لا يخاطب هذا المقال جهة الحكم مع حاجتها الأكيدة للنصح، بل فريقيْ الموالاة والمعارضة، ولا يحكم على ما قد وقع حتى الآن على خطورته وفظاعته، ولكن يُحذّر ممّا يُراد جرّ الوطن إليه ويُخشى مِن وقوعه فيما لو استمرّ الحال على سوئه، ومن هذا المحذور يخوّف، الحرب الأهلية لا سمح الله، والتي إذا ما شبّت فلن يعود مهمًّا السؤال عمّن أوقدها، لأنه سيضحى سؤالاً لا أهميّة لجوابه ، إذ الأهمية كانت في اتّقاء عدم وقوعها مهما كلّف الأمر.
هما خياران لا ثالث لهما، ليس أمام البحرينيين فقط، بل أمام كل وطن يتكون من عرقيات أو طوائف متعددة متعايشة، إما حلّ القضايا المتنازعة بالحوار قبل ذهاب العقل، وإما حلّها بالحوار بعد عودة العقل، وما يحدث في الفترة بين ذهاب العقل وعودته هي مجرّد جولات من الجنون والتوحّش، يقدّم فيها كل طرف أضاحيه.
من أوضح الجهل تجريب المجرّب، من مثل إعادة اختبار أثر حريق النار على الجسد، إنّه ضرب من الجنون فيما لو تحدث بها عاقل؟ ولكننا جميعا نفعل أمثالها حينما تعترينا سكرة من جنون الغضب، خصوصا ذلك الغضب الموقد بنار الحقد، وأشدّه حقد التمييز العنصري والتكفير الديني.
إنّ الإنسان ليقدم على الجنون في أمور هي أقلّ بكثير، فكم من أب ألقى ابنه من شاهق لينتقم من أمّه؟ وكم من فتاة أحرقت نفسها للتخلص من زوج لا تحبه؟ وكم من والد قتل ابنته تطهيرا لسمعته بين الناس من درن خطيئة وقعت فيها أو اتّهمت بالوقوع فيها؟ وأمثال ذلك كثير لا يحصى، فنحن البشر لا نملك من أنفسنا إلا القدر الأقل، وبقيتها مملوكة لجهات ننتمي إليها بلا تمحيص ودراية، من عقيدة ومجتمع وعادات وتقاليد وأعراف وحشود.
جنون الشعب حين يقتل بعضه بعضا فيما يسمي بالحروب الأهلية ليس فوقه جنون، حيث يتوقف كل العقل الإنساني الجديد عن العمل، ويمسك العقل البدائي القديم بزمام التحكم، وتتوقف القشرة الدماغية عن العمل إلا بما يخدم الدماغ الهمجي القديم القابع عند النخاع الشوكي، وتكون السيطرة له على سائر أقسام الدماغ، ويتحول الإنسان إلى مجرد بشر كأن لم تنفخ فيه روح ربانية، ويعود الوحش الكامن من زمن الغابة للميدان، ونعود جميعا وحوشا، نتصرف كوحوش، والوحوش لا يؤنب ضميرها الفتك والبطش والجبروت، بل يبهجها ويفرحها ويدفعها للرقص حول أشلاء ضحاياها، فالليلة لن تبات جائعة!
إذا ثار الوحش وسيطر الدماغ البدائي غاب الإنسان وحضر الهمجي، وسيظل غائبا حتى يتعب الوحش الهمجي وتنهار قواه من طول المعركة، فحين اليأس وتحقق العجز عن القضاء المبرم على الآخر تبدأ قبضته في الانهيار ليعود العقل الجديد يعمل من جديد، وهنا تتضح للنفس معالم الكارثة بعد فوات الأوان، ويعود الضمير للعمل، فيعود الوعي والضمير يقتلان بالتأنيب من لم تقتله الحرب الأهلية، فبعد السكرة تأتي الفكرة، وتستيقظ العقول من غيبوبة التوحش، ولكن الذاكرة لا تذهب بالاستيقاظ بل تزداد حدة وحضورا، فإذا الدماء التي سفكت، والأشلاء التي قطعت، والأعراض التي انتهكت، والأموال التي انتهبت، والأطفال التي خطفت، والبيوت التي أحرقت أو هدمت، ودور العبادة التي انتهكت ودنّست، وآلاف المشردين والمعوقين، وأطفال السفاح، كلها تعود ماثلة أمام الضمير والوجدان، لتفقد كل عين قدرتها على النوم، وتتمنى النفوس لو تنسى، ولن تنسى، وتتمنى من ضحاياها السماح، وأنّا نعتذر ممن طوته القبور؟
ليس مهمّا في الحروب الأهلية سؤال من بدأ الحرب، أو من كان الظالم فيها ومن المظلوم، ولا من كان يُخطّط لها ومن كان يطالب بمجرد إصلاحات سياسية ومطلبيّة، ولا أنّ السلطة بإعلامها وتدابيرها مَن حوّلها لحرب طائفية وهي لم تكن كذلك، ليس مهمًّا وقت الخراب تناول هذه الأسئلة، المهمّ هو أن لا تتحول الخلافات السياسية إلى إشعال حرب أهلية، ولن يمنع ذلك سوى الحوار الجادّ قبل اشتعال الفتنة، وأما لو اشتعلت فلن تبقي ظالما من مظلوم، وسيتحوّل الجميع إلى ظالم ومظلوم، فالكل فيها فاتك ومفتوك به، معتدٍ ومعتدىً عليه، وهي غالبا ما تبدأ ببطش القويّ لتتحوّل بعد حين قد لا يطول إلى بطش الضعيف بالقويّ متى سنح، وهكذا يتمكّن الكلّ من التدمير، ومن هنا فليس مهمًّا لإخماد نواقيس نُذُر الحرب الأهلية درجة العدالة التي سيحققها الحوار، بل المقدار الذي يحقق شعور الناس بدرجة مقبولة من الرضا والإنصاف.
فيا أبناء بلادنا العزيزة: هذه بلاد الدنيا قد جرّبت مرارًا وتكرارًا احتماليّة ما أنتم مقدمون عليه من الجنون، العراق ولبنان والصومال وأفغانستان ورواندا ممّن رأيتموهم وتابعتم أخبارهم الكئيبةعن كثب، عوضا عمّن ذكرهم التاريخ القريب والبعيد ممن ذاقوا وبال الحروب الأهلية، فمع غض النظر عمن هو البادئ بالجنون، هل رأيتم أو سمعتم شعبا قد انتصر بعضُ بعضِه على بعضه؟
ليس للحروب الأهلية إلا نتيجة واحدة: الدمار الشامل والأحقاد العميقة والعيش في الجحيم مدّة تطول أو تقصر، ثم عودة المثخنين لطاولة التفاوض والحوار والمصالحة، هذا إن لم يتسلّط عليهم عدوّ متربّص ليس منهم يحتلهم ويتخذهم خولا، فما دام الأمر كذلك أليس من العقل أن يحفظ الإنسان نفسه وأهله ودينه وضميره وأخلاقه ونواميسه وتاريخه وسمعته وشرفه، فيحل مشاكله بالحوار قبل نُذُر الجنون ما دام سيحلها شاء أم أبى بالحوار بعد الجنون؟
إنّ في كل قوم سفهاء كما أنّ في كل قوم حكماء، وإنّ أول الهلاك تمكين السفهاء من النطق في الناس، وإنّ أوّل النجاة الأخذ على أيديهم وردع جهالاتهم ليعلو صوت العقل فقط، فأين خياركم وحكماؤكم؟ أين أولو البقية؟ أليس فينا رجل رشيد؟ بلى، بل رجال، ولكن الفتنة زوت بهم، ومنطق الجهّال وقّاد الفتن أخرسهم، وهذه ساعة لا ينبغي لهم فيها القعود، فنناشدهم الله والدين والوطن، ألا يتركوا واجبهم وأن يبادروا إلى أداء أمانتهم، وليخرجوا من كل حدب وصوب، وعلى الجميع حكومة وشعبا أن يبعدوا جهّالهم عن المنابر الدينيّة والإعلاميّة، فإنّ الحرب مبدؤها الكلام، عسى الله أن يجمع البلاد على سنة رشد جامعة.