قلتُ للبحّار: يا نوتيّ يا حكيم، كيف تبدو لك علاقة المواطن بالوطن؟
قال لي: اسمع يا صديقي، هل رأيت فيلم “قراصنة الكاريبي” (Pirates of the Caribbean) حيث يكون عيش المرء دائمًا في البحر؟ تصوّرْ أنّ خمسين شخصًا تشاركوا بكلّ أموالهم ومدّخراتهم واشتروا سفينة كبيرة، فيها حياتهم وفيها معاش أرزاقهم وهي موطنهم الدائم، فكم سيحافظون عليها وسيخدمونها بأعينهم لأنها ملكهم جميعا؟ حتماً.. سيصبح للجميع دورٌ في حمايتها وإدارتها وفي تقاسم أيّ غنائم أو ثروات وكنوز أو أرزاق وأسماك يحظون بها، هذه هي ببساطة العلاقة التبادلية بين الوطن وأهله المواطنين، شراكةٌ مصيريّة.
سألته: فما علاقة الوطن ببقية الدول؟
قال: كعلاقة تلك السفينة ببقية السفن، فالسفن المحالفة، والمسالمة، والقابلة لأيّ تداول تجاريّ والاتّفاق على مبادئ ومنافع مشتركة، هي سفن ينبغي التعاون معها بل والبحث عنها، أما السفن القرصنية والمعادية والمتربّصة والغازية فيتمّ الحذر والتحذير منها.. والاستعداد والإعداد لها، وعدم التنصّل والتخاذل من محاربتها – متى اعتدَتْ- بهبّةٍ من قبل جميع الركّاب المالكين.. دفاعاً عن ملكيّة الجميع ومصيرهم الواحد.
سألته: وما رأيك بالخيانة الوطنية؟
يُجيب: حين يتعامل أحدُ ملاّك تلك السفينة (وهم جميع ركّابها وساكنيها) مع سفينة معادية لحاجة شخصيةٍ تمنحه امتيازات على باقي شركائه الملاّك، نتيجة وعود شيطانية مُغرِّرة، أو نتيجة خلاف شخصيّ له مع فئات أو أفرادٍ من إخوته الملاّك، فيتّجه للاستنصار والتحالف مع سفن القراصنة المعادية، للإضرار بسفينته الأمّ كلّها، وتعريضها للتلف أو الاحتلال أو الإغراق وإهلاك أهلها.
سألته: وماذا لو كان أغلبية الشعب مهمّشين محرومين؟ أعني أنّ أغلبية ركّاب السفينة ليسوا من المُلاّك، أو كانوا ملاّكاً فسُرقت مُلكيّتهم وأضحوا مستعبَدين، مسحوقين، مطمورين بأقبية السفينة، وصاروا طبقة سُخرة معدمين، لا يقتاتون إلا ما تبقّى ممّا يُبقي حياتهم لخدمة طبقة المترفين أعلى السفينة، (كما في فيلم التيتانيك، مثلاً)، وكما الهياكل المستعبَدة المتحجّرة المحكوم عليهم بشظف الخدمة والتعاسة أبد حياتهم (كما في سفينة “الهولندي الطائر” للوحوش البحريّة بفيلم قراصنة الكاريبي!)؟
قال: آه يا صديقي، مع الظلم والاحتكار والاستئثار بالنعمة وتهميش الشراكة أو مصادرتها بالمرّة.. تسقط قوانين سُفُن السلام، وكلّ شيء مفتوح على المجهول، وكلّ الشرور تغدو ممكنة.. مع عربدة الفوضى، والفوضى يا عزيزي لا مجال للتنظير لمبادئها ولقواعدها.. والتنبّؤ بمساراتها، ففقدان الشعور “بالانتماء” للسفينة نتيجة السحق والظلم والاعتداء يُسقط حتى مفهوم الخيانة من أصل.. لأنّه يخلط الحابل بالنابل وتميع المفاهيم وتتماهى، ويجعل ما يصنعه “العبيد” للتحرّر، سواء بالتمرّد أو الانقلاب أو حتى بالاستعانة بالشيطان الرجيم أمراً غريزيًا لا يمكن تبريرُه ولا إدانتُه إلا بمقدار ما يُمكن تبريرُ أو إدانةُ السبب الداعي؛ مِن استعباد واحتكار واستغلال وامتهان كرامة ورعونة تدبير.
قلت: عفوًا، هل أفهم من حديثك أنّ المواطن يسوغ له خيانة وطنه؟
استوى “النُوتيّ” وأجاب غاضباً بحزم: لا شيء يسوّغ الخيانة إلاّ أنانيّة الخائن وخسّة طبعه، باعتبارها مضرّة لجميع ركّاب السفينة لمصلحة شخصية، لكنّي أنبّه أنّ الأمور تتداعى وفق عِللها، وينبغي على كلّ راكب الشعور بأنه جزء من السفينة ولوحٌ مِن هيكلها، يغرق بغرقها، بحيث أنّه يتبرّع مبادراً “طوعاً” لإصلاحها وتجميلها، ولسدّ “ثغورها” التي يتسرّب إليها الماء.. بشعورٍ ذاتيّ ومبادرة فردية وخوف فطريّ، وهذه هي “الحميّة” التي هي مقتضى معنى “الانتماء”، أي ارتهان المصير والهمّ الشخصي واندماجه بمصير ومسير الكيان الكلّي الجامع المنتَسَب إليه.
قلت: ولكن، ما دور السلطة السياسية في هذا الشأن؟
لو أضحى الركّاب (المواطنون) كلّهم مُلاّكًا، وطاقمُ السفينة فسيفساء تعدّدياً (مثل دولة كندا)، وليست صَهرًا للإرادات التنوعية (كدولة أمريكا)، فالسلطة تغدو نوعًا مِن قوّة تنظيم أهليّة واجبة وجوداً، أي هي إدارة تدبير وتيسير، وليست سلطة قهر، الإدارة من شأنها تنظيم المبادرات وإدارة قوى “الانتماء” وتوجيه فعلها وطاقاتها.. في مسار هدف السفينة المُقدَّر.. لخدمة منافع الجميع بلا استثناء، أما “القهر” فهو بديل “للانتماء”، مثلما أنّ “القانون” بديل “الحبّ”، القوة العسفيّة القاهرة طبيعتُها أن تُكرِه و”تفرض” على الركاب وتُسخِّرهم لخدمة السفينة، سواء بالترغيب أو بالترهيب، أمّا قوة الإدارة وحسن السياسة فهي تنظم عمليّة خدمة وإصلاح السفينة وصلاحها.. والتي انطلقت أساساً بمبادرات ذاتية جماعيّة بـ”حميّة” من وحي “الانتماء” و”الولاء” وتلبيةً لنداءات واجب الحبّ لما هو حاضنُ مصيرٍ.. ومملوكٌ مشترَك.
قلت: وما تقول في مشاكل العالم، بفقره ونزاعاتِه وتوحّشه وإرهابِه.. وما يُذاع عن صراع حضاراته ويتراءى من تطاحن أديانه ومذاهبه، وتضارب مصالحه؟
أجاب البحّار ببداهة: إنّه الأمرُ نفسه يا صديقي، لكنّ السفينة أكبر، فإذا استفرد القويّ (العالَميّ) بالسلطة على السفينة غصباً، ونصّب نفسه قبطاناً بالغلبة، واحتكر أتباعُه وموالوه والمحقّقون سيادته ونزواته وأطماعه.. المواردَ والمؤونة والثروةَ والعلوّ والرفاه والسيادة.. بل والشرعيّة والقانون أيضاً، سيجوع كثيرٌ من الركّاب وتتفاقم الطبقيّة وتضحى السفينةُ طابقيْن؛ طابقَ رفاه وكبرياء وتسلّط.. وطابق حرمان وذلٍّ وشقاء ومهانات…
قلتُ له مقاطعاً: إذن، هذا يُفسّر لماذا موجاتُ الشيوعية والاشتراكية اجتاحت ملايين أفراد العالَم الفقير الناشد للتغيير والخلاص، لأنّ الإنسان الكادح والمقهور والمهمّش ينشد العدل والمساواة والعيش الكريم، ويرفض الطغيان والاحتكار والظلم، فعولمة المادّية المتوحشة وتحرير التجارة لغزو الأسواق والتدخّل باسم فرض الديمقراطيات.. وهيمنة الشركات العابرة للقارّات قامت على ذرائع مادية نفعية لتوسيع نفوذ للكبار واستيلائهم وتسييد برامجهم وثقافتهم الاستهلاكية، لزيادة أرباحهم، ولو بسرقة أقوات الفقراء ونهب مواردهم وتسخيرهم أبداً.
إنّ هذه الدول الكبرى ومؤسّساتها المتنوّعة الجبّارة والمنهومة.. لم تؤسَّس – منذ أوّل يوم- بغرض توزيع الثروة بعدل، وإحقاق الحقوق وتحقيق الرفاه والصحّة والسعادة للجميع، وفق مبادئ المساواة “الحقيقية” ونشر الحريات “الحقيقيّة” وتحضير وتمْدين الشعوب “بصدق” لتحقيق العدل والسلام العالمي “الحقّ”؛ حيث لا فقر ولا مرض ولا استبداد ولا استعباد، وحيث لا قويّ يأكل ضعيفاً، ولا ثروة مكدّسة بجانبها حقّ مضيّع، ولا شواهق أبنية فارهة غاية التقنية والرفاه.. بخلفها أكواخ الصفيح المزدحمة النتنة المنزوعة من أدنى مقوّمات الحياة بصحّة وكرامة… إذاً هذا هو العالَم كلّه كما هو في أوطاننا؟
قال النوتيّ: نعم، هذا الوضع يجعل مساكين الطبقة السفلى من سفينة (الأمم) مستفزّين لأنْ ينقبوها من أسفل، إن لم يكن شيطنةً أو انتقاماً من قهرهم وكمدهم، فطلباً لتحقيق معايشهم الخاصّة وسدّ رمقهم.. طلبًا للماء وصيد الغذاء، وإلاّ فليس أقلّ للهرب من سجنهم المادّي أو النفسيّ بالنكاية مِن “ملَكٍ يأخذ كلّ سفينة غصبا”، يقضم الحقوق ويهدر الكرامات ويستلب الإرادات، كصرخة يُطلقونها للتعبير عن ذاتهم المسحوقة.. أو انتقاماً ربّما يُسكّن صدورهم ممّن يسكن في طابق السفينة العلويّ فوق رؤوسهم.. مُعربداً بالنعمة، مستفرداً بالثروة وبالقوّة، وليغرق بعدَها الجميع – بمنظورهم- ولا يُبالون، فعدوّهم الخاطف المغتصب للسفينة (والذي كان من المفترض أن يكون شريكهم) هو الخاسر الأكبر بعد أن لم يترك لهم ما يخسرونه…
ثمّ تنهّد بحسرةٍ قائلا: هكذا تنكسر السُفن بأهلها جرّاء جشع حفنة من “أقلّية” مستعلية بفسادها واستبدادها، وجزع أكثريّة مع الانسياق وتهوّرها، ولكن يبدو أنّ طبقات الناس لا يتعلّمون إلا من الخراب وبعد الخراب، آهٍ لو يتأمّلون كيف تنجو السفن – ولو اكتظّت بأهلها- من الأخطار المصيريّة.. لو كان هناك بقيّةٌ من ذراري “الإنسان” يكون لديها مكارم أخلاق “الإنسان” وتدبير “سياسة” الإنسان.. وتعرف ثمين “كرامة” الإنسان: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ).