رتِّبْ فِراشِك!

في طُفولتي، وأيامِ (جهالتي)، كانت لديَّ فلسفةٌ غريبةٌ تُخالٍفُ نظريةَ أميَ الحكيمةِ في التربيةِ، ففي كلِّ صباحٍ – بِلا استِثناءٍ – كانت تمرُّ على غُرفتي لِتَحِثَني على ترتيبِ سريري قبلَ الذهابِ إلى المدرسةِ!! وكانَ هذا الطلبُ مِنْ أكثرَ الأمورِ التي تُغيظُني، فكمْ تجاهَلتُه، وكابَرتُ، بلْ واخترعْتُ لِنفسي سَفْسَطَةً عقيمةً لكي أتهرَّبُ مِنْ هذا الروتينِ اليومي، فكنتُ أُكرِّرُ على مسامِعِها: “أنا سأعودُ للنومِ على هذا السريرِ مرةً ثانيةً الليلةَ فلماذا أُرتِّبُهُ ؟!!”، وكنتُ مؤمنةٌ بصحةِ هذه الفلسفةِ، وطبَّقتُها كلما استطعتُ أنْ أُفلِتَ مِنْ رَقابةِ أمّي ومتابعتِها الحثيثةِ لي، والتي يبدو أنها كانت تستندُ على قيمةٍ جوهريةٍ لمْ أتوصّلْ إليها إلاّ بعدَ سنينَ طويلةٍ مِنْ العِنادِ والمُناكفةِ، فقدِ اكتشفتُ، بعدَما خرجتُ مِنْ مرحلةِ الطفولةِ والجهالةِ، إنَّ هذا الطلبَ – ترتيبَ السريرِ يوميًا – والإصرارِ على تنفيذهِ هو منهجُ حياةٍ يُنصحُ بهِ الحكماء.

بينما كنتُ أتصفحُ أحدِ الكتبِ الروحانيةِ استوقَفَتني هذه العبارةِ : “ذِهْنُ المرءِ مثلُ سريرِهِ إِذْ عليهِ ترتيبَهُ كلَّ يومٍ، فليسَ في العالمِ ما هوَ أقوى مِنْ ذِهْنٍ مُرتَّبٍ ذِي قرار!!”، للحظةٍ تسَمَّرْتُ وتساءَلتُ: ما العلاقةُ بينَ ترتيبِ السريرِ وترتيبِ الذهن؟! وما هو هذا الذهنُ الذي إذا ترتَّبَ كانَ أقوى شيءٍ في العالم؟!

تأمّلتُ في هذه الحكمةِ مَلِيًّا، ثمَّ بحثتُ، وراقَبْتُ فوجدْتُ أنَّ العلاقةَ وثيقةٌ جداً، فالذِهْنُ عُرْضةٌ لاستلامِ كمٍّ هائلٍ من الرسائلِ في كلِّ آنٍ من مصادرٍ مختلفةٍ، وعبْرَ منافِذَ متعددةٍ كالحواسِ الخمسِ، القليلُ منها يمُرُّ عَبْرَ العقلِ الواعي للفرزِ والتمحيصِ، وكلُّ ما سِواهُ يَخترِقُ اللاوعي بِلا عِلمٍ أو إذْنٍ مِنّا، ولكنَهُ يَترِكُ أثرَهُ في أفكارِنا، قراراتِنا، مشاعِرِنا وسلوكِنا.

وكما تقولُ الدراساتُ فإنَّ الشخصَ العادي يفكِرُ في حوالي سبعينَ ألفَ فكرةٍ في اليومِ الواحدِ !! وهذا كثيرٌ جداً، معَ العلمِ أنَّ بعضَ هذه الأفكارِ يُلقى علينا ونستقبِلها لا شعورياً، وبعضَها نَنْتِجُها داخلياً ولكنْ مُعظمَها بِلا جدوى وعبثيةٍ كالخيالاتِ غيرِ الموجهةِ، وبعضَها أفكارٌ مؤذيةٌ كالأحكامِ المسبقةِ على الناسِ، أو التحامُلِ، أو سُوءُ الظنِّ  وكلَّها مصدرٌ لهدْرِ الطاقةِ الذهنية.

نعلمُ جميعاً بأنَّ الذِّهنَ أهمٌ أداةٍ نمتلِكُها لِنحيا حياةً طيبةً، ولكنْ إنْ لمْ نُرتِّبْهُ بإتقانٍ – كما نرتّبُ الفِراش – أيْ أننا إنْ لمْ نُصنِّفْ المعلوماتِ التي تَرِدُ علينا تصنيفاً دقيقاً، فأدْرَجْنا الأوهامَ في خانةِ الحقائقِ، وأحْلَلْنا الأماني محلَ الواقع، وخلطْنا بينَ الماضي واللحظةِ والمستقبل، فقدْ يكونُ هو أكبرُ قوةٍ لتحطيمِ حياتِنا، لأنَّ ذِهْنَنا – أو بتعبيرٍ أدَقٍ – أفكارَنا تؤثرُ على منظورِنا، وبالتالي فهمِنا وتفسيرِنا للواقعِ، فإذا تركُنا أفكارَنا تسْرَحُ وتمرَحُ بلا ضابطٍ يكبَحُها، ورضِينا أنْ تكونَ أفكارُنا وتصرفاتِنا ردودَ أفعالٍ تِجاهَ كلِّ ما يجري حولَنا، فإنَّنا نَحكُمُ على أنفسِنا أنْ نكونَ أداةً في يدِ الآخرينَ يتسيَّدونَ على عقولِنا، ويتحكَّمونَ في مصائِرِنا.

ثمَّ، هل حدثَ لكَ أنْ ذهبتَ ليلًا إلى الفراشِ وتساءِلتَ بألمٍ: ماذا فعلتُ اليومَ؟ بلْ ماذا أنجزْتُ؟ هذا السؤالِ عادةً يكونُ نتيجةً طبيعيةً لِمَنْ يعيشُ حياتَهُ بلا تخطيطٍ، أيْ أنَّهُ يعتمدُ نمَطَ حياةٍ (عشوائيةٍ) قائمةٍ على رُدودِ أفعالٍ تِجاهَ حوادِثَ اليوم، بينما القاعدةُ الذهبيةُ تقولُ أنَّ: “تنظيمَ الوقتِ يؤدي إلى تنظيمِ الذِهنِ”، ولعلَّ أكثرُنا يعرفُ هذه القاعدةِ ويؤمِنُ بها، ولكننا، ويا للعجبِ!! فإننا نشعُرُ بالراحةِ لِمجرَّدِ أننا نعرِفُ ماذا يجبُ علينا أنْ نفعلَ لِنحيا حياةً طيبةً، فنحنُ نعلمُ ما هي متطلباتِ الحياةِ الصحيةِ، ونعرفُ جيدًا كيفَ يمكِنُنا أنْ نتطورَ، ولكنَّ القليلَ منا يعملُ بما يعلَمُ، مِنْ قبيلِ أكلِ الطعامِ الصحي، لعبِ الرياضةِ، الابتعادِ عنِ السكرِ والحلوياتِ، القراءةِ، التأملِ، الانتعاشِ وتأسيسِ علاقاتٍ بناءةٍ، وقدْ يكونُ أكثرُنا تعلّمَ هذه الأمورِ مِن الطفولةِ ولكنها لمْ تتحوّلْ إلى نمطِ حياةٍ (ترتيبُ السريرِ يومياً)، ولا نمط تفكيرٍ (ذهنٌ مرتبٌ ذو قرار)!

فهلْ وجدتَ العلاقةَ بينَ ترتيبِ السريرِ يومياً والذهنِ المرتب؟ فإنْ لمْ ؛ فقدْ يكونُ منَ المفيدِ الاطلاعُ على كتابِ: “رتّبْ فِراشِك” حيثُ يذكرُ فيهِ الكاتبُ قواعدَ عشرةٍ لتغييرِ العالمِ، يبدؤها بـ: إذا أردتَ أنْ تغيّرَ العالمَ، ابدأْ بترتيبِ فِراشِك”، ويعلّلُ ذلكَ بقولِهِ: إذا رتّبتَ فراشِك كلَّ يومٍ، ستكونَ بذلكَ قد أنجزتَ أولَ مهمةٍ في يومِكَ، وهذا سيُعطيَكَ شعوراً بالفخرِ – وإنْ كان طفيفاً – ولكنْ هذا الشعورِ هو مَنْ سيدفَعُكَ لإنجازِ عملٍ آخَرٍ، وآخَرٍ، وآخَر.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة