جُرّد من لقب البطولة الذي ناله بجدارة، وعندما استبدل اسمه الذي كان يعتبره عنوان عبوديته باسم يمنحه الشعور بالعزّة والكرامة والحريّة، أبوا إلاّ أن ينادوه باسمه القديم لأكثر من عشر سنوات إمعاناً في الإساءة إليه وتذكيره بأيام الذل والاستعباد، ثم حُكم عليه بالسجن بتهمة اللاوطنية، كلّ هذا حدث لأنه اتّخذ قراراً شجاعاً برفضه الذهاب للقتال في فيتنام معلّلاً رفضه بمقولته المنطقيّة والجريئة: “لماذا يطلبون منّي أن أسافر أكثر من عشرة آلاف ميل تاركاً وطني لأجل أن ألقي القنابل الحارقة وأطلق الرصاص على الأبرياء في فيتنام، بينما ما يسمى بالزنوج هنا يعاملون كالكلاب ويُستنكر عليهم الحصول على أدنى حقوقهم الإنسانية، لا .. لن أسافر لأساهم في قتل وحرق أمة فقيرة أخرى لأجل أن تستمر هيمنة هؤلاء البيض أسياد العبيد! إن أعداءنا الحقيقيين يعيشون هنا، فأنا لن أجلب العار لديني، ولا لشعبي، بأن أجعل من نفسي أداة لاستعباد الذين يحاربون من أجل العدالة والحرية والمساواة، ولا أخاف أن أخسر شيئاً إذا تمسكت بمبادئي، سوى أنني سأُسجن، لم يأتوا بجديد، فنحن في سجن منذ أكثر من 400 عام!”.
هو بطل الملاكمة المعروف “محمد علي كلاي” الذي وُثّقت مقولته تلك ومقولة عدد كبير من الشرفاء المتمرّدين على التمييز العنصري الممارس عليهم من قبل المحتلّين البيض في أمريكا في الفيلم الوثائقي “الشعب يتكلّم”، حيث يستعرض مقاطع تاريخية مفصلية ومهمة ساهمت في نشأة أمريكا؛ مهد التنوّع والديمقراطية والحريّات وحقوق الإنسان، ليؤكّد على أن ما وصلت إليه أمريكا من تطوّر وما يتضمّنه دستورها من بنود تؤسّس لحفظ حقوق الجميع إنما كان بفضل المواقف الشجاعة التي وقفها أولئك السود الموسومون بالتمرّد ما اضطرّ الحكومات المتعاقبة إجراء تعديلات على الدستور عدّة مرّات.. سرد قصصهم وأقوالهم على أمل أن يتعلّم أبناء اليوم من هذا التاريخ المليء بمآسي وآلام السكان الأصليين أو المظلومين إيمانهم بحقّهم في العيش الكريم، وإرادتهم الحديدية بالعض عليها بالنواجذ.. فمقاومة الطغيان طاعة لله في عقيدة هؤلاء.
قد يخلق التعرّف على التاريخ بعمومياته نوعاً من السلبية والاتّكالية لدى أجيال اليوم لأنه ينقل نتائج الأحداث لا مفاصلها الدقيقة، ويصوّر الأبطال لحظة الانتصار لا معاناتهم اللحظية وتضحياتهم المتكرّرة ما يوحي للقارئ بأنّ كل ما عليه أن يفعل هو أن يذهب لصندوق الاقتراع كل أربع سنوات ليختار من سيقوم بمهمّة التغيير نيابة عنه! وهذا غير صحيح بل لابدّ أن يفهم الجميع بأنّ التغيير سيحدث بعد أن يقوم كلّ بدوره وبتقاسم الآلام والتضحيات، وأن الكلّ معنيّ أن يخطو نحو التغيير المنشود بدوافعٍ ذاتية لا بضغط خارجي، وأنه لا ينبغي الاعتماد على الآباء المؤسسين، ولا بانتظار المنقذ ليقوم عنّا بما هو واجب علينا، وأن نعتقد بأنّ ممارسة الديمقراطية تبدأ من القاعدة لا من القمة.. والتاريخ يشهد بأنه لم يحدث تغيير جوهري قط إلا بعد المطالبة والإلحاح والتضحية.
الصورة تتكرّر مع كل حالة اغتصاب حقّ ونهب وظلم وتمييز واستبداد وطغيان، على كل بقعة في الأرض وفي أي قطعة من الزمن، لقضية كبيرة أو صغيرة، أمميّة أو فردية.. والرسالة هي الرسالة لن تتغيّر مهما تنوّعت أساليب الغصب والاحتلال والابتزاز وما يقابلها من طرق المقاومة والصمود .. فللتغيير أثمان باهظة لابد أن تُدفع، ولا يدفعها إلا الشرفاء المتحدّون للظروف مهما صعبت، ولن تُدفع إلاّ بالتجزئة؛ قطعة قطعة من جهود وأعمار وأموال وراحة المخلصين لقضاياهم، المؤمنين بعدالتها، وإن طال الزمن ومهما استشرى الشرّ أو استبدّ، وإلاّ فمقبرة التاريخ مليئة ببقايا من تخلّى عن حقّه وباع قضيته بثمن بخس.
انظروا إلى ما يحدث في فلسطين كل يوم منذ أكثر من ستّين عاماً من هدم البيوت والاستيطان وجدار الفصل العنصري وما يتخلّل كل ذلك من آلام ومآسي لا عدّ لها ولا حصر، ورغم ذلك فالمتمرّدون على ظلم المستعمرين لازالوا صامدين محتسبين يسجّلون مواقف شجاعة هي مدعاة للألم والقهر اليوم ولكنها مصدر فخر واعتزاز، وغداً، عندما تعود أرض فلسطين – كل فلسطين – إلى أهلها لابد أن تُروى قصص أولئك الأطفال والنساء والرجال والشيوخ الذين ماتوا بغصصهم، وضحوا براحة بالهم، واحتملوا الأذى والعيش المهين في أرضهم، ولم يتخلّوا عن حقّهم، لكي تتذكّر الأجيال اللاحقة تضحياتهم فيحافظوا على ذاكرة تاريخهم المكتوب بدماء الشرفاء منهم.
وحتى تكتمل الصورة لابد من سرد قصص سرّاق الأمن والسلام ومزوّري التاريخ في العالم، أولئك الذين ارتكبوا الجرائم في حق الإنسانية ولا زالوا، حيث طال التزوير في منطقتنا التاريخ والجغرافيا والآثار والأعراق مصحوباً بجرائم الإبادة والتهجير والتشريد في محاولة بائسة لطمس الذاكرة العربية – كما عبّر عن ذلك ببيانه البليغ المفكّر الدكتور أحمد داوود في كلمته التي كتبها لحفل تدشين “مفكرون ضدّ التزوير” الذي أطلقته جمعية التجديد الثقافية مؤخّراً، حيث قال مخاطباً الغرب الجاحد: “أعدتم كتابة التاريخ وحذفتُم منه أسماءنا نحن الذين منحناكم أسماءكم وعلمناكم كيف تكتبونها لأول مرة، واخترعتم على أنقاضنا شعوباً وأعراقاً وقبائل وكذبتم في كل ما تقوّلتم، وجعلتم حقائق التاريخ تمشي على رؤوسها، وسعدتم كثيراً بفعلتكم تماماً كسعادة ذلك الخنزير البرّي الذي أخذ يعدو في حقل من القمح ويموج دماراً بالسنابل.. ذهب الخنزير البرّي وبقي الحقل، وبقيت حبّات القمح حاضنة للذاكرة”.