تعالوا نتحاور حول خلافنا بدل أن نتقاتل”، “لابد من الحوار لحل القضية”، “نؤمن بالحوار لحل المشاكل العالقة”، “يجب أن يكون الحوار شاملا لكل الأطراف”، “يجب أن تكون هناك ضمانات لنجاح الحوار”، “لابد من تحقيق بعض الشروط لإقامة الثقة قبل بدء الحوار”، “لا حوار مع القتلة”، جلبة كثيرة تثار في كل يوم منذ أن أعلن ولي العهد الدعوة إلى طاولة الحوار كسبيل للخروج من المأزق. سرعان ما ألحف كثيرون السير نحو الطاولة، جماعات ووحدانا، كل يبحث لنفسه عن مقعد يريد أن يكون لوجهه إطلالة ولو من كوّة من الصورة تدل على أنه كان موجودا، وأنه على أهبّة الاستعداد لتولي المسئولية، فتنادى من لم تنفعه فرديته إلى التكوّن جماعة، مع أنّ منهم من هو منتمٍ لجماعة في مفروض الحال، ولكنّه أراد أن يبدي استعدادا شخصيا لن يتجلى فيما لو كان تحت لواء جماعته، ومنهم من يبحث عن باب يرضي ضميره ولو بشيء يسهم فيه، ومنهم من أراد رفع العتب ليس إلا، ومنهم ومنهم… كلّ له شأن يعنيه.
وتنادت الجماعات إلى الاتحاد جماعة مع أنّها كانت للتو قد أعلنت البراءة من بعضها، ولكنّ المعركة الحاسمة أرغمتها على التجمّع جبهة واحدة، فكانت حصيلتنا: تجمّع الجمعيات السياسية، التجمّع الوطني، الائتلاف الوطني، تجمّع التجار، والحبل على الجرار.
ولكن ولي العهد لايزال ينتظر القوى الفاعلة الحقيقية، وأولها شباب الفيس بوك الغامضون، إنّه يريد التحاور مع من يشكّل الحوار معه حلا فعليا، والذي بدونه لا تعتبر قضية الشارع محلولة، وأما الطامعون في قطعة من الكعكة، ممن لم يكن من عادتهم الفعل، أو ممن كان فعلهم غير ذي خطر، أو ممن يحضرون بحسب الطلب ويغيبون بحسب الطلب، أو ممن هم مجرد رؤوس بلا جثث، أو برؤوس كبيرة وجثث صغيرة، فهؤلاء مجرد أدوات في المعركة، ستوظف للضغط على محركي الشارع الفعليين، والذين هم جسم هلامي ” فغلول” (قنديل بحر)، غير قابل للقلي أو الشّيّ، ولكنه مع هلاميته لاسع وقاتل، ولن يكون مغنيا عنهم حضور الجمعيات السياسية المعارضة مثل وعد والوفاق، بل ولا حضور حقّ و تيار الوفاء اللذان يقفان على اليسار ويسار اليسار.
ولكن ما هو هدف هذا الحوار؟ هل هناك قضية غامضة؛ الآراء حولها مختلفة، فيكون الحوار سبيلا لتقارب الآراء؟ أو أنّ هناك حقا متنازعا كلّ يدعيه لنفسه فيجلسان للحوار بدلا من النزاع؟ ليتبين كلّ طرف ماله وما عليه. الهدف التكتيكي الأساس هو إذابة طحين الثائرين في ماء الطاولة الغزير، حتى يظهر أنهم ليسوا بالقوة القادرة على تكوين العجينة بمفردهم، فحول الطاولة ستتساوى القامات أو هكذا يراد، القزم والعملاق، القائم والقاعد، اليمين واليسار، تبريرا للضآلة التي يراد أن يتمخض عنها مولود الطاولة، فـ”جبل” الطاولة يراد له فعلا أن يتمخض عن “فأر”.
الحقيقة الصارخة هي أنّ الهدف من الحوار عمل صيغة تُجزّئ الحق، والذي نعرفه جميعا ولكن نفوسنا غير سخية به، شحيحة عليه، فنجلس كي نحتال على أنفسنا بتسليم قسط منها الآن مقابل إيقاف المطالبة بالباقي، إنها أشبه بعملية مقاصّة بين دائن ومدين ميؤوس من قدرته على أداء الدين فيقبل الدائن بعض حقه ويسقط الباقي، على قاعدة شيء خير من لا شيء.
هذه القاعدة تتطلب من المعطي أن يوصل المُطالِب إلى درجة اليأس، وإقناعه بوسيلة أوبأخرى بأنه إن لم يقبل القليل فلن يحصل على شيء، وإنها فرصته الأخيرة، وإنّه قد لا يلقى – إن ذهب هذا الطرف المحاور – من يؤمن بالحوار، وهكذا، وطبعا سيعمد الطرف المطالب إلى رفع سقف مطالبه، وأنها ليست الدين فقط بل وفوائده، وبأثر رجعي، وإنه إن لم تسلّم إليه كامل حقوقه فسوف تكون هناك خسائر كبيرة أشد مرارة من تسليم هذه الحقوق، وإن لم يقبل الطرف الممسك بهذا العرض فسيأتي من هو أشد، ولا يقبل إلا الاستيلاء على الأصول كلها، وهكذا.
مسألة الحقوق والواجبات في الدولة الحديثة وحكمها الرشيد لا خلاف في وضوحها لمن أراد ذلك، فالسياسة قد تطورت بنيتها الحقوقية بحيث لم يعد أحد يفتقر إلى البحث عن مزيد من الحلول المبتكرة، ولكن نية الاحتيال وتجزئة الحقوق وتوظيف قوى الواقع هي التي تجعل الحل في حاجة للابتكار والابداع، لأنه يشبه البحث عن طريق على غير الجادة.
إن الأزمة هي أزمة نفوس، وإلا فالحق بيّن، ولكن المكونات الاجتماعية من عوائل وطوائف وأحزاب وطبقات لا تريد أن تعطي النصفة من نفسها، لا أخذا ولا عطاء، وإنمايترك التارك ما ترك من عجز لا من زهد ونصفة، ومادمنا كذلك فكل حل يبتكره سياسيونا اليوم سيكون موضع تنازع في الغد، فإنما يحصد المرء ما زرع.
ليست هذه دعوة لرفض الحوار، ذلك أنّه وإن أثمر عن أقلّ الخيرين، فإنه في حالنا أهون الشرين، فأن تشرب بعض ماء الجرّة خير للجميع من كسر الجرة وإراقة مائها كله، إنّ حال الحكومة في الوصال كحال صاحبة أبي فراس، تعلله بالوصل ثم لا تفي به، وأخشى أن نبلغ من اليأس ما بلغه أبو فراس فقال: إذا مت عطشانا فلا نزل القطر.