
يعتاد البعض من المقتدرين ماديا وممن تتهيأ لهم الظروف بتكرار الحج والعمرة اعتبار تصفير حسابه كلما انتهى حجّه، فيعتقد أو يظن ويرجو أنّ ما يرتكب من الذنوب والعيوب والنقائص ستمتحي هي وكلّ آثارها بالحجّ وإن تكرر طيلة عمره، فيرجع من الحجّ ولا ذنبله كيوم ولدته أمه. وآخرون يتعمدون إشباع رغباتهم والانسياق مع غرائزهم دون حدود، حتى إذا ضعف البدن واحدودب الظهر نوى الحج أملا في غسل الخطايا وإصلاح الدرن. هذا هو السقف الأعلى وحسب عند هؤلاء من أجر الحجّ والعمرة.
إنّ الحجّ موسم من مواسم الحصاد المباركة، له سقوف بحسب حالات الأشخاص ودرجات وعيهم، وبحسب الإرادة والهمّة والعزيمة في تزكية أعمالهم، إن كانوا متقربين بها إلى الله ومستعينين به؛ فإنّ الثمر يانع والحصاد وفير.
وقد حدّد القرآن ثلاث دواع قادرة على دفع الحاجّ في جميع مناسك الحج وأعماله من أجل الانتصار على مثلث الطغيان، المضاد للوعي الإنساني، إذ قال تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة /197)، وأول أضلاع المثلث هو الانسياق وراء النزعة الجنسية الضاغطة على الفرد بغية تلبية نداء الغريزة وإلحاحها، وهو أول طغيان وتعد بشري خارج على حدود الفطرة، إذ كانت المرأة في الطور البشري القديم قبل الأنسنة مشاعا لكلّ رجل يشاء ملامستها، إلى أن تكّون التشريع باختصاص امرأة لرجل واحد لا غير، وهذا هو تشريع الفطرة، فالرفث المنفي في الحجّ، من أجل أن يكون المكان ساحة شريفة تعين زوار البيت الحرام على الارتباط بالله والالتزام بقيمة العفة والشرف والطهارة، فالحاجّ يُراد له التحكم في هذه الغريزة الجنسية والحدّ من نداءاتها؛ ولجم الطفور الهمجي اللامحدود، وعدم العودة للزمن البشري السحيق، بتطوير إرادته إلى حدّ غض الطرف عن كلّ دواعي العلاقة الجنسية حتى مع أهله، كما هو شرط من شرائط إحرام الحجّ، فالتحكم في هذه النزعة وعدم إيلاء الجنس هموم المهووسين به، هي إحدى رسائل الحجّ، وهي التي تقي الأفراد والمجتمعات من هذا الفساد المدمر، إذ بات الجنس اليوم بالذات هو الشغل الشاغل لتجار الفساد ومدمري قيم الخلق التي من شأنها تفريغ العقول من الكمال والخير، وتصيّد أتباع الهوى والشهوات واتخاذهم أدوات طيعة لهم في سوق تجارتهم لنشر الفساد والرذائل.
أما الضلع الثاني في المثلث فهو الفسوق وهو العصيان بعد الطاعة، كما كان إبليس طائعا ففسق عن أمر ربه، وحقيقة هذا الفسوق تحصل بفكّ الرباط بين طرفين من جانب واحد، فهذا المتحلل من القيود هو الطاغي، فما عاد إبليس يرى لله طاعة، ولا لعهوده قدسية واعتبارا، ومؤدى هذا الفسوق المنفي في الحجّ (وَلا فُسُوقَ وَلا جدال فِي الْحَجِّ) هو نقض العهود وفسخ المواثيق والتحلل من كلّ التزام قطعه الشخص على نفسه، إن كان بين الأب وأبنائه، أو بين الزوج وزوجته، أو بين الأخ وأخيه، أو بين العامل وربّ العمل، أو بين الحاكم وشعبه، فكلً مسئول بالالتزام الأخلاقي والقانوني عن رعاية حقوق غيره واحترامها، أما تجاهلها فهو فسوق وطغيان، وهو داء يفتك بحياة الأفراد ويؤدي إلى انعدام الثقة فيما بينهم، ويعجّل بالتالي إلى هلاك المجتمعات والأمم والحضارات، فحين يدوس الناس عهودهم، ويتنكرون من كلّ جميل؛ فإنّ قيم الأنبياء والمرسلين والمصلحين تغدو هشة أو ميتة، فإن لم يتحمل الحاج معه هذه الرسائل ليساهم مع إخوانه الحجاج في إصلاح عطب الأمة ومدّ الجسور ما بين دعاماتها وما بين الأمم فما الغرض من وجوده!؟، فالتفكك له منشأ ورسالة الحج بأفقها الواعي علاج مستأصل له.
أما الضلع الثالث فهي الخسة الاستكبارية (وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، وأظهر أمثلة الجدال يتجلى في التباهي بـ (الأنا وتقديس الذات) ومحاولة لجم الخصم وتحجيمه وحصره في الزاوية، ليبدو ضعفه، وتبان سقطته، وتُدحض حجته، والمنطلق من كلّ هذا إما الحسد له، أو الكراهية لدين الآخر ومذهبه أو مواقفه وآرائه، أو لمجرد التعالي على الغير واستنقاصهم، واستصغار أعمالهم وحظوتهم وأجرهم عند الله سبحانه، وليس هذا من أخلاق الأنبياء، ولا من رسائل الحجّ، إنّ رسالة الحجّ تدعو إلى أن نقترب من الأديان والرسالات أيا كانت، والتعرف على الأعمال والثقافات الصادرة عن العقائد الأخرى، باحترام ومحبة ورغبة إنسانية صادقة؛ لنفهم منطقها الداخلي والوظيفة التي كانت تؤديها ضمن مسار القيم الأخلاقية والثقافة الدينية التي صدرت عنها، فهي إنسانية على وجه العموم، ومن ثم هي تعنينا كمسلمين كما الإسلام يعنيهم. لقد حجّ النبي إبراهيم وابنه إسماعيل بيت الله، كما حجّ النبي محمد (ص) وغيره من الأنبياء وأقوامهم معهم، لم يصدّوهم عن البيت ولم يستسلموا لصدّ الناس لهم، ولا استهزؤوا بعقيدة أحد، ولا استنقصوهم ولا تعالوا عليهم، بل كانوا يعملون بالمبدأ القرآني: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه فربّكُم أعلمُ بمن هو أهدى سبيلا) (الإسراء84).
والآية الأولى التي انطلقنا منها لنترسم من خلالها مسيرة الحج ليس الغرض منها أن نتحدى مثلث الطغيان هناك في بيت الله الحرام دون أن نحمل معنا هذا التحدي ليكون زادنا في منعطفات الحياة ومواجهة أحابيلها، إنّ تربية الحجّ تقتضي حمل هذا الزاد إلى أن نواجه الله ونحن قد التزمنا بمواثيقنا بعد أن أكدناها ووثقناها هناك معه في بيته وتحت قباب ضيافته، ونكون حجاجا نحتج بنوايانا ووعينا وسلوكنا على أبنائنا وأجيالنا بما حجنا به فعل الأنبياء والبررة.
إنّ من ضمن المرامي العظيمة لمسيرة الحج هو غزو الخصوصيات الزائفة للأفراد، فما يتميز به بعض الأفراد من جاه وعظمة وأبهة في المأكل والمشرب والمسكن والمركب والحشم والخدم تندكّ هناك في بيت الله، فالجميع ضيوف الرحمن في نفس البقعة في حال قيظها وقرّها، ومطرها ورعدها، وفي نفس الزمان وذات الملبس، ليكون الفرد مهيأ لغياب الحدود الشخصية، وهو غرض إرادي حر للتنازل عن خصوصياته أياما ما من عمره عسى أن يُروض نفسه ويصطلح مع السمة الغيرية التي يضحي فيها بالمصالح الشخصية لأجل وجود الآخر ورعاية مصلحته، وبالتالي يُبعد النزعة الأنانية عن ذاته وكبريائه..