يؤكد الدكتور فاضل الربيعي (مواليد بغداد 1952م) أن معركتنا الرئيسية هي ضد المخيال الاستشراقي والقراءة الغربيّة الخياليّة، وهدفها تأسيس قراءة عربيّة إسلاميّة جديدة تقوم على استخدام معطيات العلم والتاريخ والثقافة بشكل صحيح. ويعتقد الربيعي أن التلفيق الذي قام به الاستشراق هو أخطر بكثير مما يبدو لنا تزويراً أو تحريفًا بالمعنى الديني القديم. ويكرر الرغبة في مساجلة المخيال الاستشراقي الغربي ومقاومته انطلاقا من النقاش حول المعطيات العلمية الأثرية والتاريخية. والدكتور فاضل الربيعي كما يُعرِّف نفسه هو “باحثٌ عن طريقةٍ لتصحيح التاريخ القديم، ومن الباحثين الذين يجذبهم حب المعرفة للغوص في أعماق ما يبدو شائكاً ومجهولاً ومعقّدًا”.
وتُعد أطروحته “فلسطين المتخيلة” من أهم المؤلفات التي قدّم فيها الربيعي مراجعات للمسلّم به في كتب التاريخ، والتي نفى فيها أن يكون السبي البابلي لليهود قد حدث في فلسطين، أو أن الملك داوود حارب الفلسطينيين. ويواصل الباحث في نسفه للخاطئ والمغلوط من الموروث التاريخي: “سفن سليمان لم تمخر عباب المتوسط، والحقيقة التي لا مناص من التمعن فيها اليوم: إنّ القبائل اليهودية اليمنية العائدة من الأسر البابلي هي التي أعادت بناء الهيكل في السراة اليمنية وليس في فلسطين، الهيكل لم يُبنَ في القدس قط، وليس ثمة هيكلٌ لسليمان تحت قبة الصخرة”.
وقد اعتمد الباحث الربيعي في هذا الكتاب على ثلاثة مصادر رئيسية للبحث، يتمثل المصدر الأول في الشعر العربيّ القديم، أمّا المصدر الثاني فكان كتابي «الإكليل وصفة جزيرة العرب»، لمؤلفهما الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، وتشكل التوراة المصدر الثالث.
“فلسطين المتخيّلة” أيضاً هو عنوان الندوة التي ألقاها الدكتور فاضل الربيعي في ملتقى السراة الثقافي الأول “عالمٌ في أسر التزوير” والذي نظّمته جمعية التجديد الثقافية في الفترة ما بين التاسع من أكتوبر والأول من نوفمبر للعام 2009، والتي أعرب الربيعي فيها عن إعجابه بالجمهور العريض، والحضور النسائي اللافت الذي لم يلمسه في دولة عربية أخرى. وقد كان على هامش الندوة لقاءٌ هنا نصُّه.
خلال العقود القليلة الماضية بدأ الجدل الثقافي الأيدلوجي حول منطقيّة ومصداقيّة جغرافيا تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) كما حكتها مدونات التوراة لشعوب العالم. فلماذا يبدأ هذا الجدل الآن، وما دلالة التوقيت؟
أعتقد أنها بداية يقظة لهدف أعم وأشمل. تاريخ العرب القديم استخرجه المستشرقون من بطون الكتب ومن باطن الأرض، ولكنهم لم يكتفوا باستخراجه وتقديمه لنا، إنّما قاموا بكتابته وروايته لنا، هم رووا تاريخنا بصوتهم، ورووه لأغراض وأهداف مختلفة، قد يكون بعضها بريئاً ولكنه مبنيٌّ على مغالطات وإشكاليات في فهم ثقافة الآخر. إنها بداية يقظة لنروي تاريخ هذه المنطقة بصوتنا وليس بصوت الآخر الغربي.
بهذا المعنى يأتي البحث عن قصة العلاقة بين التوراة والمسرح الفلسطيني ليثير جذر أساسي في المشكلة، أنّ الصراع الراهن الذي بلغ ذروة التوتر والعنف مبنيٌّ على أساس واهٍ من المعتقدات الزائفة بأن هذه الأرض تعود لجماعة بشرية غربية بدعوى أنهم ينتسبون لبني إسرائيل، ويدينون بالديانة اليهودية فذلك حق تاريخي وديني لهم! ولذلك هذه المعركة تبدأ الآن على أساسٍ علميّ، وهي معركةٌ سلمية، ويجب أن نخوضها بطريقة وبأدوات علمية وهادئة، وأن نثير النقاش والسجال حول التاريخ من أجل إعادة تصحيحه.
ما الذي ألهمك العودة لمراجعة أدواتك البحثية الخاصة التي تميّز بها كتاب “فلسطين المُتَخَيَّلة”: الشعر العربي الذي وصفته “بأهم قاموس جغرافي في العالم”، وكتابيّ الحسن بن أحمد الهمداني؟ الأمر بدأ فعلاً بمحض الصدفة، أنا كنت من القرّاء الذين يستهويهم الهمداني مع أنه يكتب بطريقة مزعجة بالنسبة للقارئ، وهو كما شبهه أحد الأصدقاء الأستاذ طارق أحمد قال هو بالضبط كما لو أنك تقرأ في دليل الهاتف.
وبالفعل قد لا توجد متعة كثيرة للقراءة، فأثناء البحث في الهمداني وفي صفة جزيرة العرب تذكرت أن الشعر العربي الجاهلي هو في الأصل شعر مواضع وأماكن، وبما أنني أقرأ وصفاً جغرافيًا للهمداني، وهذا الوصف يتحدث عن جبال وينابيع ووديان هذا يعني أنه يصف لي مواضع وأماكن، فاستذكرت وأنا أقرأ الهمداني أنّه لا يشبه هذا النص السردي الجغرافي إلا سردٌ شعريّ للمواضع والأماكن تجسَّد في الشعر الجاهلي القديم. والشعر الجاهلي القديم هو شعر مواضع وأماكن (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوا بين الدخول فحومل) كُلُّه وصفٌ لأماكن!
فقمت بمطابقة ما وَرَد عند الهمداني من أسماء مواضع مع ما ورد في التوراة، فاكتشفت أنّ هناك تطابقاً مذهلاً في الوصف، وفي البيئة المحيطة، وفي طريقة نطق الاسم، وفي رسمه، وهو رسمٌ مطابقٌ للرسم العبري. كلمة “أفيق” بالعبرية لم يجدوا لها مرادفاً، واليوم عندما تقرئين في التوراة تجدين كلمة أفيق بنشيد الإنشاد يستبدلها المحققون والمترجمون بكلمة “البحيرة”، ولكن في العبريّة ليس هناك مؤدّى لكلمة أفيق بمعنى بحيرة، هم لفّقوا كلمة بحيرة للدلالة على كلمة أفيق لأنهم لم يجدوا مكافئًا أو مرادفاً لهذه الكلمة أو معنى لها.
أفيق هو اسم جبل، وكما يصفه نشيد الإنشاد بالضبط فهو جبل كما يرد في النص العبري، والهمداني يُقدّمه بالضبط بوصفه جبلاً. والمثير للاهتمام أن وصف التوراة للأماكن المحيطة بهذا الجبل يطابق الوصف الذي يقدمه الهمداني للأماكن المحيطة به، فإذاً لدينا بيئة! هناك سلسلة أماكن محيطة بها كما لو أنك قلت (بسقط اللوا بين الدخول فحومل) هناك ثلاثة أماكن متجاورة ولا يمكن لهذه الأماكن المتجاورة أن تكون متجاورة بمحض الصدفة في مكانين أو أكثر من مكان، لا يمكن! وعندئذٍ اكتشفت أن الشعر الجاهلي جاء على ذكر أفيق بما أنه شعر مواضع. والتوارة بالمناسبة كنص سردي ديني هي تتضمن هذه البنية، فهي أيضا نص سردي للمواضع والأماكن. لو قرأت منازل الأسباط في سفر أشعيا أو يشوع لفوجئت أنه كيف يعدد الأماكن مكانًا بعد آخر بدون توقف وهو يصف هذه الأماكن، عين ماء أو جبل أو وادي وبدون توقف. إذًا هذه البنية السردية في النص التوراتي تتطابق مع البنية السردية في نص الهمداني بوصفهما سرديتين جغرافيتين، وهاتان السرديتان تتطابقان مع الشعر الجاهلي بوصفه سرديّة شعريّة للأماكن والمواضع. بهذا المعنى نتحدث عن أدوات متماثلة في الاستخدام، ولذلك تنبّهت إلى قيمة الشعر الجاهلي بوصفه الخزّان الثقافي الهائل الذي يمكن أن نغرف منه ما يكفي من الأدلة للبرهنة على أن التوراة لم تتحدث عن فلسطين، فهي تتحدث عن مسرح جغرافي يمتد بطول وبامتداد السراة الشهيرة، سراة اليمن، أو ما يعرف بسراة حِمْيَر، وصولاً إلى صنعاء، مروراً بنجران وعدن وحضرموت.
ما هي الصعوبات أو التحديّات التي واجهتك سواء من الناحية المعرفية أو من ناحية الجمهور المتلقي للمعلومة في الكشف عن هذا الجديد بشأن تضليل تاريخ المنطقة؟
معرفياً كنت قد وجدت نفسي في خِضمِّ مغامرةٍ أشبه ما تكون بشخصٍ وجد نفسه في عرض البحر وأنّ السفينة لم تعد صالحة للاستخدام، وأن عليه أن يقوم بنفسه بالسباحة ليصل إلى الشاطئ بأمان، لأن السفينة لن توصله للشاطئ بأمان. ولذلك تطَّلبت مني هذه المغامرة لا أن أجيد السباحة وأتقنها؛ ولكن أن أكون متمتعاً بصحة وبقوة بما يساعدني على قطع هذه المسافة الشاقة. وكان التحدي الأكبر في أن أقدّم أدلة علمية مبنيّة على معطيات لا تثير الشك أو الريبة أو أن تكون موضع للتنازع حول تفصيلات لا معنى لها. ولذلك كتبت أطروحة “فلسطين المتخيلة” بوصفها عملاً علمياً يخلو من أي مطارحات سياسية أو ثقافية أو أدبيّة، وليس فيه ما يبدو ألعاباً لغويّة كما هو الحال مع بعض الباحثين الذين يطابقون بشكل تعسفي بين أسماء المواضع التوراتية مع أسماء أماكن بعينها، فكان التحدي الأول تحدي معرفي، وهو تقديم الأدلة التي يمكن أن تُقبل عقليا، ولأنني قدمت ما يكفي من الأدلة أنَّ ما ورد في التوراة يتطابق تطابقا تامًا مع نصوص الهمداني ومع الشعر الجاهلي، وهذه بيئة ثقافية ايكولوجية متكاملة لا مجال للاشتباه بأنها ملفّقة أو مزورة أو أنني تدخّلت في صناعتها.
التحدي الآخر هو تحدي التلقّي، كيف يمكن إيصال الرسالة؟ تعرفين أن مشكلة المفكر تتخطى حدود إنجاز البحث وتقديم البراهين، إلى إقناع الآخرين المتلقّين أن ما يقدمه جديرٌ بأن يُساجل ويناقش ويؤخذ على محمل الجد. والغريب أنني حصلت على تعاطف واهتمام شعبي بالحدود التي تمكنت من بلوغها حتى الآن بما أدهشني. هناك تعاطف مذهل من جمهور واسع ومتنوع، ومن طبقات مختلفة، ومن مذاهب وأديان وأعراق مختلفة، هذا يعني أنّ ما طرحته أثار اهتمام الآخرين. ليس لدى هؤلاء المتلقين أجوبة مضادّة أو أسئلة محرجة، هذا الأمر يتوقف على أهل الاختصاص، لكن ما أثار اهتمامي وانتباهي في آن واحد أنّ أهل الاختصاص من علماء آثار وباحثين وكتّاب تاريخ صمتوا صمتاً مريبًا رغم أنني تحدّيتُ عالمهم فإن قلة منهم فقط أبدت استعداداً لمساجلة الكتاب.
أذكر أن الجمعية الدنماركية السورية نظمت لي ندوة ضخمة جدًا حضرها أكثر من 700 شخص من بينهم باحثون وكتّاب وأساتذة جامعات، وحضر الندوة مدير عام آثار ومتاحف سورية، وهو عالم آثار سوري، وتساجلنا حول هذا الكتاب، ثم اكتشفت أنه غير قادر على دحض أي من أطروحات الكتاب، وقال لي بالحرف الواحد: أنت تدمّر كلما تعلّمناه وكل ما نعلِّمه! فقلت: بالضبط أنا أريد أن أدمِّر كل ما تعلمتموه من المستشرقين من تزوير وكل ما تلقّنونه اليوم لأجيالٍ من الطلاب بطريقة خاطئة.
يجب أن نعيد قراءة تاريخنا ونرويه بصوتنا، وأن نقول الحقيقة: أن جزءًا كبيرًا من التاريخ الذي يدرّس اليوم في الجامعات مبنيٌّ على خيالات استشراقية بنيت على معطيات من التوراة، ولا يؤيدها العلم ولا النقوش ولا العقل، وهو تحدي التلقي ما يزال قائماً وأنا أراهن على أن فكرة من هذا النوع ربما تنتصر مع الوقت. مع تنامي الدعوات التصحيحيّة لتاريخ المنطقة وبروز جغرافيا جديدة كمسرح للأحداث التاريخية. هل تتوقع مواجهة من نوع آخر مع الحركة الصهيونية العالمية في قادم الأيام؟ وما ملامح هذه المواجهة؟
أنا أعتقد أن المواجهة قائمة ومستمرة منذ وقت طويل، ولكنها لم تنشُب بعد في الحقل المعرفي، حتى الآن خاض العرب والمسلمون معركتهم حول فلسطين بأدوات سياسية أو دينية، ولكن أحدًا من العرب والمسلمين لم يجرؤ أو لم يتمكن أو لم يتقدَّم لميدان النقاش والسجال بالأدوات العلمية، لذلك أنا أقترح أن تكون هذه المعركة بطابعها السلمي هي معركة من أجل العلم وخدمة للحقيقة وللتاريخ.
لقد وصل المشروع الصهيوني اليوم لمأزقه التاريخي، فإسرائيل في صورتها الراهنة لم تتمكن لا من تبرير وجودها، ولا من تقديم فرضيات صحيحة تدلّل على صحة ما أوردته من مزاعم عن حقوق دينية أو تاريخية، وليس هناك حل سياسي للمشكلة.. حتى الآن لا توجد تسوية حقيقية، وهذا الاستعصاء قد يخدمنا في مجال البحث العلمي عندما نقوم بنقل المعركة إلى هذا الحقل ونقول: أن فلسطين لا علاقة لها بالتوراة، وأن فلسطين ضحيّة المخيال الاستشراقي الغربي. أبيد شعب ودُمِّر وحُطِّم والمنطقة أُدخلت في أتون من العذابات منذ مئة عام حتى اليوم بسبب أطروحات كاذبة ومزيفة! وما نقوم به هو حركة تصحيحية كبرى وشاملة لنا فيها شركاء يهود ومسلمون ومسيحيون، عرب وأجانب، نحن شركاء في تصحيح تاريخ إنساني، ففلسطين ليست ملك العرب فقط هي أيضاً اليوم في ذمة الإسلام والمسلمين وفي ذمة الإنسانية بما أن مأساتها ناجمة عن هذا الخطأ المأساوي المتعمَّد بقراءة التوراة بهذه الطريقة التعسفيّة، ولذلك ندعو لتصحيح هذا الخطأ المأساوي، وفتح الأفق لحل تاريخي بالمنطقة، بدلاً من أن نظل ضحايا لنزاع لا نهاية له.
أنت تخلص في الكتاب إلى نتيجة “إن الاستيلاء على الأرض _ أرض فلسطين _ كان مجرد استطراد في الاستيلاء على التاريخ والثقافة.” فهل تجد أن السعي الحثيث في الميدان الثقافي يمكن أن يوصل في مرحلة من المراحل لتحرير الأرض- مع الوضع في الاعتبار واقع السياسة العربية؟!
قد لا يكفي ما لدينا من عمر لنرى فلسطين محرّرة، لكن المهم أن نبدأ هذه المعركة بهذه الأدوات لنؤسس لمسرح جديد من الصراع.
في تقديري أمامنا معوقات هائلة، ليس من السهل على المخيال الاستشراقي التنازل عن الكتب والمؤلفات وأطروحات الدكتوراه التي ملئت مكتبات العالم وملايين المتعلمين وخريجي الجامعات الذين عاشوا هذه الخرافة. اليوم هناك أطنان من المؤلفات كلُّها كتبت عن تاريخ فلسطين القديم من رؤية استشراقية ومن منظور توراتي، وهذه يجب أن ترمى في براميل النفايات! هذه معركة تاريخية كبرى وضخمة ولكن المهم أن نبدأها بشكل صحيح وأن نحشِّد من حولنا حلفاء في العالم كله لرؤية الحقيقة التاريخية. تعالوا نحتكم إلى الآثار والتاريخ والعقل والمنطق، دعونا عن العواطف الدينية، نحن نحترم كل الأديان وليست لدينا مشكلة مع أي دين.
بالمناسبة أنا ليست لدي عقدة من ما يتعلق باليهود على الإطلاق. لأنني أسأل نفسي لو افترضنا أن فلسطين كانت ضحية موجة كونفوشوسية أو بوذية، أو أن المستوطنين الذين جاؤوا واحتلوا فلسطين كانوا بوذيين أو كونفوشوسيين، فهذا يعني أننا كنا بدأنا هذا الصراع منذ خمسين أو مئة عام مع البوذيين والكونفوشيوسيين، ولما اشتبكنا مع اليهود. نحن نتحدث عن معركة بسبب استيطان استعماري دمّر شعبًا واغتصب حقوقه التاريخية في الأرض والتاريخ والثقافة والحياة، ومعركتنا ليست مع دين بعينه أو جماعة بشرية بعينها. نحن نقاتل ضد أطروحة فكرية وعلمية مبنيّة على أسس خاطئة. كيف تقيّم الجهود العربية المبذولة في ساحة المواجهة المعرفية مع العدو الصهيوني؟
كل ما كُتب في الحقيقة جديرٌ بالاحترام والتقدير، أنا أشعر بالسعادة من وجود هذا العدد من الكتّاب الذين يهتمون بهذا الجانب، وأنا أحيي كل الباحثين الذين كتبوا واجتهدوا، وأرحب بما توصلوا له من استنتاجات وإن اختلفوا.
في العلم لا يوجد اكتشاف نهائي، كلنا نكمل بعضنا، في العلوم دائمًا يتوصل الباحثون لاستنتاجات متنوعة ومختلفة، بعضهم يصل قبل الآخرين، لكن المهم أن تتكامل هذه الجهود، فما بدا في وقت من الأوقات أنّه بالنسبة لاكتشاف نيوتن أو أديسون كما لو أنه هو السقف النهائي أصبح مع الوقت مجرد اكتشاف افتتاحي مهَّد السبيل لعلوم ولكشوفات أهم وأرقى، ولذلك أعتقد أننا بانتظار أجيال جديدة ستأتي أفضل منّا تعلمًا ومعرفةً، وربما لديها أدوات أفضل منّا، ستصحح لنا ما كتبناه، وستبني عليه أو تقبل بجزء منه. وبالتالي أنا أكون سعيدًا لو قام أحدهم بتصحيح ما كتبت، وأنظر لما يكتبه زملائي وإخواني وأصدقائي من الكتاب والباحثين في هذا المجال باحترام شديد وأرى أنهم يقومون بعملٍ عظيم بصرف النظر عن الاختلاف في النتائج ولكن المهم أننا نشتغل على أرضيَّة واحدة.
هل تسعى للانضمام لجبهة معينة من المفكرين بحيث يتم لم شمل هذه البحوث المتفرقة؟
أنا دعيت في الحقيقة لتأسيس جمعية أنثربولوجية عربية أو تحالف من مثقفين وجمعيات ثقافية من أجل تطوير حقل البحث العلمي في هذا المجال، وتحويله من عمل فردي إلى عمل مؤسسي، ولذلك أخوض الآن سلسلة نقاشات مع الكثير من المفكرين والكتاب والباحثين لتأسيس هذا الإطار الثقافي الذي هدفه الوحيد هو خدمة العقل والتاريخ والثقافة.
ماذا بعد “فلسطين المُتَخَيَّلة”؟! الآن سيصدر لي كتابان مهمّان؛ الأول بعد أشهر قليلة اسمه “القدس ليست أورشليم” سيصدر عن شركة رياض الريس في بيروت، أما الكتاب الثاني فهو سيصدر خلال هذا العام اسمه “المناحة العظيمة”، عن جذور الثقافة البكائيّة عند الشيعة في عاشوراء. وهذه محاولة لتفسير طقوس عاشوراء ورؤيتها من منظور جديد. آن الأوان لنقول أنّ ما يبدو ممارسة غريبة في أنظار بعض الناس هو ليس ممارسة غريبة. هذه ثقافية بكائية تمتد جذورها عبر التاريخ، ولها أسس وأرضيات روحية وثقافية ودينية، وهي ليست ممارسة شاذة أو غرائبية كما يدعي البعض.
أنا أسعى من خلال هذا الكتاب إلى فتح قنوات اتصال بين كل الحساسيات والجماعات الثقافية في المجتمع من أجل تفهّم طقوس الآخر، ورؤيته بطريقة صحيحة بدلاً من الاستمرار في نشر الصور النمطية. فهناك صور نمطية سيئة وتافهة عن الشيعة في العالم العربي، عندما تصورهم كما لو كانوا مجرد بشر ينوحون ويبكون بدون معنى، وهذه نظرة غير صحيحة، ويجب أن تسقط وتلغى نهائياً.
ويعيد هذا الكتاب رواية مصرع الإمام الحسين عليه السلام من منظور جديد خال من أي ظلال مذهبية يروي الحقيقة التاريخية كما هي باحترام وتقديس للشهادة والبطولة العظيمة، وفي الآن ذاته يبني إطارًا تاريخيًا للجذور التي تتصل بعقيدة البكاء القديمة وهي عقيدة بدأت من تموز في العراق وإيزيس وإيزوروس في مصر. وفي الكتاب قد يندهش القارئ عندما سيجد أنني ترجمت نصوصاً من التوراة من العبرية تظهر فيها مشاهد لليهود وهم ينوحون ويبكون على تموز بل ويلطمون ويجرِّحون رؤوسهم!