لم يفق من ذهوله إلا وهو يتدحرج على الرصيف، جلس القرفصاء وسط الطريق، أسند رأسه على راحتيه، أطرق برأسه متفكراً يخاطب نفسه: ماذا جنيت؟ ألأني رفضت أن أقوم من مقعدي لرجل أبيض ضُربت ورُكلت وأُهنت وأُلقيت من الحافلة كما يلقى كيس القمامة وسط صرخات إعجاب البيض لمن فعل بي هذا؟!!
جرّ أنّة طويلة عندما زفرها كاد أن يحرق لهبها وجهه، وتساءل: أهكذا تكون زفرات المقهور؟!!
أخذ شريط الذكريات يطوف في مخيلته، تذكر استعمار الإنجليز لبلاده، واحتقارهم لشعبه، لاحت أمام ناظريه معاناة الهنود وهم يشيدون مدنية وحضارة بريطانيا بأجسادهم النحيلة، كيف خاضت بهم حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وعندما ظفروا في الحربين العالميتين كان الغنم لبريطانيا والغرم على الهنود.
أحسّ بلسع الدموع على وجنتيه، فخالها شفرات حادّة تحفر أخاديد لها في خديه، رفع يده ليمسحها بكمه، ولكنَّ الدموع لم تكف عن الانحدار، استحى من نفسه أن يرى نفسه باكياً كطفل صغير، أو امرأة مقهورة، وقال: أتبكي الرجال يا غاندي؟!!!
تفاجأ بجواب غريب انطلق من أعماق العقل والوجدان، نعم تبكي الرجال إذا قهرت، لأنَّها إن لم تبكِ وتفرغ شحنات القهر فستنفجر وتموت، فإذا أردت أن لا تبكي فحوّل قهرك المكبوت إلى عمل.
في الأثناء كانت صافرة قطار ينهب الأرض تلعلع من بعيد، يمم طرفه جهة القطار، شدته الأدخنة التي ينفثها وهو يطوي الأرض بعرباته فخالها أنفاس قهر تكسرت في صدره فنفثها. استدرك وقال: ولكنَّ القطار حوّل قهره إلى حركة وعمل فجرَّ القاطرات خلفه دون أن يحسّ بثقلها أو يرهقه طول المسير، وأنت يا كرمشاند1 إن أردت أن لا تفضح نفسك بدموع القهر أمام النّاس فحوّل قهرك إلى عمل، عندها ستجر شعبك المثقل بالآلام إلى فضاء الحريّة، كما يجر القطار عرباته.
كسر غاندي حبوته1 واستوى على قدميه واقفاً كأنّما نشط من عقال، أعاد تنظيم هندامه، حمل حقيبة المحاماة المثقلة بقضايا الهنود المظلومين الذين يترافع عنهم في جنوب أفريقيا وانطلق.
انطبعت صورة القطار وهو ينفث أدخنته ويجر عرباته في عقله وقلبه. صممّ أن يحوّل قهره إلى عمل فحزم أمره وقرّر العودة إلى الهند؛ ليبدأ المسير بشعبه إلى فضاء الحريّة، إنّه حلُم فهل ستقهر به بريطانيا العظمى؟ نعم، نعم إذا حولت الحلُم إلى حقيقة، هكذا قال: فكما القطار لا يشعر بثقل ما يحمل فعليك يا كرمشاند أن لا تشعر بثقل ما ستحمل، حوّل قهرك إلى عمل، حوّل قهرك إلى عمل …. هكذا أخذ يردد.
تساءل كيف أبدأ المسير؟ ومن أين أبدأ؟ ومن دليلي في هذا الدرب الموحش، بأي مصباح استضيء.
استعرض سير الثائرين من الأولين حتّى الآخرين من ظفر منهم ومن أخفق، من كسب النزال ومن خسر، وأخيراً لاح له من بعيد محيا ثائر قديم مثقل بالجراح، خضبت شيبته بالدماء، وغيرت الترب محاسن وجهه، ثائر امتشق حسامه، ورفع مبادئه على رمحه، وحمل روحه على كفّه، وتلفع بكفنه، وقطع الفيافي إلى مصرعه، لم تغره الوعود، ولم ترهبه الحشود، ولا أوحشه قلة الناصر، ولا كلب العدو، ولا هول النزال، ولم يقعده العطش والنزف، فسمع رنين صوته يدوي في أذنيه قد اخترق الزمان، وعبر المكان، وتخطى الأديان، “والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فرار العبيد”، فشعر بهيمنة روح القائل عليه، وعرف أنَّ لكلمة الصدق قوة وسلطان، وأنّها تفعل بالأرواح المعجزات، عرف أنَّ المبادئ كالشمس ملك مشاع لكل أحد وأنَّ العظماء قدوة لكل أحد لا يحصرون في مكان، ولا يستفرد بهم مكان.
وجد نفسه مسوقاً لتتبع آثار هذا الثائر يبحث عن شعار يبعث الحماس، ويلخص الهدف ويرسم الطريق، شرع ينثر درر كلامه الذي نثره على الطريق من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى كربلاء، فطالعته كلمّة اهتزّ لها كيانه، وملكت عليه لبّه، وتيقن أنَّها رسالة السماء إليه: “والله ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي”. طأطأ رأسه إعظاماً لما سمع، فقال: هيَ هي شعار ثورتك.
ثمَّ أخذ يزن الثائرين بالحسين، فوجد الحسين قد بصم على الزمان، لا يرقى إلى مقامه راقٍ، وجده أرجح الثائرين عقلاً، وأعظمهم حِلمًا، وأثقلهم وزنًا، وأنبلهم قصداً، وأعفهم نفساً، لم يساوم على مبدأ، ولم يجامل في حق، ولم ينحرف عن طريق، قرن القول بالعمل، والوعد بالوفاء، فدى أمته بنفسه وبأهله وبأصحابه، كان الإصلاح هدفه، فتراءى له بون شاسع بين الحسين والثائرين الذين أسرفوا في الدماء وسهل عليهم زهق الأرواح، أو تنصلوا ممّا قالوا. فتساءل أكذب هؤلاء فيما وعدوا؟ ربما، وربما، ولكنّهم بالتأكيد صاروا أسرى الأهواء لمّا ظفروا فحادت بهم عن الجادة، فاستشعروا الطمع، ومالوا إلى الاستبداد، فاستعبدوا شعوبهم.
بدا لغاندي أنَّه أبصر الطريق، وآن له أن يضع قدميه عليه. قرّر أن يقهر نفسه بالزهد لكي يكون أقوى منها حتّى لا تقهره أهواؤه عند الظفر فيتخلى عن مبادئه، ولتكن ثورته سلميّة، فحسب تعاليم دينه أنَّ اللحم عليه حرام؛ لئلا يزهق روح حيوان فكيف يطيق أن يزهق روح إنسان، ووجد أن دماء الحسين المظلوم انتصرت على سيف يزيد، فثّلت عرشه، وهدمت سلطانه، فقال: فلأكن كالحسين مظلوماً لأنتصر على بريطانيا.
الكاتب: أ. أحمد عباس