هل نحن نعادي المخالفين لنا لأنهم ضدّ الفضيلة؟ أو ضد الإيمان والحق؟ أم لأنهم ضدنا كجماعات وأشخاص؟ أو لأنهم مخطئون لأن مصالحهم وإراداتهم تناقض مصالحنا وإرادتنا؟ المعلن دائما هو الأول، والحقيقة دائما في الثاني، اللهم إلا ما ندر، و”اللهم إلا ما ندر” هذه لولا مخافة الظلم لما قلناها، لأنها مع كل أسف مدخل المبطلين لبوابة المحقين، حيث يزعم الجميع أنهم من هؤلاء الندرة، عجبا! كيف للندرة أن تكون الكثرة؟
تصنف أمريكا الدول إلى محورين محور للخير ومحور للشر، أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وكلنا يعلم أن أصحاب الشمال لا يحتاجون لكي يصبحوا من أصحاب اليمن إلى توبة، اللهم سوى التسليم والطاعة لما تريده أمريكا منهم، ثم لا يهم بعدها أن يغيروا شرهم ولا خيرهم، فأصدقاؤها في محور الخير سجونهم مليئة بالمعارضين، والمخطوفون من الناس تحت حكمهم لا يُعلم أأحياء هم أم أموات بعشرات الألوف، والديمقراطية فيهم إما معدومة أو ممسوخة، والفساد في إدارتهم فوّاح، وحرية التعبير مكممة بالقانون، ولكن هذا لا يهم فالخير والشر هو في الموافقة أو المعارضة: الأخيار أصحاب اليمين هم الذين معنا، والأشرار أصحاب الشمال هم الذين ضدنا.
ليس هذا سلوكا أمريكيا تنفرد به استكبارا، بل منهج في الناس سائد، نزولا من الدول الكبرى إلى الصغرى، ونزولا من السادة الرؤساء إلى السادة المرؤوسين، ومن جناب السادة العلماء المتبوعين إلى السادة التابعين، فالناس أبعد ما تكون عن فضيلة الله التي دعاهم إليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
لم يزل موقفنا من الآخرين يتحدد من خلال مركزية الذات، الأنا، فنحن الأنا العليا، ونحن مركز الدائرة، ونقطة الارتكاز، والبؤرة، والحق يدور معنا حيثما ندور، نحكم على كل ما سوانا من خلال انسجامه معنا وتوافقه مع مصالحنا، وخدمته لجاهنا ومكانتنا، سواء أكان هذا الآخر أعلى منا أو أدنى لا فرق، فالأعلى الذي يزيد في نصيبنا محق، والأعلى الذي ينقص من حظوظنا مبطل، والأدنى الذي يتبعنا منصور، والأدنى الذي يعارضنا مخذول.
نتخذ مسار الاتصال أو الانفصال عن الآخرين وفقا لما يحقق ذاتنا، فقد نتمسك بالجماعة لأنها تحقق طموحنا الشخصي في الوجاهة والقيادة ولو بالتبعية فالنفس تقبل أن تكون تابعا من جهة لتكون سيدا من جهة أخرى، وقد نعمد إلى شق الجماعة متمسكين بسبب وجيه أو وضيع ليس مهما، فإنما هو غرض لغرض، وكثيرا ما تجد المنشقين يمارسون نفس ما انشقوا احتجاجا عليه، فانشقاقهم لم يكن لأجل مبدأ بل من أجل حظوظ النفس.
كثيرا ما نخاصم طرفا بدعوى إنه يقوم بالفعل الدنيء الذي لا يمكننا القبول به لما فيه من مخالفة للمبادئ التي نؤمن بها، ولكننا في حالة أخرى نداهن أطرافا تقوم بالفعل نفسه حينما تكون مصالحنا مرتبطة بهم أو يكونوا من أصدقائنا، وحتى لو رفضنا تصرفهم فلا يكون موقفنا منهم بنفس القوة والشراسة والعلن كما فعلنا مع آخرين، فازدواج المكيال دليل كذب المقال.
من منا يشهد بالحق على نفسه قبل أن يشهد عليه؟ بل ومن منا يقبل بالحق إذا شهد به عليه؟ بل ومن منا لا تأخذه حمية النفس بالتعصب الباطل في رفض الحق وإن شُهد به عليه؟ ومن منا لا يتحامل على من شهد بالحق عليه؟ فيحقد عليه البغضاء ويسعى له الضراء؟
لو كانت المعاداة للمخالف قائمة على ضديته للفضيلة لوجب أن نعلن التأييد والتضامن معه فيما هو موافق من مواقفه للفضيلة، ومع أنه لا يكاد يخلو أحد من ذلك إلا أن العداوة له تكون شاملة ودائمة، بل إنها تلجأ إلى التشكيك في صدقية مواقفه الموافقة للفضيلة بزعم إنها مجرد نفاق منه، بل نطعن حتى في فضائله بأنها ليست فضائل، فلو كان مثلا يحافظ على قراءة القرآن فإننا سنزعم إنه من فئة وكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، ولو كان يدافع عن المحرومين فسنقول إنه يتخذهم جملا لحاجة في نفسه، وكل ما في الأمر أنه لا يوافق قولنا ورأينا ومواقفنا واعتقادنا.
لو كانت عداوتنا لأجل أنهم ضد الحق والفضيلة والإيمان لوجب أن نحب لهم ما نحب لأنفسنا ونكره لهم ما نكره لها، ولاستشعرنا الرحمة والشفقة حيالهم والحرص على قبول القليل منهم طمعا في بلوغ الكثير، فهذه سنة الأنبياء، ولكن انظر إلى سوء العلاقات فيما بين المختلفين منا، هل سبق عداوتهم حرص على الإصلاح؟ أم أننا نبادر للعداوة ابتداء لمجرد علمنا بالخلاف؟
إن أكبر متضرر من هذه النماذج من الناس هي المبادئ التي يدعون أنهم غاضبون لها، فالفضيلة بهم تنتهك، والدين بهم يخترم، والإيمان بهم ينمحي ويضمحل، فليس أعدى للفضيلة والدين والإيمان من حامل مزيف، فهم كالمنافقين أشد ضررا على الإيمان من الكافرين.