مقدمة الملف

ليس ثمة مؤسسة كوّنها الإنسان بعد الأسرة أعظم أثرًا في حياته وتشكيل هويّته من الدولة، ولقد تطوّرت نشأتها حتى استلمت الكثير من المهمّات والأعباء التي كانت تقوم بها الأسرة، من تربية وتعليم وأمن وعلاج ومسكن وغذاء وتشكيل هويّة وذوق وانتماء ومسلك، فالدولة الحديثة تهيمن على كلّ مفاصل حياة الناس من حين ولادتهم إلى يوم وفاتهم، يولدون عندها، ويوثّقون في دفاترها، ويدخلون حضاناتها ومدارسها وجامعاتها ويُصاغون ويُقولبون بإعلامها، ثم يعملون في وزاراتها ومؤسّساتها، أو في ما تأذن به من شركات وصناعات ودُور مهَن سبق وأن تمّت تهيئتهم للخدمة فيها، ثم ترعاهم مسنّين، ثم يدفنون بإذن منها. ولقد بلغ الأمر بالعديد من المفكرين أن باتوا ينادون بالحدّ من تغوّل الدولة على حياة الناس.

لقد وضع الإنسان لهذه الدولة تصّورات ونظماً لا تكاد تتوقّف، كان آخرها تطوّرا النظام الديمقراطي في الحكم القائم على الاعتراف بأنّ السلطة للناس (أي موافقاً للمقول المأثور “الناس مسلّطون على أنفسهم”)، هم يخوّلون السلطة لمن يرتضونه أو يختارونه من الرؤساء والنوّاب ليحكموهم وفق دستور مُدوَّن مصدَّق عليه من غالبيتهم أو من ممثّلي مكوّناتهم، ولقد بلْور الإنسان ما يعرف بمفهوم “المواطنة”، والتي تجعل الناس المحكومين بالإطار الجغرافي والسياسي للدولة على قدم المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون، بغض النظر عن جنسهم ودينهم وعرقهم وطبقتهم.

هذه المفاهيم -أو لنقلْ أنّ تأصيلها وتفصيلها- لم يتوصّل إليها الإنسان إلا مؤخّراً كونها بُنى فوقيّة تنعكس على تطوّر بنية المجتمعات وعقليّتها ومفاهيمها المعرفيّة السياسية والحقوقية، جاءت بعد أزمنة طويلة من دول القبليّات والقوميّات والإمبراطوريات القائمة على القوّة والغلبة، وعلى اعتبار الناس تحتها متفاوتين في الموائز والفرص، موزّعين بين سادة وعوام، طبقات متباينة في المستويات الحقوقية، وعليهم جميعاً واجب الطاعة للحاكم لتوسّل رضاه وتجنّب سخطه، وكان العديد من الحكام يدّعون الحكم باسم الله أو الآلهة وأنهم من سلالات ممتزجة بالآلهة أو مخوّلة منها.

الدولة من المنظور الإسلامي تقع اليوم في فهم المسلمين بين هذين التجاذبين؛ فهْمٍ يريدها دولةً دينيةً محضة تمسك بتلابيب السياسة لتحكم بخلافة كالخلافة عن رسول الله (ص) أيام الراشدين (وفق تصوّره)، بل البعض يوسّع في نموذج مشروعيّتها مُدخِلاً مَن جاء بعدهم من خلفاء التسلّط  والغلبة من الأمويين والعباسيين وسائر حكام المسلمين البائدين، الذين سلكوا بالدولة مسلك الإمبراطوريات الأوتوقراطيّة، مدّعين أنهم مخوّلون بالحكم بكتاب الله، وأنّ طاعتهم واجبة بأمر الله كونهم “أولي الأمر”، وفهْمٍ يريدها دولة ديمقراطية قائلاً إن الديمقراطية من قيَم القرآن، وأنّ دولة الرسول (ص) كانت تقوم على أساس البيعة والشورى، والبيعة عقدٌ بين الناس ومن ارتضوه من حكام، كلٌ يجب عليه أن يلتزم بما فيه، وأنّ السلطان للأمّة، يبايعون من يثقون به، ولو زالت الثقة بمخالفته للعقد، حقّ لهم أن يعزلوه ويقيموا غيره، وأنّ الحريات مكفولة والحقوق مصانة.

ومع اعتقادنا بأنّ الفهم الثاني هو الصواب وأنّ الديمقراطية بالمعنى الذي يجعل السلطان في السياسة للناس وضرورة رضاهم وبيعتهم هي من نفس جنس البيعة بيعة الرضا، إلا أنّه ينبغي الالتفات إلى نقطة مهمّة جداً، وهي أنّ الدولة كنظام ليست مفهومًاً دينياً أو تعبّديّاً، بل هي نظام عقلانيّ ابتكره الإنسان لتنظيم شئونه مثله كمثل الأسرة والقبيلة والحلف، فليس في الدين وصف لنظام الدولة، وليس هناك من هيئة مخصوصة يجب أن تكون عليها الدولة في الإسلام، فالنظام السياسي قالب، ولكن المهم في الدولة تحقيق المقاصد من حرّيات وعدل وأمن وكرامة عيش، وأن تحكم برضا الناس واختيارهم دون استبداد عليهم، وأن تعمل على توفير الحاجات المجتمعية من أرزاق وأمن وتعليم وتنظيم المسالك، وأن يكون الناس فيها متساوين أمام القانون، وأما طبيعة النظام وآلياته وأدواته وتشريعاته وعقوباته فحتماً ستختلف وتتطوّر، فالبيعة والعقد لن يقف على الهيئة التي كانت زمن رسول الله (ص)، بل تتطوّر كما حدث بالفعل في الديمقراطية الغربية بعد أكثر من ألف عام على بيعات النبيّ (ص) ونوّابه وعقوده مع المسلمين وغير المسلمين، فلا ينبغي الجمود على ما كان، بل لا يهمّ إن كان قد حدث ذلك أم لم يحدث، فالدولة كائن “تقنيّ” ينمو ويتطوّر وعلينا أن نبتكر من القوالب والأنظمة السياسية ما يمكّننا من الأداء الأفضل لتسيير الوطن وخدمة الناس وأداء المقاصد منها، فليس ثمة قداسة لقالب تاريخي ولا معاصر.

إنّ أمتنا الآن لا تزال في هذه المرحلة البرزخية، لم تنته إلى نهايات يسكن إليها رأيها العام، وترتضيها أسلوبًا للحكم ينسجم مع مقاصد الإسلام، ولاعتقادنا بأهمية الجدل في هذه الناحية المهمّة إلى أن تصل الأمور إلى القناعات النافعة المفيدة، لعل الأمة تبلغها ذات يوم، فإننا نطرح هذا الملف حول بعض قضايا الدولة في منظورنا التجديديّ، معتقدين بصحة من قال بأن طبيعة الدولة في الإسلام منذ البداية هي أقرب لقيَم الديمقراطية وخصوصاً من حيث إقرارها بأنّ السلطان السياسيّ هو للناس وأنهم لا يُحكمون إلا برضاهم، ولكن بما أنّ الدولة نظام يتطوّر فإنّ علينا أن نتطوّر فيها وفقا لأفضل ما توصّلت إليه تجارب الإنسان، ولا مانع بتاتاً من تطويره أيضاً والإضافة عليه وتحسينه بل البحث عما هو أفضل منه، فليس ثمة قالب مقدّس، ولكن حرية الإنسان وكرامته وخدمته بالقسط والإحسان والحفاظ على ثوابت قيَمه هي المقدّسات.

عناوين الملفّ عيّنات تمّ اختيارها بعناية، تختزن باختزالٍ نظرتَنا وتنظيرنا لزوايا من قضايا مختلفة تتعلّق بالدولة، لا كلّ ما يتعلّق بخارطة الدولة، نتمنّى أن نتمكن من خلال موجزاتها جعل الجدل في هذه القضية حاضر التداول في ثقافتنا، لأنها من أخطر القضايا تأثيراً على الحياة وعلى الدين وعلى تطوّر الوعي الفرديّ والجمعيّ في هذا العصر، فالانشغال بها مصيريّ ثقافيّاً وحضاريّاً، وهو خيرٌ للمسلمين من الانشغال بالقضايا المفتعلة المفتنة المفتتة لوحدتنا، الضارّة بإلفتنا، كتلك التي ينشغل بها المتعصبّون والمتمذهبون والمهيَّجون.. أو الأخرى التقليديّة الفارغة المخدّرة للعقول المهدرة للطاقات والأوقات… والله من وراء القصد.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة