… جرس لا يُقرع إلا كلّ عام قبيل عيد النيروز (21 مارس) في مدارس إيران يؤذِن بقرب حلول عيد البر والإحسان حيث تُجمع فيه التبرعات المالية والهدايا العينية للعوائل ذات الدخل المحدود، وتُعد قوائم الأيتام لمن يريد أن يكفل يتيماً أو يعين مسكيناً، فلا يأتي عليهم عيد الربيع بحلّته الزاهية، وما يحمله من معاني الجدِّة والصفاء والسلام والمحبة إلاّ وقد اعتُني بالفقراء والمعوزين قبل الاعتناء بمراسم وطقوس هذا العيد الذي تشترك فيه الكثير من الأمم والشعوب العربية كالمصريين والسوريين والعراقيين وغير العربية كالأتراك، والإيرانيين، وشعوب آسيا الوسطى، واليونانيين وغيرهم بأسماء مختلفة وممارسات متشابهة تدلّ على وحدة مصدرها.
ففي مصر يُعتبر (النيروز) أول يوم في السنة الزراعية الجديدة لأنه ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل (سبب الحياة في مصر)، ولدى السوريين هو يوم تجدّد الحياة إيذاناً بقدوم الربيع وتبرعم الشجر وتفتح الزهر، ويُطلق على هذا العيد في بعض مناطق العراق يوم (المحيا)، رمزاً لإحياء الربيع للطبيعة بعد جمود الشتاء، أو يوم (الخضر) لارتباط اسمه بالخلود والبقاء، وقد احتفل المسيحيون بهذا العيد باسم عيد الفسح (الفصح)، وهو رأس السنة الآشورية، حيث جاء في الأساطير أنه الأوان الذي يُنتظر فيه عودة (دموزي) ربّ الخصب،
وحبيب عشتار (رمز الأمومة) جاذباً الخصب والربيع للأرض والبشر .. وغيرها من ثقافات مشتركة بين تكوينات المجتمعات الإنسانية المختلفة.
ارتبطت مراسم هذا العيد لدى العديد من الشعوب والأقوام بفكرة تنظيف البيت، وغسل السجاد والستائر، وإعادة ترتيب أثاث البيت، والاستغناء عن الأشياء البالية، وإعداد أنواع الحلوى، والتزاور، وصلة الأرحام لإزالة كل ما علق بالقلوب من جفاء، وإعادة الدفء لكل ما شاب العلاقات العائلية من فتور على مدى عام مضى، فيُستقبل الربيع ببيوت وجدران وأزقة وشوارع، ويُستضاف العام الجديد بقلوب خالية من كل حقد وكراهية وموجدة لتكتسي القلوب بالمحبة كما اكتست الطبيعة بالأزهار والثمار.
كما اعتبرت بعض البلاد يوم 21 مارس يوماً للأم (كما في الخليج وبعض الدول الغربية)، ثم استُبدل بيوم للأسرة بعد أن أُخذ في الاعتبار فقدان بعض الأطفال أمّهاتهم وما يسبّبه تخصيص يوم للاحتفال بعيدها من ألم وحسرة في نفوسهم، فانتُهزت هذه الفرصة من قبل بعض الأبناء أو العوائل التي تشكو من عقوق الوالدين أو تفكّك أسري لإعادة اللحمة لأعضاء الأسرة بقلب صفحة الماضي المؤلمة لتُكتب صفحة جديدة بمزيد من التفاهم والحكمة والخبرة والمودّة؛ أذكر أنه مرّة تمّ الإعلان عن مسابقة لاختيار أفضل أمّ في يوم عيدها، على أن يقوم الأبناء بترشيح أمهاتهم مع ذكر الأسباب التي دعتهم لترشيحها لتكون الأم المثالية، ففازت أم لابن قدّر إصرار أمّه على إيقاظه لصلاة الصبح كل صباح حيث كانت تستخدم كل السبل الممكنة – وبعضها لا يخلو من قسوة – لكي لا يفوته وقت أدائها. ولكن، أدهشني كثرة اللغط الدائر من قبل بعض المتشدّدين من المذاهب والأديان المختلفة والاحتجاج على الاحتفال بأعياد النيروز وعيد الأم والأسرة بل وكل الأعياد المستحدثة كعيد الشجرة، وعيد العمال، ويوم الأرض، والبيئة، والشهيد، والمعلم، والممرّض، وغيرها من مناسبات تواضع عليها المجتمع الإنساني لمزيد من التكاتف والتلاقي في المشتركات من القضايا، وترميماً لما أفسدته السياسة، فحُرّم الاحتفال بها بحجج وأدلّة ما أنزل الله بها من سلطان، وحُرم البعض من نعيم المشاركة الوجدانية مع الآخر في أفراحه وأعياده، وتقلّصت مساحة التعارف والتراحم بينهم، وأضعنا الوقت – كدأبنا – فيما يفرّق ويُعسّر ويُسعِّر.
دعونا مما يكدّر الخاطر في ذكرى عيد الربيع والأم والأسرة، لنتعلّم مبادئ مزرعة النرجس البري حيث كتبت امرأة مسنّة على مدخل بيتها البسيط الكائن على تلّ في منطقة يغمرها النرجس البريّ لمساحات شاسعة بألوانه الزاهية الجميلة الأصفر والأحمر والوردي والأبيض:
الإجابة على الأسئلة التي أعلم أنكم ستسألونها هي:
أولاً: خمسون ألف نبتة!
ثانياً: تمّ غرسها كلاًّ على حدة، من قبل امرأة واحدة، ذات يدين، ورجلين، وعقل واحد.
ثالثاً: بدأ ذلك قبل خمسين عاماً. فكّرت في تلك المرأة التي بدأت قبل أكثر من خمسين عاماً بغرس بذور النرجس بذرة بذرة على تلّ مجهول فاستطاعت أن تحدث تغييراً رائعاً في العالم الذي كانت تعيش فيه، فخلقت شيئاً من الجمال الملهِم حولها، فأصبحت مزرعة النرجس مدرسة للسوّاح يتعلّمون منها درساً بليغاً في الحياة مفاده: أن نخطو نحو أهدافنا خطوة خطوة، وقد تكون في معظم الأوقات خطوة صغيرة جداً، فعندما نجمع القطع الصغيرة جداً من الوقت مع زيادة صغيرة في الجهد اليومي المبذول، سنتعلم أن ننجز أشياء عظيمة، يمكننا بها أن نغيّر العالم من حولنا.