيّة وغيرها من سفاسف، لينتشلوا أرجلهم قليلاً من مستنقعات الفِرَق والتيبّس في أعمال وحولها، ويشخصوا برؤوسهم إلى آفاق رحابة سماء الإسلام العظيم التي تُظلّ الجميع كما كانت أيّام البشير محمّد (ص). هذه الفئة الطليعيّة الرسالة النموذج، هي التي ينبغي أن تتوهج عمليّاً بأنوار “الكلمة السواء”، وثقافة “الكلمة السواء” المُسالمة المتسامحة، ليجتمع أفراد الأمة “كلمة سواء” اقتداء بالنموذج وتأثّراً برسالته.
ما هي “الكلمة السواء”؟
قال تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)، فما هي “الكلمة السواء” المطلوبة بين مجاميع فرَقِنا؟ ما تنزيل هذه الآية في واقعنا؟ فقد أسّست الآية الشريفة[3] في تنزيلها الأوّل ما يجمع ملل التوحيد (ملل أهل الكتب السماوية)، ولم تُدرج موائزهم الخاصّة، بل أرست المشتركات مثل التوحيد، وعدم الشرك، وعدم ربوبيّة الأشخاص، وتعني نبذ الطغيان، وهذه كلّها أبجديّات الحرّية الذاتيّة والاجتماعيّة والعدل الاجتماعيّ والتحرّر من الاضطهاد الديني والسياسيّ وإسقاط الوصاية الدينيّة والنفعية.
ولقد تكرّر في كتاب الله خطابُ (يا أيها الذين آمنوا) 89 مرّةً، لتدعيم وحدة الأمّة “المؤمنة” وبيتها الرسالي الداخليّ، لكنّه لم يكن الخطاب الوحيد تجاه الآخر المؤمن، بل ثمّة خطاب (يا أهل الكتاب/ يا أيّها الذين أوتوا الكتاب/ يا أيّها الذين هادوا) 14 مرّة لإرساء منطلقات مشتركة مع الأديان بالتوادد والتوافق والاحترام وعدم الاعتداء، وأيضاً حفل كتاب الله بخطاب (يا أيها الناس) كأكبر مشترك وهو “الإنسانية” 19 مرّةً، آملاً في حثّنا لاستكشاف تقاطعات مشتركة اعتقادية/ أخلاقيّة/ سلوكيّة، مع كلّ بني الإنسان.
“إنّ رؤيتنا لمستقبل الأرض يمّر عبر الدعوة إلى هذه الكلمة السواء، التي أوجب ديننا علينا أن ندعو الآخرين إليها، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، في إطار نصرة الحقّ والخير والعدل في كلّ مكان، بصرف النظر عن الجنس أو العرق أو اللون أو المذهب أو الرأي، إنّ الحوار الإيجابي البنّاء هو الجسر الحضاريّ الذي يجب أن يمتدّ في كلّ اتّجاه، لتمتزج أفكارُ بني الإنسان ومشاعرُه على موقف موحّد من قضايا الإنسان الكبرى”.
لأجل إرساء “كلمة سواء” في العقيدة، وتأسيس “ثقافة جامعة” توحّد شعور فرق الإسلام وطوائفه، ينبغي إنشاء مضمون مبسّط لهذا المشترك “الاعتقادي”، و”الثقافي”، بتحييد ما يُسمّى بـ”مفردات المذهب”، كما ينبغي إزالة موانع ومعوّقات تشكيلها، وهي طحالب العقائد والمقدّسات الزائفة، وبعض نماذجها:
- الأحاديث المزعومة حين تلبس القدسية فلا تُنقد، بخلاف القاعدة المحرّرة للعقول (اعرضوا أقوالنا على كتاب الله) (كونوا نُقاد كلام)، ولهذا وُجِد علم جرح وتعديل الرجال، وعلم تصحيح الأحاديث سندا ومتنا، ولقد كان علماء التجريح يطعنون في الرجال ويظهرون مثالبهم لأنّ ثمة أقدس منهم هو معرفة صحّة الحديث وانتسابه لفم القداسة.
- الرجال، وأراؤهم، حين تُقدّس وتُحاط بهالة، تكون سبب الجمود والحروب، وقد ذمّ القرآن هذه التبعيّة العمياء والتقديس التصنيمي في نموذج “ودّ وسواع ويغوث..” حيث تمّ توْثين الرجال الموتى الصالحين، وسمّاها عبادة الأسلاف والآباء وتقديس الأموات، وقد تحرّر الرعيل الأوّل من هذه القدسيّة الاستعباديّة، بتأصيل قيمة “التواضع” لنفي قدسيّة الرجال وإلغاء الشخصنة، فهذه آثار نبيّنا وصحابته كانوا يُناقشونه ويقترحون عليه، ويقول لهم: (لا ترفعوني فوق حقّي/ قدري)[4] (إنّما أنا بشرٌ مثلُكم)[5] وكانوا يُناقشونه (ص) ويقترحون عليه، وأبو بكر (رض) قال: (وليتُ عليكم ولستُ بخيركم فإن أحسنت بأعينوني وإن أسأت فقوموني)[6] واقترحوا عليه وسدّدوه، وعمر (رض) قال: (أصابت امرأة وأخطأ عمر) واقترحوا عليه وسدّدوه، ولما كتب أبو موسى كتاباً عن عمر، كتب فيه: (هذا ما أرى اللهُ عمر)، فقال: (امْحُه واكتب: هذا ما رأى عمر، فإنْ يكُ خطأ فمِن عمر)[7]، ونهى عليّ (ع) أن يُصنَع له كما يُصنع للملوك والجبابرة وكان المسلمون يُناقشونه ويقترحون عليه، وجرى التابعون بإحسان على النّهج المتواضع ذاته بأنّ أقوالهم تحتمل الخطأ، وكُتبُهم قابلةٌ للاستدراك والتبديل والردّ، وأنّهم رجالٌ كما أنّ الأوّلين رجالٌ، لا قدسية لهم ولا عصمة، بل لهم عقولٌ مبدعةٌ متحرّرة للبحث والنقاش والإصابة والخطأ.
- السابق من تقديس “أحاديث” و”رجال”، أنتج مسألتنا الراهنة الخطيرة من تقديس “الطائفة” و”المذهب”. لقد مات النبي (ص) وهو أقدس شخص في الأمّة، ولكنّه لأنّه أمرَهم أن يُوقّروه ويُعزّزه لا أن يُقدّسوه ويُوثّنوه، ولأنّه حّرر عقول صحابته وصاغها على الإبداع والاجتهاد لا التقليد الميّت، فقد خرج خليفتُه أبو بكر (رض) قائلاً: (أيُها الناس إنه من كان يعبد محمّداً فإنَّ محمّداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت)[8]، لكن حين مات أبو بكر وعمر وعليّ لم يخرج من يقول لطوائف الناس: (من كان يعبد عمر وعليّاً فإنّهما قد ماتا، والله حيّ لا يموت) حتّى الآن، ولذلك فالمذهبيّون يعبدون عمر وعليّا، ولو عبدوا محمّداً لاستفادوا الوحدة على الأقلّ مع هذا (الشرْك)!
فملخّصاً، ينبغي نزع القداسة (وليس نزع الاحترام وأدب المنطق الجدليّ العلميّ) عن كلّ ما ليس بمقدّس في ذاته، أي أنّ “مقدّسات الإسلام” هي التي يجب تعظيمها ولا ينبغي تدنيسها والاعتداء عليها والنيل منها، لأنّها تتبع قيَماً معيّنة، تمثّل حرمة الله فيها، والوحي هو من عرّفنا بها، مثل “ذات الله”، “أنبياؤه وملائكته”، “كلامه”، “بيته الحرام”، “قرآنه”، ..الخ. وكذلك حرماته مثل “الأشهر الحُرم”، “البيت الحرام”، “الدم الحرام”، “الأعراض”… الخ.
وهذا المعيار يبيّن نقيضه أنّ:
– ذات الله ونبيّه وملائكته مقدّسات، أمّا ذوات “غيرها” من الأعيان والرجال فليست مقدّسة.
– كلام الله مقدّس، تفسيرات وشروح هذا (الكلام المقدّس) ليست مقدّسة.
– كتاب الله هو المقدّس، بوصفه (لا ريبَ فيه) و(غيرَ ذي عِوَج) وما هو (قول البشر)، وهذا يستدعي عدم الإيمان بقداسة غيره من كتب أقوال البشر، التي لم تُحفَظ من الخطأ والزلل، فهي اجتهادات رجال واقتراحاتهم ونتاجهم (كصحيح البخاري، وكتاب الكافي، والصحيفة العلوية/السجادية، ونهج البلاغة، وما هو دونها قطعاً من كتب تفاسير، وعقائد، وفتاوى الرجال، وعلومهم واجتهاداتهم وآرائهم)، كُلّها يُوخذ منها ويُترَك، وتُناقش وتُردّ، إلا ّ كتاب الله فلا يُجعل عضين أبداً، فيُؤمن ببعضه ويُكفر ببعض!
– النبيّ مقدّس لا يُتَّهم في شيء ولا يُنال منه، ما يعني أنّ الرجال غير مقدّسين.
– كلامُ النبي غير مقدّس، لأنه يحتمل الدسّ، وأفهامنا لكلامه (ص) غير مقدّسة، إلا ما وافق القرآن، وكان المسلمون يُناقشون آراءه (ص) مع وجوده الشريف وصحّة ورودها عنه وفهمهم إيّاها، ويُناقشون آراء أهل البيت (ع) أمامهم.
نموذج أوّلي لثقافة جامعة:
إنّ على علمائنا صناعة نشء جديد يتمرّس على ثقافة “الكلمة السواء” التي هي “لبّ الدين” ومحجّته البيضاء الواضحة النقيّة ليلُها كنهارِها، مضافٌ إليها “ثقافة التسامح”، فيها:
- الاعتقاد يقيناً والتشرّب بأنّ النبي الكريم (ص) بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وقطعاً وضع الحجارة الكبيرة أولا، فأي زيادة أتت بها المذاهب فهي ليست من ضرورات الدين، ولا بالتي يبطل الإسلام بدونها، أي كلّ ما كان عليه النبي وأصحابه يكفي من علم واعتقاد وحال وسلوك، وأيّ زيادة فهي زيادة.
- ضرورة أن ننزع حرارة التقديس عن غير المقدّس على الحقيقة (إذ كما أسلفنا أنّ ميزة المقدس أن يُغضب له)، فلنبحث فيم غضب له رسول الله (ص)، لقد غضب لقيم الدين الإنسانية؛ لظلم الضعيف واليتيم ولم يغضب لشركٍ بجهل، غضب للحرب بين الإخوة، فالقيَم مقدّسة لا نتهاون فيها، وأفكار المذاهب ورؤيتها للتاريخ وأحاديثها المصحّحة من وجهة نظرها غير مقدّسة فعلينا إمّا أن نتجاوزها طلبا لقيَم أو نتناقش فيها دحضاً أو إثباتاً بلا حرارة التقديس والاستعداء والبغضاء.
- علينا أن نضع قواعد الدين نصب أعيننا، وقواعد الدين هي “عقائد فطريّة تجاه الله وخلقه”، تحكم المشاعر والفكر والسلوك. منها أنّ من قال (لا إله إلا الله) فهو مسلم، وأنّ “الإسلام” الظاهر هو الذي به يكون التزاوج والشهادات والمواريث، وليس بالمذاهب والتضييقات.
- وضع معايير سلوكية على هدي “الكلمة السواء”: (بالعدل والإنصاف، والنصيحة والاحترام، والمحبة والسلام)، مثل:
– احترام السلف الصالح والإيقان بفضل الصحابة على الإسلام والأمّة .
– ترك السبّ لأيّ أحد، وترك لعن الشخصيّات المقدّسة لدى مذاهبها، فالسبّ ليس من الدين أصلاً.
– السماح بحرية النقد والتعبير دون تطاول لمناقشة التاريخ وأحداثه بصدر رحب.
– وقف مسلسل تأصيل الخصوصيّة، والخصومة بها، والتبشير بها، لأنّها تؤصّل للعصبيّة.
– وقف الاستهزاء الطائفي، والتنابز، والتفاضل، والتربّي على السلوك الحميد تجاه الآخر المختلف.
على العلماء توجيه قواعدهم وطوائفهم لكلّ تلك السجايا والخصال الإيمانية المحمّدية التي بها علا الدين وصلحتْ الأمّة في بدئها، وإدانة كلّ السبُل التي تُخالفها في المجالس الخاصّة والمنابر الإعلاميّة والمنتديات، وتجريم فاعليها من أتباعهم وإنكار منكراتهم ووسمهم بعلامة الفساد لا الصلاح مهما بلغ فقههم وعلمهم ووجاهتهم، وتربيتهم بالنهج القويم بدلاً من التوجّه لإدانة الآخرين.
ختاماً: ما أحوجنا اليوم على قيامتنا متوحّدين لاستعادة رونق ديننا السمح الموحّد الذي منجاة للإنسانية جمعاء وليس لعزّتنا الخاصّة فقط، وهي مهمّة لا يقوم بها فقيهٌ أوحدي أو طائفةٌ مخصوصة ناجيةٌ أو غيرها من أباطيل وادّعاءات واهية! بل بتوافق أيدي رجالات وغيارى الأمّة وسواعدهم وأذهانهم وقلوبهم وتصافي نواياهم، فالدين الغالي هو آخر معاقل هذا الإنسان، وإن ثار الإنسانُ بالدين (الصحيح) على الظلم لاجتثاث الفساد، فسيحتفظ بالكرامة الإنسانية وسيترفّع عن أخلاق الهمج وسيُنتج صلاحاً حقيقيا مستداماً.
[1]– فالعقيدة خبر، والشريعة إنشاء (أي طلب)، الشريعة هي (الأمر والنهي) أي أحكام السلوك الفردي والاجتماعي. ومن نافلة القول نقول أنّ مصطلح (التاريخيّ) دالّ على فعل النفس البشرية وكسبها وإرثها والقابل التحوّل عنه. ومصطلح (الثابت) يدلْ على ما استقرّ بنصّ قطعيّ واضحٍ محكم الدلالة أُجمع على معناه بدون اجتهاد.
[2]– (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (البقرة: 113)
[3]– (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).
[4]– ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج4، ص76. وأيضاً: المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج3، ص652.
[5]– سورة الكهف: 110.
[6]– ابن حبّان، الثقات، ج2، ص157. وأيضا: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص20.
[7]– الغزالي، المستصفى، ص361.
[8]– الطبريّ، تاريخ الطبري، ج2، ص232.