يُنقل أنّ الملا نصر الدين خوجة الشهير (بجحا الأتراك)، وكان أحد وزراء ملوك عصره، رأى ذات يوم في قصر الملك صقرا، ولم يكن جحا قد رأى صقرا قبل ذلك، فظنه حمامة، ولما رأى المنقار المعقوف ومخالبه الطويلة، أحضر مقصا وقلّم مخالب الصقر ومنقاره، ثم قال مغتبطا :الآن أصبحت طائرا جميلا..لابدّ أنّ الملك كان يهمل العناية بك!
الظاهر من هذا الخيال القصصي أنه لتسلية المتسامرين ضمن نوادر جحا المسلية، إلا أنه يحمل معنى أعمق من التسلية، فبالتأمل يُعدّ مفتاحا لمقولة فلسفية، ومفادها أنّ الحقيقة شئ ومقدار علمنا بها شئ آخر، وبتعبير آخر أنّ تعييننا للحقيقة وتسميتها ينبع من وجهة نظرنا ومن زاوية فهمنا للأمور لا من الحقيقة ذاتها، أو بالمصطلح الفلسفي: أنّ الحقيقة نسبية في مقابل القول الآخر بأنّ الحقيقة مطلقة، وعلى هذا المنوال يحدث أنّ أفرادا لا يرون الجوهرة الثمينة إلا فحمة لا يُؤبه بها فيزدرونها، وهكذا تنحدر قيمة بعض الحقائق الناصعة، بل يتحول هذا التقييم إلى مصيبة عظيمة لو لم تقتصر أفكار الجاهل على نفسه، وذلك إن تعدتها بقدرة قادر إلى قضية تستحق أن يُجبر الآخرون على الاقتناع بها، ليتشكل بعدئذ تيار مناقض للاعتراف بذات الحقائق من أجل الجحود بها، أو التغيير والتدليس فيها. فكم من صفحات التاريخ اعتبرت أناسا من عظماء الرجال وهم أشباه رجال، وكم من العظام حقّ للتاريخ أن يمجدهم لكنّ الحسّاد زووهم بعلم أو بجهل. فالخلط بين الحقيقة وغير الحقيقة مرض قديم يتجدد، وخطورته أنّ له آثاره على الدين والخُـلُق والقيم على السواء.
لماذا أعدم العالم الفلكي الإيطالي جاليليو؟ أليس لأنه قال بدوران الأرض!؟ وأقام برهانه العلمي عليها، مما شكّل وقتها تعارضا مع المسلمات المعرفية الكنسية، وهو مظهر من مظاهر التناقض الصارخ بين موقف علماء الدين والأبحاث العلمية الحسّية، أما منشأ هذا التناقض بين نتائج العلم القطعي ومناهج علماء الدين ومسلماتهم فهو ادّعاء علماء الدين بامتلاك الحقيقة المطلقة دون غيرهم من العلماء، وإن أقام عليها هؤلاء العلماء التجريبيون ألف برهان وبرهان، فما دامت معرفتهم منطلقة من مصادر قطعية من الدين، (فلا أسمع ولا أرى).
ولكن شتّان بين نص الوحي القرآني أو الإنجيلي وبين نتاج الفهم البشري الذي يستخلصه الفقهاء من نصوص الوحي في بيان الأحكام والمعارف العقائدية وغيرها، وما يكتبه المفسرون والشرّاح . أما ما حدث بالفعل فهو إضفاء صفة القدسية وإطلاق الحقيقة المطلقة على الجميع دون فرز بينهما، فالأصل المُوحى إلهي رباني وما استُدل منها من حقائق وعلوم وإن ارتقت فهي لا تتجاوز الجهود البشرية التي تتبدل وتُنقض وتتطور وتتراكم، ولكن بسبب الجمع وعدم الفرز ضُيقت مساحة النسبية في هذه المجالات وكادت تتوقف حرية الإشكالات والتساؤلات، وبالتالي جمُد العقل الإبداعي عن وظيفته فيما تقولب بإجابات الدين وأُحيط بهالة القدسية فلا مساس للعلم فيها، والحال وبحسب ما أثبته الواقع أن ليس كلّ ما سطره علماء الشريعة يعبر عن الحقيقة الكاملة، فما كان معلوما عن حقيقة الدم قبل تخصص العلم في كشف حقيقته هو مجرد واقع خارجي يعرفه كلّ إنسان، سائل أحمر له أهميته في غذاء الإنسان والحيوان، وزاد عليه علماء الشرع بأنه من النجاسات التي ينبغي التطهر منها بكيفية معلومة، ولكن نتيجة التطور العلمي وتراكمه اتخذ هذا السائل الأحمر له موقعا هائلا من العلم وسجلا حافلا مختزنا للكشف عن صحة الإنسان ومرضه وعدواه، ودليلا لتعيين نسبه دون حاجة إلى قيافة أو شهود وقسم وظنون، إضافة للعديد من الوظائف في عمليات التنفس والغذاء وتنظيم حرارة الجسم والتوازن الكمي الذي يحتاجه الجسم من الماء ودوره في حماية الجسم من الميكروبات… وغيرها الكثير الكثير، فليس من اختصاص علماء الدين أن يضيفوا أي قيمة علمية عما يكشفه العلم التجريبي.
ومن الأمثلة الجلية القاصمة لظهر الدين من احتكار الحقيقة هو تفسير مفاهيم الإسلام بأدلة مذهبية محضة لاستمرارية امتداده بين الماضي والحاضر، ومحاصرة حاضر الناس ومستقبلهم في دائرة هذا المذهب أو ذاك، وكأنّ الإسلام لم يأت إلا بثوب واحد مفصل ومقيس بكلّ عقائده وتعاليمه ومبشراته ونعيم جنته لمذهب واحد دون سواه وكلّ يدّعيها فيه وله.
وفي مقابل هذا الغلو والجهل من احتكار الحقيقة وادّعاء كمالها في دائرة الدين دون وقفة تدبرية في حقيقة أنّ الكمال لله والنقص في الإنسان، كما تصرح به الآية القرآنية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا}، برز جهل آخر وغلو ثانٍ فيه تعدٍ على الحقائق الإلهية المطلقة، وذلك حين اعتبر السفسطائيون الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد كما في مقولتهم: أنّ الإنسان معيار كل شيء” بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، وبوسعه أن يعدّلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وكذلك من جاءوا بعدهم أصحاب المذهب البرجماتي الذين ادّعوا بأن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهم بذلك يعتبرون الحقيقة نسبية، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات. ففي مجال علم النفس مثلاً، كان الشذوذ الجنسي يُعدّ اضطراباً نفسياً حسب دليل التشخيص الصادر في الولايات المتحدة الأميركية في نسخته الثالثة، والذي صدر أوائل التسعينات من القرن المنصرم. وعندما صدرت النُسخة الرابعة، حذف منه ذلك التشخيص وتحول من اضطراب إلى توجُّه طبيعي ومقبول، بل ويعتبر ذلك بالنسبة إلى البعض خطوة إلى الأمام في مجال حقوق الإنسان! وبسبب تقديس النسبية وجعلها معيارا لكل الحقائق في الأخلاق والأديان والأعراف والقيم، كما يحلو للكثير من المثقفين المعاصرين صار الشذوذ الجنسي وزواج المثليين مظهرا من مظاهر الحرية الشخصية، وهو آخذ في التوسع في بعض المجتمعات تارة بمباركة مؤسسات دينية وتارة تحت بنود حقوق الإنسان.
أليس في داخل مشاعر الإنسان ميزان واقعي لتقييم الحبّ والواجب والأخوة والصداقة والعدل والخير والإحسان؟ وتحريم سفك الدم والظلم والغشّ ونهب الآخرين واستضعاف الناس، فهل من المستنكر أن تبقى لهذه القيم ثبات في حقيقتها دون أن تظل تحت رحمة وجهة النظر الشخصية، فأين الحيرة يا تُرى؟ ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾..