أمسك ذئبٌ شرسٌ خروفًا وديعاً، واتّهمه: وأخيرًا وقعتَ بمخالبي، أنتَ الذي سبّني السنةَ الفائتة؟ أجاب الخروف: أنا لم أكن موجودا أصلاً السنة الفائتة فعمري ستّة أشهر فقط، ردّ الذئب: مهما ادّعيتَ فلابدّ من أن أشفي صدري منك وأشبع بطني!
مَن يُصدّق أنّ الإسلام الذي اعتنقه ملياراتُ البشر، عاشوا وماتوا عليه خلال 1400 سنة (أي 70 جيلا)، يمتّ بوجوده لأعمالٍ نبيلة اصطنعها أفرادٌ عاديّون ذوو ضمائر؟! فحين قرّرت قريش قاطبةً مقاطعة الهاشميّين وعدم مبايعتهم ومجالستهم ومؤاكلتهم ومكالمتهم ومزاوجتهم، وحاصرتهم في الشِعب وقطعتْ مدد الطعام عنهم حتى يُسلّموا محمّدا(ص) ليقتلوه، كان “هشام بن عمرو” (وكان مشركاً) لبني هاشم واصلاً، يُدرك بضميره قاعدة السماء: (إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة)، فكان يأتي بالبعير لجياع بني هاشم في الشِّعب ليلا، قد أوقره طعامًا، ويُطلقه هناك، رصدتْ عيونُ قريشٍ فعلَ “هشامٍ” فاستدعته، وحقّقت معه إن كان اتّبع محمّداً، فنفى ذلك، فاستخبروه عن سبب فعلته، فأجابهم: إنّما صلة رحم، ووعدهم ألاّ يعود لفعلها، ولكنّه عاد ليُهرّب الطعام بعد أيّام فيكتشفونه ويضربونه ضربا مبرّحا، فيُقسم لهم بالتوبة، لكنّ شهامته تستفزّه ليعود فيعتقلونه ويضربونه أشدّ، وهكذا، حتى يُقرّر بأخذ مبادرة أكبر لتكوين تحالف ينقض صحيفة القطيعة والإثم نفسها، التي صنعها زعماء قريش لمحاصرة بني هاشم، وتلك قصّة بطولية أخرى.
اليوم، باد “أبوجهل” وعتاةُ قريش باللعائن، وبقيت تلك الأفعال السامية نبراساً وسببا لديمومة الدين والمؤمنين، وعبرةً لقيمة الشهامة وآثارها. سردتُ هذه الأمثولة بين يدي حصار مليون ونصف عربيّ في غزّة، بمؤامرة زعامات صهيونية/عربية/غربية.
صدقُ (الأشخاص/الأنظمة) مع النفس يحرّرها لترى التراجع والاعتذار فرصةً للتطوّر وتبديل المسار، لتلاقي خصومها -أيّا كانوا- تجاه حالة تعايش ووضع الأوزار، إلاّ أنّ النفوس الصغيرة التي لم تتطوّر دفاعاتُها الطفولية لتُجاوز فزعاتها بمعقوليّة ورويّة، تلك المهووسة بمحوريّة ذواتها، تلجأ عادةً إلى تعقيد وتضخيم أيّ خلاف مع خصومها الشخصيّين، بتوصيفهم بأنهم: خطرٌ ماحق، وتنظيم إرهابيّ، هو خطر الأخطار، وجهادُه أقدس الواجبات، والاحتدام معه أمّ المعارك، والتنصّل والسكوت عنه خيانة وخذلان. كما في الأفراد، كذلك في الأحزاب والأنظمة الأوتوقراطية التي تُدار بأفراد “نرجسيّين”.
فدونما وازعٍ أخلاقي وحسّ قوميّ ووطني وإنساني، تقوم بعضُ الأنظمة التي تتفاقم أزماتها الداخلية جرّاء الاستبداد والفساد الإداري وسرقة المال العام وتدنّي مستويات المعيشة المفضية لتوتّرات اجتماعية، تقوم بإيجاد فزّاعة “عدوّ” من خصومها تُلبّسه تهمة أكبر من حجمه (كما بمثال الخروف والذئب أعلاه)، بغرض استخدامه ككبش فداء يُشتّت شعبها عن قضاياه وأزماته، ويُحوّل البلد بأجهزته الأمنية والإعلامية -بهذه الحملة الاستنفارية المصطنعة- إلى ثكنة أمنية تُضرَب فيها كلّ العصافير بهراوةٍ عنوانُها “التآمر على الوطن”، تُكمّم به أفواه المعارضين والمنتقدين للأوضاع، لأنّهم سيكونون متواطئين مع الخطّة الكبرى التي تزعزع النظام (للخلية المكتشفة المزعومة)، وأكبر داعميها، بالمال أو بالسلاح أو بالإعلام.. مسرحية هدفها محاصرة الشعوب العربية عن الفعل الحرّ، ومحاصرة أهل غزّة عن استلام النجدة، وخلط الأوراق في كلّ مكان.
مسرحيات الأمن وفذلكاتُها تتكرّر بنفس الأسطوانة الممجوجة في كلّ مكان، بتماثل مملّ: “تمّ القبضُ على شابّ يتزعّم خليّةً إرهابية، تهدف لزعزعة الاستقرار وتجنيد الأعضاء، وتُخطط لتنفيذ عمليّات إرهابية، بتمويل من جهات خارجية، والتخابر مع أطراف دولية وإقليمية، وتمّ الكشف عن مخطّطها الآثم المحسوب بدقّة ليتزامن مع كذا وكذا..الخ”، ولا يفوتها توثيق وتصوير ما اكتشفت بحوزته من “دولارات” و”ساعة يد” وربّما “سلاح” أو “عمود حديد” يصلح لاستخدامات مزدوجة!
الشاب المُعتقل بمصر “سامي شهاب” المتّهم بتنظيمه خليةً لصالح حزب الله، نموذج “لهشام بن عمرو”، وقضيّته نموذج للمسرحيّات الأمنيّة إيّاها، لأنّه قرّر أن ينتهك حصاراً جائراً مفروضًا على أشقّاء له، انسجاماً وطاعةً لقاعدة نخوة الضمير/السماء: (إطعامٌ فِي يومٍ ذِي مَسْغبةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ). حين تكون نجدة الأخ والقريب، نصرته، فكّ القطيعة عنه، جريمةً وانتهاكاً في عصر الهمجية وانعدام النخوة، فذلك يعني أنّ “المستر” أباجهل و”صحيفة المؤامرات القرشيّة” قد عادوا بقوّة.
يومَ كنا بسجن الثمانينات، كان بعضنا يُحرم مِن زيارات أهله، وبالتالي يفتقد المؤونة والمعونة وحاجات الضرورة، يُبادر شهمٌ من المساجين (سياسيّين.. جنائيّين.. قضايا مخدرات)، بحسب ضميره ونخوته –لا بحسب مذهبه وعقيدته- إلى نصرة أخيه السجين المُعاقَب في زنزانته الانفراديّة والتخفيف عنه، بتهريب بعض التمور خلسةً إليه، والصابون، وربّما السجائر، أتذكّر أنّي مُنعتُ مِن حلقِ شعري والاستحمام بالصابون لستّة أشهر لدرجة صار شكلي وكأنّي أحد أعضاء عائلة “جاكسون” أو فرقة “البيتلز”، حتى هرّب لي سجينٌ عطوفٌ “موسى” وصابونة (تحتضر)، جعل الأمر وكأنه رماها في المرحاض، فجززتُ بالموسى شعري وغسلتُه بقشر الصابونة.. حلاقة رجالية ارتجاليّة و”لا أحلى”.
“سامي شهاب”، هو من أولئك الشبّان الذين يتذكّرهم ويتمنّاهم كلّ مُحاصَر وسجين، يعينون إخوتهم المعوزين بإيعازٍ من إنسانيّتهم، فعلُهم “السامي” يُومض “كشهاب” يشقّ حلكة الظلام التي تلفّ كلّ محروم ومقيّد، ليُخبرهم أنّ الأرض بخير طالما السماء فوق، وطالما تُمطر ماء.