دموع تُذرف على زرع لا ينبت

لحب الحسين (ع) في قلوب عشّاقه أثر غريب أشبّه بجمرة مشتعلة أبداً .. تبقى خابية طوال العام حتى يطلّ محرّم الحرام فيُكشف الرماد عنها ويتجدّد الحزن عاماً بعد عام حتى لكأن الحدث بالأمس كان. حبّ الحسين (ع) يحمل معه في كل قلب شحنة عاطفية جياشة يُعبَّر عنه بطرق مختلفة فلا يبقى كبير أو صغير، امرأة أو رجل، إلاّ ويجد له دوراً في هذه المناسبة ليعبّر فيها عن محبّته. حبّ عفوي صادق مشحون بطاقة العطاء لو وُجد له رجل رشيد يوجّهه الوجهة الصحيحة لاستطاع أن يغيّر الواقع، ولجمع القلوب على المبادئ التي أسّسها وضحّى لها الحسين (ع) كمناهضة الفساد، وغرس قيم الوفاء بالعهد والصدق والأمانة والشهامة، وبعبارة مختصرة “طلب الإصلاح”، لو وُجد لهذا الحب الصادق رجلٌ رشيد لأحيا المناسبة بما فيه حياة لقيم الحسين (ع) لا لمأساته ومصيبته فقط .. لئلا نبكي الحسين عشيّة ونقتل مبادءه ضحاها! كيف؟

عندما نتنازع على مسائل جزئية وهامشية إلى حدّ التباغض، ويودّ أحدُنا “تطبير” الآخر على مسألة تطبير أو غيرها من اجتهادات بشريّة، فنحن نقتل مبادئ الحسين التي جسّدها حين قبل في صفّ أصحابه من لم يكن على دين جدّه أصلاً.

وعندما نتنازع على رئاسة مأتم، أو قيادة موكب عزاء، ونتفاخر بالرادود وحجم المردود! ونتنافس في استقدام قارئ أو “بحْرنته” بأعلى أجر! أو للتكثّر على مأتم منافس، أو تحويل العزاء لمهرجان استعراضي للطائفة لاستحقاقات سياسية أو مناطقية، فقد دُسنا على مقولته (ع) “لم أخرج أشراً ولا بطراً”.

وعندما نقدّس ونتشبّث بموروثات وخرافات وسلوكات لا تمتّ إلى نهج الحسين (ع) بصلة فتكون هي أقدس من الله وأثبت من الحسين!

عندما نجعل الدين لعقاً على ألسنتنا أمس وغداً وطوال السنة، ولا نكون أحراراً في قراراتنا، لا نصفح عمّن أساء إلينا، لا نفي بوعودنا، نخون، نغدر، نغش، نكذب ونُرائي ونتملّق، فإننا في الصفّ الآخر مهما لطمنا!

مقدارٌ زهيد ما تعلّمناه من نهضة الحسين، وهذا الزهيد طغى فيه المظاهر والقشور على اللبّ والجوهر، لم نكن كغاندي حين قال: “تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر”، غاندي الذي انتهج نهج المقاومة السلبية، وانتصر لقضيته باتّباع أسلوب اللاعنف، هو من تعلّم فعلاً من الحسين، فأخذ روح ثورة الحسين (ع) وطبّقها بما يتناسب مع ظرفه وزمانه فواجه الظلم الواقع على شعبه بطريقة مغايرة تماماً للطريقة التي واجه بها الحسين (ع) طاغية زمانه، ولكنه في خيار أن يكون مظلوماً أو ظالماً أبى أن يكون الظالم .. فانتصر؛ أما نحن فاكتفينا بأن نردّد هذه المقولة ونفخر بأن غاندي تعلّم من الحسين ولا نتدبّر لماذا لم نتعلّم نحن من الحسين كيف ننتصر لقضايا أمّتنا والحسين فينا ومنّا؟

علمنا أن هدف الحسين من الثورة هو “طلب الإصلاح” ولكن لم نلتفت إلى مجالات الفساد في مجتمعاتنا وأمّتنا التي بحاجة إلى الإصلاح لنضع لها برامج تساهم في حلّها، ردّدنا كثيراً “وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي” ونحن نرى أن أمّة جدّ الحسين (ع) – أي أمّتنا – قد غشيها الفساد بشتّى صنوفه السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والديني ولكن ضيّقنا فهمنا للإصلاح في الإصلاح السياسي والطريقة في الثورة الدموية والاستشهاد، فلم نتعلم من الحسين (ع) واكتفينا بالبكاء عليه، وكأني به هو من يبكي على حالنا.

تكرّرت على أسماعنا قصة “جون المسيحي” الذي أبى أن يترك الحسين (ع) في الشدّة بعد أن لزمه في الرخاء، ولكن لم نتعلّم منه شهامته لتأبى أنفسنا أن نلحس قصاع بعضنا في الرخاء وننقلب على أعقابنا في الشدة. كرّرنا كلمات الحسين الأبدية “خط الموت …”، و”…. الدين لعق على ألسنتهم” و”…. فكونوا أحراراً”، وزينّا بها السواد الذي انتشر في كل مكان، ولكننا لم نعيها فلم تحرّكنا سلوكياً، ولم تهذبنا خلقياً، فبكينا على الحسين كثيراً ولم نتعلم منه إلاّ قليلاً.

نسينا إن الحسين (ع) ليس وليد لحظة الشهادة، فلا يمكننا أن نستوعب خاتمته إذا لم نقرأ سيرته قراءة صحيحة، وستقتصر معرفتنا له في معرفة الشهيد الثائر، وستبقى صورة الحسين المرتسمة في أذهاننا صورة الرأس المرفوع على القنا، والنحر المقطوع من الوريد إلى الوريد، ولن نأخذ منه سوى كيف نثور في وجه الظالم الفاسد وبالطريقة ذاتها. لم نتعلّم أن الحسين (ع) كان عارفاً بالله قبل أن يكون ثائراً وشهيداً، وأنه عاش لله قبل أن يُقتل في سبيل الله، ولم نعِ أن الحسين (ع) ترك لنا ثقافة “الحياة الحرّة الكريمة” في عمر امتدّ 63 سنة، قبل أن يخط ثقافة “الموت بعزّة” في كربلاء، طلبنا شهادة كشهادة الحسين (ع) ولكن لم نسعَ أن نحيا حياته، لأننا وببساطة لا نعرف كيف عاش.

قد يحاول البعض أن يجدّد في تناول قضية الحسين (ع) ولكن يكاد هذا التجديد يلامس طرق العرض واستخدام التقنية أمّا المضمون فلم يُمسّ بعد، والمشكلة تكمن في طرفي الاتصال: المحاضر والمستمع (المتلقي أبداً) فالأول يقيس نجاحه بمقدار ما استدرّ من الدمع والثاني بمقدار ما بكى فتطابقت الأهداف، والطرق المستخدمة تحقق هذا الهدف. ربما لا أحد يسأل نفسه بعد الانتهاء من المشاركة في شعيرة من شعائر الحسين (ع): هل ازداد معرفة بالحسين (ع) و محبّة له، أم ازداد إعجاباً في الخطيب ذي الصوت الشجيّ؟ هل تعرّف على فسادٍ أو خطأ كان يرتكبه فعقد النية على تركه؟ هل فعلاً كان ذاهباً في حب الحسين (ع) أم العادة هي التي ساقت أقدامه إلى حيث هو؟ وهل (الرادود) كان يذكّر بمصيبة الحسين (ع) أم يصدح بصوته ليس إلاّ؟ هل زاد وعياً وهدفيةً أم أنّه فقط هاج وبكى؟

و .. هل تجرّأ أحد المستمعة من آلاف المحبين أن يحتجّ يوماً على استغفال بعض خطباء المنبر الحسيني (ع) لمستمعيهم بإعادة وتكرار نفس الكلام على مدى سنوات طويلة؟ هل حاول هؤلاء الخطباء الحسينيّن يوماً أن يرصدوا بعض المفاسد المتفشية في المجتمع ويستثمروا هذه التجمعات الجماهيرية الطوعية ليرشدوهم لطرق ترك هذه المفاسد؟ هل حاولوا أن ينزلوا إلى أرض الواقع ليتعرّفوا على الأخطاء التي تُرتكب باسم الحسين (ع) ليتصدّوا لها ويصلحوها؟

لو كنت خطيباً حسينياً لتوقّفت قليلاً ولطرحت على نفسي سؤالاً واحداً فقط لأقرر بعدها هل أستمر في ما يُسمّى بـ”خدمة” الحسين (ع) أم أستغفر ربي وأجلس في بيتي لأعرف الحسين وأتعلّم منه؛ لو كنت خطيباً لسألت نفسي: لو أنني في الليلة الواحدة أقرأ في مجلسين حسينيين ولنفترض أنه يحضر لكل مجلس 100 شخص والمجلس الواحد يستغرق ساعة كاملة فمعنى ذلك أنني شغلت وقت 100 شخص لمدة ساعتين أي أن هناك مائتي ساعة ثمينة (شُغلت) فالسؤال الأول كم عدد الساعات التي صرفتها للإعداد لهذا المجلس؟ والسؤال الثاني ياتي تباعاً من مكنون الضمير: هل أستحق فعلاً الأجر الذي أتقاضاه في مقابل هذه الساعة؟ وهل كنت منصفاً مع نفسي كخطيب حسيني، ومع محبّي الحسين؟

وأمّا لو كنت ممن يحضر هذه المجالس فسأسأل نفسي: ماذا لو لم نحضر (أنا ومئات ممن معي) هذه المجالس التي لا يحترم الخطيب فيها عقل المستمعين بأن يزيد ويعيد في كلام مكرور، فاقد الروح، وتركنا (المأتم) ولو لليلة واحدة قاعاً صفصفاً على أصحابه، أولن يكون هذا سبباً “لإصلاح” حال الخطباء الحسينيّن بعد أن يعرفوا الأسباب الحقيقية لعدم حضور الناس لمجالسهم فنكون بذلك ممن تعلم من الحسين أن يكون مظلوماً فينتصر.

وأخيراً .. ألم يأنِ للمجتمعة قلوبهم على حبّ الحسين أن يخططوا من الآن، وفي يوم العاشر من محرم، وقبل أن يبرد حزن الحسين في قلوبهم لبرنامج إصلاحي شامل متكامل لإحياء ذكرى استشهاد الحسين (ع) بما يليق به وبما قدّم من تضحيات تمنع تكّرر تلك الأخطاء التي تفرغ القضية من محتواها وتقرح قلب الحسين (ع) وجدّ الحسين (ص).

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *