خضع التاريخ البشري بشكل عام و التاريخ العربي بشكل خاص إلى سلسلة من عمليات التزوير والتحريف لمصالح سياسيّة في أغلب الحالات ضمن مسميات مختلفة، فمنها الديني الذي ينفذ أمر السماء، و منها الوطني والقومي الذي يحقق تطلعات الأمة والشعب, و يظل التحريف المستند لأمر السماء والدين أكثرها تأثيرًا في بناء قناعات الفرد والمجتمعات؛ بسبب هالة القدسية التي يحاط بها، وأن الالتزام به يقود إلى الخلاص في الآخرة, وكانت الخرافة والدجل من أهم الأدوات المستخدمة لإثبات التحريف وترسيخه في السلوك البشري، ويتضاعف تأثير التحريف إذا اقترن بالسلطان والقوة، فيصبح قانونًا ينفذ بأمر السلطان، ومن خالفه استحق العقاب والشواهد على ذلك شاخصة للعيان.
وبعض المسلمات الدينيّة والتاريخيّة السائدة في يومنا هي نتاج عمليات تزوير طويلة ودقيقة، ولدقتها وإحكامها استطاعت أن تفرض نفسها كحقائق ثابتة في الوعي الإنساني، وبعضها أصبح القانون الذي يدار به عالم اليوم، وتصاغ به نظريات التاريخ والاجتماع والسياسة وتؤسس عليه الدول، وإسرائيل مثل صارخ على هذا التحريف.
“إذن كان للتزوير أثر عميق في فنّ التاريخ، فقد تحوّل إلى أيدي القساوسة والرهبان، وبقي فيهم طوال العصر الوسيط أي زهاء ألف سنة من الزمان، وصار تزوير التاريخ خاضعاً للاهوت مسخَّراً له، وأصبح لا يكترث بحالٍ بما هو حقّ وواقع أو محتمل الوقوع، بل إنّ التاريخ غدا مشحونًا بأخبار الخوارق والكرامات غير معنيي إلا بما له صلة بالدين، وفقد حاسة النظر للأشياء الموضوعة في مواضعها، فوضعَ العبرانيّين في صدر دراما الزمن، وردَّ دولَ العالم القديم إلى المؤخّرة أو إلى الجانبين، وجملة القول أنّ تحوّل التاريخ إلى رجال الدين كان معناه محو التاريخ الصحيح من الوجود محواً تاماً دام ألف عام”.
وخير شاهد على تحريف التاريخ بناء كنيستا المهد و القيامة والذي نتج عن ما أصبح يعرف بتنصر الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الرابع الميلادي, فقد شيّدت الكنيستان في موضعين لا علاقة لهما جغرافيا بحدثي ميلاد (وصلب و قيام) السيد المسيح علية السلام, فقد تم زورًا الإسقاط الجغرافي لأحداث مدونات التوراة على جنوب سوريا (فلسطين) وحشرت هذه الأحداث و ما يستتبعها من تفاعلات على هذه الأرض بالرغم من تعارضها مع الأدلة و البراهين الأثرية والتاريخية والجغرافية و التي سوف نعرضها و نناقشها في مقالة أخرى بعد أن نورد ما هو متداول لدى الأغلبية من الكتّاب.
التعريف بالكنيستين:
أولاً: كنيسة المهد.. لكنيسة المهد أهمية خاصة في قلوب المسيحيين بمختلف طوائفهم، فبالإضافة إلى مكانتها التاريخية حيث إنها أقدم الكنائس الأثرية، فهي أيضًا تحمل مكانة دينيّة خاصة، فقد شيدت الكنيسة في نفس المكان الذي ولد فيه المسيح عيسى عليه السلام، وتضم الكنيسة ما يعرف بكهف ميلاد المسيح، وهو المكان الذي وُضِعَ فيه بعد مولده، والكنيسة عبارة عن مجمع ديني كبير، فهي تحتوي على مبنى الكنيسة بالإضافة إلى مجموعة من الأديرة والكنائس الأخرى التي تمثل الطوائف المسيحية المختلفة؛ فهناك الدير الأرثوذكسي في الجنوب الشرقي، والدير الأرمني في الجنوب الغربي، والدير الفرنسيسكاني في الشمال الذي شيد عام 1347 لأتباع الطائفة الفرنسيسكان.
ثانياً: كنيسة القيامة.. تعتبر كنيسة القيامة من أعرق كنائس بيت المقدس، استغرق العمل في بنائها أحد عشر عاماً إذ بدأ عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين وانتهى عام ثلاثمائة وستة وثلاثين للميلاد. وأشرفت على بنائها الملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين..ويتردد أن هيلانة عثرت أثناء زيارتها إلى بيت المقدس على ما اعتقدت أنه خشبة الصليب الذي علق عليه السيد المسيح، وأرادت بناء كنيسة في المكان, فلبّى الإمبراطور رغبة والدته، ولم يدخر مالاً ولا حرفيين أو خبراء في سبيل بناء كنيسة لائقة إلا قدمه. تمتعت كنيسة القيامة بأهمية استثنائية وقد وصفها الرحالة المسلمون الذين زاروا بيت المقدس ومنهم ناصر خسروا الذي يقول: ” للنصارى في بيت المقدس كنيسة لها عندهم مكانة عظيمة ويحج إليها كل سنة كثير من بلاد الروم”.
يوجد لمعظم الطوائف المسيحية وجود في الكنيسة فإلى جانب الدير الكاثوليكي، هناك الأديار الأرثوذكسية ، أمّا الأقباط الأرثوذكس فلهم مكانة ثانوية في الكنيسة. ولا شكَّ أن أعظم احتفالات كنيسة القيامة عند جميع الطوائف المسيحيّة هي احتفالات الأسبوع المقدس والفصح، التي تتم في أقدس مكان مسيحي في القدس.
كيف ولماذا ومتى أنشئت كنيستا المهد و القيامة ؟
تاريخياً ارتبط إنشاء الكنيستين بالإمبراطور قسطنطين وأمة هيلانة و تحوله من الديانة الوثنية إلى النصرانية , فقبل أن نستعرض قصة بناء الكنيستين لنتعرف على قسطنطين و حقيقة أو زيف تحوله إلى الديانة النصرانية .
هو قسطنطين الأوَّل أو كما يسمى قسطنطين العظيم 272ـ337 إمبراطور الدولة الرومانيّة *اسمه فلافيوس فلايروس قسطنطينوس ولد لأب بمنصب إمبراطور ثانوي أو واليا على إحدى الولايات الرومانيّة (الجول – Gual)، أمه هيلانة ابنة لصاحب خان (1) . ويورد الباحثين أسماء أخرى لا علاقة لها بموضوعنا فكل ما يهمنا هنا هو أنه الإمبراطور الذي تولى حكم الإمبراطورية الرومانية بعد موت والده في العام 306م و استطاع أن يبسط سيطرته على الإمبراطورية الرومانية بجزأيها الشرقي و الغربي بعد معارك عديدة مع خصومه، وقام بنقل عاصمة الإمبراطورية من روما إلي القسطنطينية التي بناها لهذا الغرض.
كيف تنصّر قسطنطين ؟
يجمع أغلب الباحثين على أن تحوله إلى الديانة النصرانية كان لأهداف سياسية فقد كان هذا التحول وسيلة لكسب النصارى إلى جانبه في صراعه ومعاركه على السلطة مع خصومه و من ثم وسيلة لتدعيم ملكه ولهذا نقل عاصمته إلى الجزء الشرقي من الإمبراطورية حيث الأغلبية النصرانية و هرباً من هجمات برابرة الشمال على ايطاليا وروما, يقول المؤرخان كيم وفاسيليف: أن قسطنطين كان على استعداد تامّ لتغير ميوله المذهبية بل الدينية وفق ما تتطلبه مصالحه السياسيّة ذلك أنه ظل يؤيد المذهب الأثناسوسي طالما كانت عاصمته في الغرب وطالما اعتمد على الغرب في قوته. ولكنَّه عندما شرع في نقل عاصمته إلى الشرق وأحس بالحاجة إلى استرضاء سكان القسم الشرقي الإمبراطورية لم يجد ما يردعه عن تغيير عقيدته أو ميوله نحو المذهب الأريوسى.(2) كما يقول ابن الأثير: “وأما سبب تنصر قسطنطين فإنّه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وَضَحٌ كبير، فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه، فشاور نصحاءه، فقالوا له: لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين. وكانت النصرانية قد ظهرت، وهي خفية، وقالوا له: استمهلهم حتى تزور البيت المقدس، فإذا زرته دخلت في دين النصرانيّة وحملت النَّاس عليه، فإنَّهم يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك، وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك، فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير أقاموا على دين اليونانيّة، فقاتلهم وظفر بهم، فقتلهم وأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها، وغلب على الشام”(3). ولإضافة هالة القدسية على (تنصره) ادعى أنَّه رأى بعد غروب الشمس هالة من النور في السماء على شكل صليب وتحته عبارة “بهذا تنتصر” فلما نام رأى في منامه صورة المسيح ومعه الصليب نفسه وزعم أنَّ المسيح أمره باتخاذ الصليب شعاراً له في معاركه مع خصومه، ومن هنا صار الحلم جزءًا أساسيًا من حياته، و بدأ يعتقد بأنه ( موسى) عصره الذي حمل مسئولية إلهية لقيادة الناس فنصب له خيمة خاصّة كخيمة موسى خارج معسكر الجند؛ ليجتمع فيها بقادته قبل المعارك؛ ليحصلوا على التوجيه الإلهي المزعوم لخوض المعارك تحت شعار الصليب.
أصدر عام 312 م مرسوما سمي بمرسوم ميلان، جعل فيه المسيحيّة ديانة مرخصة وساوى بينها وبين الديانات الأخرى في الإمبراطوريّة الرومانية بعد أن كانت المسيحية والمسيحيين مضطهدين، وأنشأ و ترأس مجمع نيقية عام 325م؛ ليكون الفيصل في الخلافات التي نشأت بين الفرق المسيحيّة, في المقابل استمر في الاحتفاظ لنفسه بمنصب الكاهن الأعظم وهو المنصب الإمبراطوري في الديانة الرومانيّة الوثنيّة،َ وضرب العملة بعلامة الصليب في جهة، وشعار عبادة الشمس في الجهة الأخرى، كما رفض استبعاد الشعائر الوثنية من حفلات الإمبراطورية الرسمية. ومن الأدلة التي يسوقها المؤرخون على عدم تحول قسطنطين إلى المسيحية بالإضافة إلى احتفاظه بلقب الكاهن الأعظم حادثة إعدامه الوحشي لزوجته و ابنة البكر لأسباب مجهولة.
ويرى بعض المؤرخين أنَّ هذا التحول من عهود الاضطهاد للمسيحيّة والمسيحيين إلى عهود الأمن والاستقرار كان بسبب قبول رجال الكنيسة التنازل عن كثير من المبادئ والخضوع لسلطة الدولة، ورغبة قسطنطين في الحصول على أتباع أكثر، فهو تحول سياسي لمصلحة الطرفين, الكنيسة من جانب والدولة من جانب آخر, فقسطنطين إذن عطف على المسيحية سياسياً من أجل الحفاظ على مقومات النصر على خصومه.
إن أهم الوثائق التاريخية التي يستند إليها الباحثين في التاريخ المسيحي لتأكيد تحول قسطنطين إلى المسيحية الوثيقة المسماة ” هبة قسطنطين” في العام 324م والتي ظلت الشاهد الأهم للمروجين لتنصره، وقد ثبت لاحقا بأنها مزيفة, وفحوى هذه الهبة المزعومة أنَّ الإمبراطور قسطنطين الأوَّل قد منح البابا سلفيستر الأوَّل ومن يخلفه السلطة الروحيّة والسيادة على مدينة روما والجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية. وتقول الوثيقة أن هذه الهبة أعطيت للبابا سلفيستر كمكافئة له لعلاجه قسطنطين من مرض الجذام بطريقةٍ إعجازية. ولو كانت هذه هي الحقيقة لأصبح من الطبيعي أن يحكم القساوسة الجزء الغربي من الإمبراطورية بعد انتقال عاصمة الإمبراطورية إلى بيزنطة كما يحكم الإمبراطور نفسه، وهذا ما يثبت التاريخ عكسه تماماً، فلم يرد ذكر أنهم حكموا بل كان الحكم للحاكم. و الثابت أن الرهبان استخدموا الوثيقة لتوسع سلطتهم.
وقد أثبت عالم الإنسانيات الايطالي لورنزو فالا في العام 1440 بأن الوثيقة لا يمكن أن تكون حقيقة من خلال تحليله للغة اللاتينية التي كتبت بها الوثيقة التي لا يمكن أن تكون هي اللغة المستخدمة والسائدة في ذلك العصر ويرى أنَّها كتبت في العام 752 م عندما كانت الكنيسة بحاجة لتأكيد سلطتها في مقابل تنامي السلطة غير الدينيّة, ولاحقا شكك علماء الآثار المسيحيون بهذه الحقيقة بعد أن كانوا يؤكدون صحتها طوال أحد عشر قرنا (4).
وللدلالة على أن تنصر قسطنطين ودولته كان ظاهريًا بقاء قوانين الدولة وثنية بالرغم ممّا عرف عنه من جبروت واستبداد. يورد لنا كتاب تاريخ الحضارات العامّ الجزء الثاني ( روما وإمبراطوريتها): ” ومع ذلك فان الديانة المسيحيّة كانت أبعد من أن تحرز غلبة نهائية عند وفاة قسطنطين. فما زالت الوثنيّة محتفظة بمراكز قوية، كان الجيش بأكثريته متمسكا بها وبقي كافة رجال الفكر المشهورين ينتسبون إليها (5).
تزامن إنشاء كنيستي المهد و القيامة في فلسطين أو كما كانت تسمى جنوب سوريا مع تشييد كنيسة في الموقع الذي زعم أنَّه الجبل الذي كلم الله موسى عليه في شبه جزيرة سيناء، و جاء إنشاء ما عرف لاحقا بالأماكن المقدسة للديانة المسيحية بعد أكثر من ثلاثمائة سنة مما يسمى بصلب المسيح بناء على رأي شخص واحد فقط رغم عدم وجود أدلة تاريخية وتوراتية وإنجيلية على ذلك، كما اكتشف ذلك الباحثين وعلماء الآثار الذين تصدوا للبحث في مصداقية المرويات الدينيّة و التاريخيّة و بالذات خلال المائة سنة الماضية التي تطور فيها علم الآثار. وفي السياق نفسه، تعترف أوساط المؤرخين العالميين بانَّ علم آثار فلسطين لم يتطور كعلم إلا في مرحلة متأخرة، وتحديداً عند نهاية القرن التاسع عشر، أي عندما تطورت علوم أثار مصر وبلاد ما بين النهرين والإغريق والرومان، وعندما اكتشفت نصوص ووثائق تاريخية متعلقة بتاريخ المنطقة(6).
ونتيجة لتطور علم الآثار فقد أثيرت الشكوك حول حقيقة الموقع الذي بنيت عليه كنيسة القيامة مما حدا ببعض المهتمين بهذا الشأن بناءًا على دراستهم للمنطقة إلى اقتراح مواقع أخرى للكنيسة, ففي عام 1730 اقترح كروتي من التونا Krote of Alton) ( موقعا يقع غرب بوابة حيفا، و عام 1812 اقترح كلارك ((Clarke مكانًا آخر يقع جنوب بوابة زيون واقترح د. باركلي ((Barclay موقعا شرق بوابة سانت ستيفنز واقترح آخر من قبل ثنيوس (Thenius) التلة عند كهف ارميا.
كما تم خلال الفترة الممتدة من زمن المسيح (ع) إلى فترة بناء كنيسة القيامة أحداث عدة مرت ببيت المقدس كان من أهمها هدم المدينة و تحويل البقعة التي شيّد فيها لاحقا كنيسة القيامة إلى معسكر للجنود الرومان لمدة قرن من الزمان و أصبحت منطقة ممنوعة على العامة من الناس .
وإذا ثبت ما أورده بعض الباحثين بأن اليهود هم من دلوا هلينا (أم قسطنطين) على هذه المواقع فمن المؤكد أن دائرة الشك ستكبر علمًا بأنه خلال هذه الفترة لم يكن أتباع الديانتين على وفاق بينهما وأنَّ اليهود كانوا محاربين في الفترة التي كانت المسيحية قد أصبحت كما يدّعي ديانة مرخصة و مدعومة من الإمبراطور المنتصر حديثًا.
و تكبر علامة الاستفهام أكبر عندما نكتشف أنَّ جميع هذه المواقع التي بني في مكانها ما يعتبر اليوم من أقدس الأماكن لبعض الديانات والتي حددتها هيلينا (أم قسطنطين) أو (تعرفت عليها) كمواقع مقدسة كانت سابقا دور لعبادة الأصنام والأوثان (البكان). ” إنَّ المكان ذاته الذي يعتقد أنَّ السيد المسيح (حسب أحلام قسطنطين) قد لاقى حتفه ودفن فيه وذلك قبل قيامه أو مبعثه كنيسة انستسيس أو قبر السيد المسيح الواقع على جبل كولوكوثا (تم بناءه) فوق مدفن يهودي وأسفل معبد أفرودايت آلهة الوثنين (البكان)”(7).
تجمع المرويات بأن قسطنطين بعث أمه هيلانة إلى جنوب سوريا في العام 330 م، لبناء الأماكن المقدسة لأسباب تحكم شخصيته وسلوكه وتكفيراً عن إعدامه الوحشي لزوجته و ابنه البكر. ” إن اختيار وتحديد موقع جبل سيناء في شبه جزيرة سيناء ظهر ربما في نفس الوقت التي قرر فيه قسطنطين بناء كنيسة في المكان المزعوم لقيام أو مبعث السيد المسيح في أورشليم، وأن السعي المحموم للتعرف على (المواقع المقدسة) في الشرق الأوسط كان بأمر قسطنطين للتكفير عن أمره بإعدام زوجته فوستا وابنه كريسبوس وفي لحظة يأس واكتئاب أرسل قسطنطين أمه هيلينا إلى الشرق الأوسط لاكتشاف المناطق التي (رآها مسبقا) في أحلامه ورؤاه”. (8)
وكما يقول كاتب آخر: ” وليس هذا فقط بل إنَّ هيلينا أثناء وجودها في فلسطين أمرت ببناء كنيسة فوق المكان الذي يعتقد أنَّ (صليب السيد المسيح ) دفن فيه؟؟ وللحصول على (صليب السيد المسيح) “أجرت هيلينا حملة تحري وبحث بين الناس المحليين هناك والذين نصحوها بالتوجه إلى مكان معين بنوا فيه ضريح أفرودايت آلهة البكان و(بتأثير من الرؤى والأحلام) أمرت هيلينا أن يتمَّ حفر وتنقيب الموقع “في حينه” حسب قول القديس إمبروس في كتابه On the Death of Theodosius (De Obtiu Theodosii, تم العثور، على ثلاث صلبان”. وبعد افتراض أنَّ أحد هذه الصلبان الثلاثة هو الصليب الحقيقي الذي صلب عليه المسيح (من سجلات مايكل جراند) “بالتالي أمرت هيلينا ببناء كنيسة فوق هذا الموقع”.
أما في كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار ( الجزء الثاني – ص 334) يذكر المقريزي أمر(قسطنطين) بتجهيز أمه هيلانة إلى بيت المقدس في طلب آثار المسيح عليه السلام وبناء الكنائس وإقامة شعائر النصرانية فسارت إلى بيت المقدس وبنت الكنائس فيقال: إن الأسقف مقاريوس دلَّها على الخشبة التي زعموا أن المسيح صلب عليها وقد قصَّ عليها ما عمل به اليهود فحفرت فإذا قبر وثلاث خشبات على شكل الصليب فزعموا أنهم ألقوا الثلاث خشبات على ميت واحدة بعد واحدة فقام حياً عندما وضعت عليه الخشبة الثالثة منها فاتخذوا ذلك اليوم عيدًا وسموه: عيد الصليب وكان في اليوم الرابع عشر من أيلول والسابع عشر من توت وذلك بعد ولادة المسيح بثلاثمائة وثمان وعشرين سنة وجعلت هيلانة لخشبات الصليب غلافًا من ذهب وبنت كنيسة القيامة ببيت المقدس على قبر المسيح بزعمهم.
أما كنيسة المهد فإنَّ ما جرى لها لا يختلف عمّا جرى لكنيسة القيامة، فقد تمَّ بناؤها بأمر من قسطنطين تم تشييد مبنى كنسيًا ضخمًا ” النقطة الهامة هنا هو وجود الغار أو الكهف الصخري الذي كان يعتقد أنَّه المكان الذي ولد فيه المسيح” (وقد كانت نساء الوثنيات يأتين إليه في وقت ثابت كل عام للندب والرثاء على موت الآلهة (أدونيس). وفوق هذه البقعة المبجلة التي يحيطها سور تم تشييد كنيسة ضخمة ذات ثمانية أضلاع” (9).
لم يكن لقسطنطين أن يصل إلى مبتغاه دون الركون إلى قوة السلطان فالثابت أن جنوب سوريا كان جزءًا من المنطقة التي يحكمها قسطنطين في ذلك الوقت و التي من خلالها فرض بناء هذه الكنائس و غيرها بقوة السلطان و التقاء المصالح السياسية مع القائمين على الديانة المسيحية في ذلك الزمان.
دوافع قسطنطين
بالرغم من تعدد الآراء حول دوافع وأهداف قسطنطين من بناء الكنيستين إلا أن أغلبها يستثني الدافع الديني والتحول الروحاني لديه فمعظم الآراء تلتقي على الدوافع التي أملاها التقاء المصالح بين الإمبراطور والقائمين على الديانة النصرانيّة في ذلك الوقت, فسياسة قسطنطين كانت انتهازية من أجل بسط سلطانه على الجزء الشرقي للإمبراطورية بعد انحسارها في الجزء الغربي نتيجة لهجمات برابرة الشمال عليها، وأراد أن يكسب تأييد سكان الجزء الشرقي الذين كان يدين أغلبهم بالنصرانيّة اصطنع تحوله للنصرانيّة ليكون الأداة التي من خلالها يقوي بها ملكه ويوسع بها قاعدة المناصرين بالرغم من احتفاظه بكل مظاهر الوثنيّة واحتفاظه بلقب الكاهن الأعظم لها.
وقد تنقل بين مذاهب النصرانية ليكفر أحدها يومًا ويجعل نقيضه مذهبا أوحدًا عند الحاجة إلى ذلك ثم يعكس إلي نقيضه بتغير المصالح كما فعل مع مذهب أريوس.
بناء الكنيستين لم يستند لا إلى نصوص الكتاب المقدس و لا إلى المرويات التاريخية المسندة و لا إلى أدلة أثرية يمكن الركون إليها رغم سعي الكثير من الباحثين عبر التاريخ الذين حاولوا عبر ربط الأحداث التاريخية ببعضها الحصول على نسق منطقي مقبول يفضي إلى إثبات أن الموقعين ارتبطا بالحدثين و كذلك فعل علماء الآثار خلال القرون الماضية دون الحصول على الأدلة الثابتة , حاول البعض منهم أن يفبرك الأحداث بتقديم أو تأخير زمانها أو يعزي بعض الأحداث و الفاعلين فيها إلى المجهول , إلا أن المنصفين منهم يقر بالتلاعب بأحداث التاريخ لأسباب سياسية متعلقة بالتسلط و السلطان .
نتائج التحريف
تعتبر كنيستا المهد و القيامة من أقدس الأماكن المسيحية لإيمان أتباعها بان الأولى تمثل المكان الذي ولد فيه السيد المسيح (ع) والثانية مكان وفاته ودفنه أو صعوده إلى السماء على اختلاف العقائد كما وأصبحت دورًا للعبادة والتقرب إلى الله ويحتم العقل والمنطق والإيمان احترام قدسيتهما من هذا المنطلق فالذي يعنينا هو التحريف واستغلال الدين ودور العبادة لأهداف سياسة آنية، وما يستتبع ذلك من نتائج على تاريخ الأمم والأديان.
وفي الجانب الأخر يمثل بناؤهما من خلال هذا السيناريو شاهد على التحريف الذي تعرض له تاريخ المنطقة العربيّة في مراحل تاريخيّة مختلفة؛ تحالفت لإخراجه و تنفيذه المصالح السياسيّة الدينيّة مستخدمة الخرافة تارة و القوة والسلطان تارة أخرى فنتج عن ذلك واقع لا يمت إلى الأصل و الحقيقة. وبسبب هذا التحريف صارت المنطقة مادة لإطماع الساسة والسلاطين وما حرب الفرنجة أو كما تسمى الحرب الصليبية إلا إحدى صورها البشعة.
ما هي الحقيقة ؟
يكمن الانحراف عن الحقيقة في الادعاء أن بني إسرائيل واليهود قد استوطنوا جنوب سوريا (فلسطين) بعد أن خرج بهم موسى (ع) من (مصر) و أقاموا مملكتهم على هذه الأرض وما يستتبع ذلك أن الأنبياء و الرسل قد بعثوا في هذه البقعة و آخرهم عيسى (ع) , استنادا لهذا التسلسل فتتبع آثار المسيح (ع) والديانة النصرانية يجب أن يكون في (فلسطين) وهنا يكمن تزوير التاريخ و الجغرافيا و الذي يستلزم إعادة للقراءة و البحث لاستجلاء الحقيقة التي زورت، الحقيقة التي أخذت تظهر مع تطور علم الآثار و ضعف سيطرة المؤسسات الدينية على كتابة التاريخ القديم للمنطقة العربية . فالدلائل أصبحت ظاهرة جلية للباحث المتجرد من الأهواء و المصالح وهي كما يقول الباحث زئيف هرتسوغ ” وقد أشار “هرتسوغ” أيضا إلى أن الغالبية العظمى من الباحثين العلميين في المسائل التوراتية وفي أركيولوجيا وتاريخ الشعب اليهودي، يعترفون الآن صراحة بان الأحداث التاريخية المرتبطة بمسار اليهود مختلفة جذريا وفي العمق عن تلك الواردة في النصوص”(10).
فأنبياء بني إسرائيل منذ يعقوب (ع) إلى السيد المسيح (ع) بعثوا وعاشوا و بلغوا رسالات ربهم هداية و رحمة للناس في منطقة أخرى هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء و الحضارة و اللغة إنها الجزيرة العربية, وهذا ما سنبحثه في بحث آخر .
———————————————–
(1) Wikipedia, the free encyclopedia- http://en.wikipedia.org
(2)http://www.khayma.com/salattar/x98.htm
(3) ابن الاثير، الكامل في التاريخ، ص 134 . http://www.alwaraq.com/index2.htm?i=32&page=1
(4) http://en.wikipedia.org/wiki/Donation_of_Constantine – Donation of Constantine
(5) تاريخ الحضارات العامّ ( روما وإمبراطوريتها) 2/ 565 . (مجموعة مؤلفين – اشراف موريس كروزيه)
(6) هرتزوغ، الآثارالتي اكتشفها اليهود تنفي قيام دولة “اسرائيل” التاريخية، جريدة الاتحاد الأربعاء 8/3/2000
(7) By John D. Keyser IS JEBEL MUSA THE CORRECT MT. SINAI?
http://hope-of-israel.org/jebelmus.htm
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق.
(10) هرتزوغ، الآثارالتي اكتشفها اليهود تنفي قيام دولة “اسرائيل” التاريخية، جريدة الاتحاد الأربعاء 8/3/2000