ظواهر طبيعيّة تروي قصة السراة

ثمّة تناقض واضح بينما هو سائد في أنماط التربية التي نتبعها في المجتمعات العربية والإسلامية، ففي الوقت الذي تشدّد فيه الموروثات الدينية على فرادة العقل وأهميّة التفكير “ما خلقت خلقاً أحسن منك، بك أثيب وبك أعاقب” نجد الكثير من الممارسات القمعية المناقضة لهذه التعاليم، سواءً تنزّلت قرآنا يتلى كما في قوله “أفلا يتدبرون” و”أفلا يعقلون” أو مأثوراً من الحديث عن النبي “ص” نعجز عن إحصائها عدداً فضلاً عن ذكرها هنا. إنّ من جملة ما قلنا به في حقائق مشروع السراة، حين عَمِلنا بدعوة القرآن ودعوة رسول الله محمد بن عبدالله “ص” في وجوب إعمال العقل ورفض موقع الإمّعات، وبعد أن حرّرنا عقولنا من فهم الرجال -مع إجلالنا وتقديرنا لكلّ من بذل جهداً فكريّاً لفهم آيات الكتاب المبين المعاصرين منهم والسابقين- انطلقنا إلى حيث المصدر الصافي”القرآن الكريم” حيث المعرفة والعلم، فوجدنا أنّ هناك حقيقة مغيّبة حول الخلق ذكرها القرآن، تضافرت على تفصيل مضمونها مرويّات التراث، فقد رأينا القرآن يقول “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ”(الأنبياء:30)، والفتق فتح العين لمداخيل وتفاصيل كثيرة، ودفعنا لتحرّي هذه الحقيقة، فوجدناها في الأساطير العربية القديمة كما هي في القرآن، فعرفنا أنّ مقولة قريش لرسولها “ص”: “وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا”(الفرقان:5) مستندةً إلى معرفتهم بما عرفوه وسمعوه من أساطير المنطقة العربية باختلاف مواطنها، فخلصنا إلى أنّ هناك وحدة في التراث العربي أجمعت على خارطة أحداثه مصادر المعرفة والعلم في تراثنا (القرآن والأساطير العربية وآزرته بعض المكتشفات العلمية).

فيما يخص المكتشفات العلمية فقد طالعتنا الصحافة بخبرين مهمين للغاية يدعمان ما سردنا في بحوث سلسلة “عندما نطق السراة” وأنا بدوري أقف عندهما مليّاً متأمّلاً، وأتذكّر قوله سبحانه وتعالى “مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ”(الكهف:51)، فنحن لم نكن حاضري ذلك المشهد الفريد، ولكنّه سبحانه وتعالى أنزل في القرآن ما يدلّ على مفاصل رئيسة لهذا الخلق وهذا المشهد، فآيات الخلق كثيرة، وبحوثنا تضمّنت الكثير من التفصيلات المتعلّقة بموضوع خلق الإنسان وخلق الأرض عرضناها في كتاب “الخلق الأول – كما بدأكم تعودون”، ولن يجد الإنسان بدّاً لتركيب صورة هذا المشهد مرة أخرى إلا بالوقوف أمام بعض مشاهد الطبيعة والمكتشفات العلميّة، ليشرع في محاولة إعادة تكوين صورة لما كانت عليه الحقيقة في ذلك المفرق الزماني المهم من عمر الإنسانية.

ففي الخبر الأول الذي ورد في موقع البي بي سي العربية “إنسان النيندرتال “ورّث جيناته” الإنسان الحديث ” يورد الخبر بأنّ “لدى العديد من الناس اليوم بعض من جينات إنسان النيندرتال المنقرض، حسبما خلصت إليه دراسة علمية” وهو ما أشارت إليه بحوث “عندما نطق السراة”، وهي تشير في أحد فصولها إلى نشأة الإنسان الأولى وتخلص إلى أنّ الإنسان خرج من الأرض “محضن” يشبه الرحم، نما فيه الإنسان في ظروف خلق استثنائية “بيئة مختلفة”، حتى إذا اكتمل نموه، خرج من الأرض بأعداد كبيرة كما تخرج النباتات “وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا”(نوح:17) وهذه الحقيقة نراها جلية واضحة في أساطير سومر وبابل تماما كما أوردها القرآن.

من هذا النسل المنبثق من الطين تمّ اصطفاء آدم وحواء، وفي الجنّة تمّ تخليقهما “جينياً”، وبعدها نُفخت فيهما الروح “فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ”(الحجر:29)، فأصبحا خلقاً آخر بهذا التعديل في طريقة صفّ جيناته “DNA” ونفخة الروح.

تأتي المعصية “معصية آدم” كبعد أساسي في مشروع “عندما نطق السراة”، فهي تعني الاقتراب من شجرة الهمج ومعاشرتها، حيث أنّ آدم الإنسان نسي عهده مع الرب فعصى بالمعاشرة الجنسية مع إحدى إناث النسل الهمجي، وهو ما ولّد سلالة أخرى، خليط من الهمج الذي يسفك الدماء والإنسان المخلّق “هجين إنساني همجي”، ولهذا الربط العلمي بين إنسان النيندرتال والإنسان دلالات عندنا ترجعنا إلى فهم حقيقة الإنسان، وكيفية تشكّل جيناته، وفهم الرابط بينه وبين الإنسان الهمجي الذي يجتهد العلماء في اكتشاف أسراره.

أما الخبر الثاني فقد طالعتنا به معظم وكالات الأنباء قبل عامٍ تقريبا بأنّ هناك بركان في أعماق المحيط الأطلنطي يثور على عمق آلاف الأمتار، وقد دعّم الخبر بمقاطع فيديو صوّرها رجل كان يبحر في نفس المنطقة، والفيلم يظهر الغبار البركاني وهو يتصاعد من بطن المحيط خارقاً زخم الأمواج المتلاطمة.

هذا المشهد بالذات يعيدنا بالذاكرة لمشهد تَكوّن اليابسة أول ما تشكّلت، وكما يقص القرآن وتحكي الأساطير، فالقرآن يقرِّر هذه الحقيقة، ويحكي أنّ الأرض والسماء كانتا رتقاً، وأنّ الأرض كانت حارة، وأنّ هناك ماءً غمرت به الأرض سمّي بتعبير الأوائل بـ “الغمر البدئي” ساقته يد القدرة الربانية لتبرد به الأرض، تمهيداً لسكن الإنسان الخليفة فيها، أيّ تشكيل بيئة طبيعية حاضنة، بدأ بذلك تكوِّن الغلاف الجوي بين قوة طرد الأرض الحارة التي تطرد ذلك الكم من المياه بالتبخير ليتكثف مرة أخرى وينزل غمراً بعد غمر، هكذا تكرّرت العملية حتى هدأت براكين الأرض شيئاً ما، واستقرّ الماء على وجهها، لتكون كلّها كتلة مائية من تحتها براكين فوّارة، تنفث حممها من بطن المحيطات كما شاهدنا في الفيلم.

هذا الخبر يضعنا على تماس مع كيفية تكوّن اليابسة حيث ذكرنا في بحوثنا أنها تكوّنت في سرّة الأرض “جبال السراة” في شبة الجزيرة العربية وفي مكّة وما حولها، من هناك مُدّت الأرض مداً بظهور نواة أوّل جبلين من أعماق المحيطات، ولك أن تتخيّل معي كيف انبعث هذا الغبار البركاني، وكيف تتراكم الصخور المنبعثة من باطن الأرض ليتناقص عمق المحيط، حتى تتشكّل جزيرة جديدة وتتسع شيئاً فشيئاً لتصبح أكبر فأكبر.

في هذه العجالة أردت أن أتأمل والقارئ الكريم هذا المشهد، لنعود إلى تلك الحقبة الزمانية الفريدة، لأبيّن أنّ للقرآن وجوه للعلم لا يمكننا سبر أغوارها وإخراج اللآلئ من بحارها إلا بعد أن نتحلّى بالشجاعة الكافية للنظر متحرّرين في كتاب الله، نصغي له حين ينطق، وننشر حقائقه بشجاعة كافية حين يتبيّن لنا بالدليل والبرهان أنّها الأصح، حتى ينقضها بالدليل باحث آخر “فنذعن لما جاء به”.

سلسلة بحوث السراة فيها الكثير لمن أراد الاطلاع، وأنا بدوري أوصي القارئ الكريم بقراءة المنهج التي نستند عليه قبل الشروع في البحوث الأخرى، وليبدأ بقراءة المنهج في كتاب “مفاتح القرآن والعقل” حتى يستطيع فهم كيف قلنا ما قلنا وإلى أي قواعد نستند.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة