يريد المرء أن ينفض عن نفسه غبار عام مضى وينسى أحداثه بحلوها ومرّها، ويأمل في الجديد أن يحمل له الحلو أكثر من المرّ، وقد يظن أن أفضل طريقة هي أن ينسى أحداث العام الماضي ويعيش الحاضر وينتظر ماذا يحمل له المستقبل، وهي فعلاً طريقة ولكن لمن يريد أن يعيش لمجرد العيش، لا لمن يريد أن يحيا، وشتّان ما بين الحالين. إن صفحة الماضي لابدّ أن تطوى ولكن كيف؟ أبأسى وحزن على ما فرّطنا في جنب الله وفي حقّ أنفسنا، أم بفخر واعتداد لما فيها من إنجازات ومواقف مشرّفة؟ طيّ الصفحة قد يكون مرهقاً ولكن فقط لمن يجرّ وراءه هموم السنة وأثقالها من أخطاء ومشاعر سلبية، لا لمن وفّى بوعوده لنفسه، وأدّى حقوق الآخرين، ثم أخذ العبرة من أخطائه وعبر بسلام إلى مزيد من الحكمة والرشد.
(1)
إن عمر الإنسان حاصل مجموع ماضيه وحاضره ومستقبله فإذا تعامل معه كأجزاء متفرقة تشعّبت حياته، وتشتّت فكره، وضاع عمره، وقد يعيش ثمانين عاماً ولكن لا يتعدّى عمره المعرفي عشرين عاماً، ولا يتجاوز أثره شخصه وربما بعض المقرّبين منه، فهذا (طويل العمر) عاش على هامش الحياة فإذا ما فُقد قيل بشأنه (أراح واستراح). ولكن النفس البشرية توّاقة للخلود، فإن لم تستطع أن تخلد جسدّياً (ولن تستطيع) فببقاء الأثر، وهنا مربط الفرس، فهناك من يريد أن يخلد اسمه بغض النظر أبخير أم بشرّ، وهناك من يريد أن تخلد أعماله الخيّرة ومعها اسمه، وهناك من يريد أن يبقى أثره بلا اسم ولا رسم، هذا الأخير – وياللمفارقة – هو الذي يبقى اسمه إلى أبد الآبدين فيصبح هو الخالد الحقيقي لسبب بسيط وهو أن الطبيعة تكافئه بردّ فعل طبيعي على أريحيته وعطائه فيخلد لنقاء سريرته ولتجاوزه لذاته، فمن يُعطي بلا مقابل، يُعطى بلا حدود.
(2)
وكما أن التاريخ خلّد أشخاصاً فقد خلّد أحداثاً لما كان لها من أثر في المسيرة الإنسانية، وحادثة الهجرة، هجرة رسول الله (ص) من مكة إلى المدينة من أحد الحوادث التي خلّدها التاريخ لما حملت من قيم سامية لا للمجتمع الإسلامي الصغير آنذاك بل للمجتمع الإنساني العالمي اليوم لو استُوعبت وطُبّقت. إنّ من أبرز ما قام به رسول الله (ص) بعدما هاجر إلى المدينة هو “المؤاخاة” بين المهاجرين والأنصار ولعل السرّ في خلود هذه الحادثة بحيث أُرّخ التاريخ الإسلامي بها، هو ما تركته هذه السُنّة من أثر أبدي طيب في مجتمع المدينة فأسّست لعلاقات حميمة تقوم على الإيثار والمحبة، وكانت صمّام أمان يحميها من الوقوع في شرك الفتنة أو الاستجابة لنزغ الشيطان وهي مُقدِمَة على تأسيس الدولة ونشر الدعوة. هذه الحادثة والكثير من تفاصيلها وقصص الإيثار التي سطّرتها معروفة للمسلمين بجميع طوائفهم، والكلّ يتغنّى بها ولكن أسفاً لا نجد لها أثراً في واقعنا، لا بين أبناء الطوائف المختلفة، ولا أبناء الطائفة الواحدة، ولا حتى بين الجماعة الواحدة، مع أننا في كل عام من هذا الوقت نحتفل ببداية عام “هجري” جديد، وتُقام المهرجانات الشعرية وتُلقى فيها الخطب الرنانة التي تشيد بمواقف الأخوّة وتذكّر بأنه (ص) آخى بين حمـزة القرشي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وأبى ذر الغفاري.
(3)
إنّ أحد معاني الاحتفال بمناسبة ما هو إحياء ذكرها، أي بث الروح فيها، فلو شئنا اليوم أن نتّصل بماضينا لكي لا نكون كالشجرة المقطوعة من أصولها علينا أن نُحي بعض هذه القيم السامية ولكن لا بعملية (قص ولصق) ميكانيكية جوفاء لأفعاله (ص) بل باقتباس الروح منها لننفخها في جسد الأمة المسجّى بلا حراك كالمغلوب على أمره لعلّها تستردّ عافيتها فتأخذ دورها الريادي في الصلاح والإصلاح. كثيرة تلك القيم التي جسّدها وأسّس لها (ص) ولكنّا تركنا المبادئ والقواعد العامة وركّزنا على التفاصيل والاستثناءات، فأصبح الإسلام مرادفاً للإرهاب لدى الغرب، واقتصرت سنّة رسول الله في المداومة على استخدام السواك، وتقصير الثوب!
لقد كان رسول الله (ص) حكيماً يُحتكم إليه في حلّ الخلافات كما فعل يوم اختلفت القبائل على اختيار القبيلة التي تُعطى شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه فأعطاهم حلاًّ بحيث تشترك جميع القبائل في وضعه وأنهى النزاع بينهم؛ وكان موضوعياً منفتحاً على مختلف الثقافات فإذا ما وجد منقبة حسنة دعى إليها وشارك فيها كما فعل في مباركته لحلف الفضول فقد أُثر عنه (ص) قوله: “أيّةُ أخلاق في الجاهلية هذه، ما أشرفها! بها يدفع الله عزّ وجلّ بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم”؛ وكان ديمقراطياً (بحسب مصطلحات اليوم) يتشاور مع قومه ويأخذ بآرائهم؛ وكان يقّدر السجايا الطيبة كالكرم والشجاعة ويمتدح أصحابها فيتحوّلون من الكفر إلى الإيمان، هذه الصفات هي التي يجب أن يعرفنا بها الآخرون ونشتهر بها لكي نكون مرآة عاكسة لجمال ما ننتسب إليه، وتلك هي مسئوليتنا الأولى وواجبنا الأكبر إن شئنا أن نحيا بإحياء هذه الذكرى.
(4)
إن أمّة كان آباؤها المعلّمين الأوائل والمؤسّسين لكل الحضارات الإنسانية لحريّ بها أن تجعل من أولى أولويّاتها نشر هذه الثقافة الإنسانية العالمية لا بأن تكرّر ليل نهار بأن “رسالة الإسلام عالمية”، و”أن محمّداً أُرسل للناس كافّة”، و”أنه رحمة للعالمين”، وأنه إنما “بُعث ليُتمّم مكارم الأخلاق” بل بأن تمارس وتعيش هذه الروح السمحة التي بها حيّر عقول أعدائه قبل أن يملك قلوب أصحابه. فرسول الله (ص) الذي ندّعي انتسابنا إليه واقتدءنا به تعامل مع من يختلفون معه في الدين والمعتقد من مجوس ومسيحيين وغيرهم ومن هم في أقاصي الأرض بـ(تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، وعجباً أننا اليوم نطالب أنفسنا بأن نتعامل مع بعضنا البعض أبناء دين واحد، ولغة مشتركة، وأرض واحدة، بـ(تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، فأي بون شاسع هذا الذي يفصل بيننا وبين ما نمثّل؟
(5)
عوداً على بدء .. واستجابة لنداء الخلود في فطرتنا، وحتى لا نكون كـ”طويل العمر” قليل الأثر، واتّصالاً بجذرونا السليمة والممتدة في أعماق الأرض والتاريخ، وربطاً بين الماضي المشرّف والحاضر الأليم، وأملاً في مستقبل إنساني أكثر وئاماً، ورسماً لحضارة فاضلة قوامها المحبة والخير نطوي صفحة الأمس المثقلة بأخطاء وربما غفلات وقلة خبرة لنهجرها ونبدأ صفحة اليوم المعلَّمة بخطوط الشراكة المجتمعية والتعاون بعيداً عن كلّ أنانية واحتكار وأثرة، فتعالوا إلى كلمة سواء.
استجابات