“خَلقَ الإنسانَ مِنْ علَقٍ” وما يزال..

أدرتُ التلفاز فإذا بمباراة تنِس.. فاجأتني ابنتي الصغيرة: تُشجّع من؟ أجبتها بتلقائيّة: الأزرق (وكان لاعب التنس “فيدرير” بالقميص الأزرق).

“علَق” = التعلّق، الميل، التأييد، التشجيع، الانتخاب.. الانتماء. اختتم استحقاقُ الانتخابات الإيرانية و24 مليون ناخب صوّتوا لأحمدي نجاد الذي جهد خلال مناظراته مع منافسيه بفضح الفساد المالي والذمميّ والتكسّب الوظيفيّ وتأكيد نزاهته وخدمته مصالح شعبِه، فرحتْ شعوبٌ ودولٌ وفئاتٌ بفوزه (لدرجة عدّه “شافيز” بأنّه انتصارٌ على الغطرسة).. واكتأبت قوى أخرى، ومِن قبله أفرحتْ حصائلُ انتخابات لبنان فئاتٍ وتوجّهاتٍ وحكوماتٍ.. وأحزنتْ شعوبًا وأحزابًا وقِوى، ومن قبله انتخابات أمريكا.. وهكذا.. وجميعُها بثّت رسالة واحدة: أنّ الناس تُصوّت لصالحها هي.. لا لصالح أحدٍ، “فتُشجّع” الذي يُعطيها أملاً بالتغيير، و”تتعلّق” بمَن ينتشلها من أزماتها المعيشية وضوائقها المالية، وقد “تميل” و”تسيل” لمن يدفع لها مقابل أصواتها أو مقابل تحييدها فقط، و”تنحاز” أكثر للذي يوفّر لها لقمتها وكرامتها وأمانها ويرفع حرمانها واستضعافها ويحفظ “مالها العام” أيّا كانت السياسة الخارجية التي ينتهجها.

لا أحد بدون انتماء و”تعلّق”، الذي يخلو من انتماء كائنٌ غير موجود، لا إنسانَ عاقلاً ومطّلعاً إلاّ وتحيّز قلباً إمّا لبوش/ماكين أو لأوباما، إمّا لحزب الله والوطنيّين وتيّارهم.. أو للحريري وجعجع وفريقه، إمّا لأحمدي نجاد أو لخصومِه..

الإنسان كائنٌ مُنتمٍ.. مائلٌ بطبعه، مادّتُه النفسية “تُعلقه” بأحد طرفيْن، ولابدّ إذا كان مهتمّاً بأيّ منافسة أنْ يُشجّع.. يميل.. يتمنّى.. أو فقط يسخر مِنْ طرف.

انظُر وأدرْ التلفاز على حوارٍ ساخن.. خصومة.. مباراة.. معركة.. مصارعة.. فيلم يحوي صراعاً وتناقضاً، ستميل حتماً لجانب.. أو على الأقلّ ضدّ جانب، والذي يدّعي خلوّه من مشاعر “الميل” و”التعلّق” لطرفٍ في شأنٍ يُتابعه يحوي نقيضيْن.. إمّا يُكابر أو أنّه من الكائنات المعلومة متبلّدة المشاعر.. كرّمكم الله!

كتبتُ من قبل أنّ شبابنا يتعلّقون بنادي، بلاعب، بحزب، بزعيم، بسيّارة، بماركة… ضدّ خيارات مقابلة، إنّهم يُشجّعون وينتخبون الخيارات المناسبة لطبعهم وذوقهم (أو ما يُبثّ ليُصبح طبعَهم وذوقَهم)، لذلك هم ينتخبون “أنفسَهم” مع كلّ اختيار، ليظهر “تعلّقُهم” كنوع من النصرة والدفاع والتشكّل الثقافي والانتماء والحميّة والولاء للشيء/الشخص/الجهة التي “تعلّقوا” بها. لذلك تتنافس الزعامات والأحزاب.. وماكينات الدعاية والإعلام.. على استقطاب الشباب لأنّ جهاز “الميل”/”التعلّق” الفطري شغّال، بوصلةُ حبّهِ وبغضهِ لابدّ لها مِن جهةٍ تُشير إليها، وما على المستقطِبين سوى تلقينه بما يُحبّ ويكره… الدين -في استراتيجيّته- مُركَّبٌ على القاعدة نفسها، “وهل الدينُ إلا الحبّ؟”، لكنّه بخلاف سائر المستنفِعين -الذين يُخدِّمون الآخرين لمصالحهم ويستقطبونهم لأشخاصهم.. فيستعبدون مستهدفيهم- يعلّم الفرد “الميْل” للسبب الصحيح، “ليعْلق بـ” ويُحبّ ما ينبغي حُبّه، ويبغض ما يجب بُغضه… هذه هي الحرّية الحقيقيّة، و”الميلُ” غير المنحرف، و”الانتماء” غير الإمّعيّ، وهي تُديّن الإنسانَ ولو ظلّ بلا مذهبٍ ودين.. وبلا شيخ وتلقين. إنّ مضموننا الداخليّ المتراكم (الحقيقي والمصطنع) “لتعلّقات” السنين يُحدّد لنا “علقنا” الراهن.. أيْ نفورنا وانجذابنا تجاه الشخصيات وخيارات الأحداث.

حين نزلتْ تباشيرُ الوحي مفزِّعةً الإنسانَ الأمّي المتوقّدَ الذهن والضمير والباحثَ عن الحقيقة، ناجتهُ هامسةً بنصّ بدائي مُمهِّد: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، الوحيُ جاء ليفتح مصاريع أسرار “العلم” على هذا العقل، فابتدره بمسألةٍ علميّة.. تُخبره أنّه كإنسان بدأ “كعلقة” -كحال كلّ البهائم- في ظلمة الرحم لا قيمة له ولا علم، لكنّه خرج إنساناً لنور الدنيا وعلومها، فإذا به الآن -بعد تجارب الحياة- يضجّ من ظلمة رحم الدنيا ويستطلع آفاق نور العوالم.. باحثاً عن ولادةٍ أخرى أطور، فالربّ الأكرم سيُعلّمه ويُخلّقه في مستوياتٍ أعلى روحيّاً وكونيّا، (هذا في ظاهر تفسيرها).

لكنّ المغزى القرآني يستبطن في إشارته “مِنْ عَلَقٍ” أكبرَ حقيقةٍ كونية تُعرّف معنى “الإنسان” وكيفيّة تخليق “إنسانيّته”، أنّه يُخلق.. “مِن عَلَق” دون كلّ الكائنات، لا يُمكنه أن يبقى وحشياً.. منفرداً.. غير اجتماعيّ وفي كهفِه، هاملاً أمرَ بيئته ومحيطه، إنّه كائنٌ “متعلّقٌ” بكلّ شيء وفي هذا سرّ استدامته وخلوده، ففي “تعلّقه” بالمطلق والبحث عنه.. وفي “تعلّقه” بالمُثل والمبادئ.. “يتعلّق” بكلّ الوجودات، وفي مساحات الاختيار عليه أن “يتعلّق” بالطرف الأفضل ليتكامل ويتقدّم.. مِن كونه أمّيا إلى صيرورته عالماً، من خيارٍ سيّءٍ لآخر أجمل، من مرشَّحٍ يدغدغ غرائزنا لمرشَّحٍ يُرضي ضمائرنا.

الإنسانُ كائن يُصنَّف و”يتخلّق” إنسانيّاً بحسب خياراته/”علاقاته”.. بالأفكار، بالأموال، بالأشخاص، بالأخلاق، بالنُظُم، بالتحزّبات والفئات، بالقضايا، بالألوان، بالأصدقاء، بالتسليات، بالهويّات، بالإكسسوارات.. “عَلَقُهُ” بأحد أطراف الخيارات التي تكتنفه وتُعرَض أمامَ مشاعره.. “تُخلّق” درجةَ إنسانيّته، نحن نخلق إنسانيّتنا.. ولو “بتعلّقنا” باللاعب بالقميص الأزرق، ولو “بتعلّقنا” بأحمديّ أو بموسوي، بأوباما أو بماكين.. كلّ الخيارات التي “نتعلّق” بها تصنعنا وتصنع واقعنا حتّى “بتعلّقنا” بنوّابٍ يلهثون لتأمين راتبهم التقاعدي من مال الشعب الذي اختارهم ليحفظوا مالَه العامّ ولا يهدرونه.. كما اختار فقراءُ أهل إيران رئيسهم الذي يحترم ناخبيه ويفضح مَن عربد بأموالهم…

تذكرة: استعمل النبيّ(ص) رجلاً على الصدَقات فأثرى، فلمّا قدُمَ حاسبه (ص)، فبرّر بأنّ مُعظم ماله كان هدايا و”بونس” ومكافآت وحوافز..الخ مِن حِيَل (ودغلبازات)، فقال النبيّ(ص): فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمّك حتى تأتيك هديّتُك إن كنت صادقًا!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة