الحرية الذاتية
مشاركة جمعية التجديد في مؤتمر التنمية الإنسانية الثاني
مدخل:
كان محور تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 “الحرية في الوطن العربي”، فتناولها من عدّة زوايا، ووسّع دائرة الحريات بحيث لا تقف عند حدّ الحرية السياسية أو الحرية المدنية كحرية التعبير عن الرأي فقط وإنما امتدّت حتى شملت معاني التحّرر من القهر ومن جميع أشكال الحطّ من الكرامة الإنسانية مثل الجوع والمرض والجهل والفقر والخوف؛ وقام بتحليل الأسباب المؤدية إلى خنق الحريّات في المنطقة العربية فأشار إلى القيود الموضوعية التي تكبّل كلّ أنواع الحرية من خلال طرح مفهومين يعبّر أحدهما عن القيود الخارجية المفروضة على الحرية من قبل الأنظمة الحكومية وهو مفهوم “دولة الثقب الأسود” حيث شبّه الداء المصابة به معظم الحكومات العربية في إحكام قبضتها على الجهاز التنفيذي بظاهرة الثقب الأسود الفلكي الذي يحوّل المجال الاجتماعي المحيط به إلى ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء؛ ويعبّر المفهوم الثاني عن القيود الموضوعة على الحرية الفردية من قبل البنى المجتمعية ابتداءً من الأسرة، مروراً بالمدرسة ومجال العمل وانتهاء بمنظمات المجتمع المدني وعبّر عنه بـ(سلسلة خنق الحريات) حيث تتعاضد تلك القوى المجتمعية في تضييق الخناق على الحرية الذاتية للفرد فيتحوّل هذا الحصار إلى حصار داخلي للذات يصبح فيه الإنسان على نفسه رقيباً يحارب كل نزعة للقول والفعل الحرّ!
هذا بالنسبة للمعيقات الخارجية (الموضوعية) المتمثّلة في الأنظمة الحكومية والبنى المجتمعية التي تمنع الفرد من ممارسة حريّته المكفولة بالقانون والشرع، فماذا عن المعيقات الداخلية (الذاتية) التي تلعب دوراً كبيراً في عملية “خنق” حرية الفرد بطريقة قد تغيب عن الفرد نفسه لأنها تتداخل مع نفسيته فتؤثّر في طريقة تفكيره وتقف حائلاً دون ممارسته التفكير الحرّ وبالتالي تكون أكبر عائق أمام ممارسة حريّته الذاتية؛ تلك المعيقات الذاتية هي موضوع هذه الورقة.
المقدّمة:
الحرية مطلب إنساني شريف، وهي من وجه هبة إلهية وفطرة مودعة في الإنسان لا يحق لأحد أن يسلبها منه مهما كان متنفّذاً أو مستبدّاً، ومن وجه آخر مكفولة له من قبل المواثيق الدولية يحق له أن يطالب بها إذا ما انتُهكت أو حُرم من أي شكل من أشكالها.
والحرية حرّيتان: الأولى ذاتية، داخلية، زمامها بيد الإنسان نفسه يستطيع أن ينالها ويمارسها متى ما شاء، وإن كان وحيداً أو تكالبت عليه قوى الاستبداد كلّها؛ والثانية موضوعية، خارجية، تتحكّم فيها قوى سياسية أو اجتماعية، سلباً وعطاءً.
الأولى تُنال بقرار شخصي ولا حاجة لسفك قطرة دم في سبيلها، والثانية تُعطى بعد المطالبة بها وترخص في سبيلها الأموال والدماء والأرواح.
الأولى التزام قيَمي، فردي، أخلاقي، والثانية تُشرَّع وتُقنَّن من خلال الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدساتير وغيرها. الأولى في متناول الجميع، ولكنها منسيّة ومعطّلة عند أكثر الناس؛ والثانية عزيزة، صعبة المنال ولكن ما فتئت الشعوب تسعى لتحقيقها وتبذل الغالي والنفيس في سبيلها.
كلا نوعي الحرية ضروري وبينهما علاقة متبادلة، فالحرية الذاتية يصعب تحقيقها إذا ما كثرت القيود الخارجية وأحكمت حصارها على المرء، والحرية الموضوعية تبقى ناقصة، مبتورة إذا ما عاش صاحبها مكبّلاً بقيوده العقلية، ومسجوناً في أوهامه وأهوائه. والفرق في أن الحرية الموضوعية أُعطيت حقّها من الاهتمام من قبل المنظّمات الدولية، والأحزاب السياسية، والمؤسسات المجتمعية، والكتّاب والمفكّرين، وناضل من أجلها كل يوم ويناضل ملايين الناس فدخلت في وعيهم وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من ثقافتهم، بينما بقيت الحرية الذاتية مجرّد مفاهيم في متون الكتب، يتناولها الفلاسفة والمفكّرون بالبحث والمناقشة ولم تُطبّق في أرض الواقع إلاّ لدى النزر اليسير من الناس ممن استطاع أن يحرّر عقله ويعتق نفسه من قيوده الفكرية، وبقي أكثرهم في غفلة عنها. مفارقة غريبة تهتف بنا لنسأل: لماذا؟ لماذا حُرّرت الأوطان ولم تُحرّر العقول؟ لماذا كُسّرت الأصنام وبقيت الأوثان؟ ولماذا يشعر الإنسان بالسلاسل الخارجية التي تكبّل حريّته ولا يشعر بالأغلال التي يطوِّق بها عقله؟
معنى الحريّة الذاتية:
الحرية الذاتية هي أن يتمكّن الإنسان من ممارسة التفكير الحرّ في قراراته، واختياراته، بعيداً عن النفس والتواءاتها وعقدها، وعن الأهواء والرغبات، وعن سلطة الآباء والأجداد، وعن هيمنة المجتمع بأعرافه وتقاليده، وعن ضغط وسائل الإعلام وتضليلها، وخارجاً عن أطر الأنظمة الفلسفية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية الحاكمة، بعلم ووعي ودراية وإرادة لا بجهل وعصبية. فالحرية الذاتية كما تعبّر عنها التسمية هي الحرية التي تقع تحت تصرّف الإنسان ذاته ينالها متى قرّر ويمارسها متى شاء، كما أنّ ممارسة “التفكير الحرّ”، والخروج من سلطان النفس ومخالفة إلحاحها لتحقيق أهوائها ورغباتها، والقدرة على امتلاك حرية القرار والاختيار، كلّ ذلك يُعتبر من ثمار الحرية الذاتية. الحرية الذاتية، تساعد في الاختيار بشكل حرّ وطوعيّ للمنهج والطريقة في الحياة. إن “التفكير الحرّ” الذي أشرنا إليه هنا لا يعني حق “حرية التفكير” الذي يكفله القانون فإذا ما أُقيمت في وجهه العوائق تعذّر وتعطّل، بل يعنى القدرة على ممارسة التفكير المنطقي، العلمي، السليم من الأغاليط والأخطاء المنطقية والمتحرّر من الضغوط الخارجية والداخلية.
الحرية الذاتية التي تتناولها هذه الورقة أشبه بخطاب الله سبحانه لنبيّه في شأن نفسه، في قوله له: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، و (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ) ، وفي ندائه لموسى (ع): (يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ، ونجدها في حوار إبراهيم (ع) مع نفسه في رحلة البحث عن الحقيقة (هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) إلى أن برئ وتبرّأ فانتهى بـ(يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ، وفي إباء يوسف (ع): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ممّا يدعونني إليه) وتلك التي تجلّت في فعل السحرة الذين ألقَوا ساجدين بعدما عاينوا الحق في دعوة موسى (ع) في قولهم: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ، وكما أُجملت في وصيّة علي (ع) لابنه الحسن (ع): “لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً” وهي دعوة للتخلّص من كل الأغيار مادام خلقه الله حرّاً. الآيات الآنفة الذكر بيّنت بعض أنواع القيود التي تأسر الإنسان وتمنعه من ممارسة حريّته الذاتية، فالخوف، والهوى، ومتابعة الآباء، والتعلّق بالدنيا، وطاعة كل ما سوى الله، وكل ما نتّخذه صنماً فيحرفنا عن التفكير السديد ويقف دون ممارستنا حريتنا الذاتية.
معيقات الحرية الذاتية:
بما أن الحرية الذاتية هي الحرية التي يملك زمامها الإنسان نفسه فمعيقاتها – سواء الخارجية منها أو الداخلية – لا تشكّل إعاقة لحريّته طالما لم يرضخ لها ولم يستسلم للضغط الذي تمارسه عليه، فهو إذن من يقرّر ويختار أن يجعلها قيداً على حريّته أو يرفض ذلك. إن هذه المعيقات تتنوع بتنوع مصدرها، فمنها النفسي، ومنها العقائدي، ومنها الفكري، ومنها المجتمعي، وقد اختلفت تسمياتها بناء على منشأها أو آثارها أو نتائجها، فبعضها سُمّي “العقد النفسية”، وبعضها الآخر سُمّي “الأصنام” بحسب الصنمية التي يمثّلها مثل “أصنام الذات” و “أصنام القبيلة”، وأهل المنطق سمّوها “الأغاليط المنطقية”، والعرفاء أو الروحانيون أطلقوا عليها عنوان “عراقيل التفكير السديد” فناقشوها من بعدها الروحاني وأثرها على السعادة الدنيوية والأخروية واعتبروها “أخطاء في التفكير” أو “خطايا”، فخلصوا إلى أنّ الخطأ والخطيئة لفظان لشيء واحد يقع في مستويين، واعتبروا أن الإنسان الخاطئ هو إنسان ضلّ سبيل التفكير السليم، فإذا ما فكّر بطريقة سليمة فسيتخلّص من خطيئته، وكلّهم اتّفقوا على أن بعض هذه المعيقات أو كلها تتكاتف لتحول دون التفكير الحرّ والعلمي السديد. لذا فرغم أنّ ممارسة الحرية الذاتية قرار شخصي يتّخذه الإنسان وقتما يشاء بملء إرادته ولا يمكن لأحد أن يمنعه من ممارستها إلاّ أنها تواجه صعوبات معقّدة ومركّبه لها علاقة بنفسية الشخص واعتقاداته وتجاربه وانتمائه وغير ذلك ما جعلها أبعد منالاً من الحريّة الموضوعية (الخارجية)، نلخصها في ثلاث نقاط:
الأولى: إن معيقات التفكير الحرّ كثيرة، ومتداخلة، بعضها ظاهر صريح وكثير منها خفي مستتر، فإذا ما جنح بالتفكير إلى حيث الخطيئة أو الخطأ فمن الصعب على المرء أن يشخّص أين حدث الخطأ ليقع على مكمن الداء، فأخطاء التفكير أو معيقات التفكير الحرّ ليست نابعة من مصدر واحد بل يشترك فيها أكثر من نوع من هذه الأوهام أو الأصنام.
الثانية: إن معظم هذه المعيقات تتداخل مع نفسية المفكّر ومعتقداته، وبالتالي تتدخل مشاعره وعواطفه في استقامة تفكيره ما يجعل مهمته في تحرير عقله من تلك القيود ليست باليسيرة، فتصبح مناقشة أو تخطئة الآراء التي يعتنقها، أو الأفكار التي يتبنّاها بمثابة الإساءة إلى شخصه أو الحطّ من شأنه، فتبرز الأنا هنا لتكون أكبر عائق لحرية التفكير، فتصبح التقاليد والأعراف قدس الأقداس ويكون الدفاع عنها بمثابة الدفاع عن كيانه أو هويّته. فأن يقف الإنسان مناهضاً، ومشكّكاً، وفي أيسر الأحوال محاوراً لذاته، ولأفكاره، ولمعتقداته، ولنواياه، ولأقواله، ولأفعاله لأجل غربلتها وتمييز الطيّب من الخبيث منها ليس بالأمر الهيّن، بل بحاجة إلى الخوض في أغوار ذاته بالتركيز والتأمّل ليكتشف ما خفي عنه منها.
الثالثة: إنّ من خصائص التفكير الحرّ أنه يجمع بين التفكير المنطقي والسمو الأخلاقي وعليه فإنه يتطلب معرفة بالنفس ورياضتها، وخبرة بالطريقة العلمية في التفكير ووعي ويقظة دائمين، بحيث يتمكن الفرد من التمييز بين الخير والشر أو الحق والباطل فيرى الواقع كما هو بعيداً عن إسقاطاته الشخصية النابعة من الضغوط الداخلية (كالأهواء والرغبات والمخاوف والمعتقدات) والقيود الخارجية (كقيود المجتمع المتمثّلة في العادات والتقاليد والقوالب العقلية وغيرها)؛ تلك التي اصُطلح عليها لدى بعض الفلاسفة والمفكرين باسم الأصنام الفكرية.
الأصنام الفكرية:
تُعرف الأصنام الفكرية بأنها مجموعة من الميول الذهنية والرغبات الشخصية التي تعترض سبيل التفكير فينجم عنها خطأ في الاستدلال وبالتالي تؤدّي إلى خطأ في النتيجة. ولعلّ أول من أطلق اسم (الأصنام) أو (الأوهام) على أنواع الأخطاء التي يتعرض لها الإنسان في فكره وسلوكه أو الأخطاء الشائعة في العلوم هو المفكر الفرنسي فرانسيس بيكون (1561-1626) في كتابة الأورغانون الجديد (novam organum) وقدّ صنّفها إلى أربعة أنواع من الأصنام: أصنام القبيلة (Idols of the tribe)، وأصنام الكهف(Idols of the cave) ، وأصنام السوق(Idols of the market) ، وأصنام المسرح (Idols of the theater). في هذه الورقة سنقوم بتصنيف المعيقات أو الموانع التي تمنع الإنسان من ممارسة “التفكير الحرّ” إلى صنفين: معيقات ذاتية (الأصنام الذاتية)، ومعيقات موضوعية (الأصنام الموضوعية) وتندرج تحت كل صنف من هذه الأصناف مجموعة أخرى من المعيقات نفصّلها كالتالي:
أولاً: الأصنام الذاتية:
أول هذه الأصنام وأقواها هو “صنم الذات”، لأن المصدر الأصلي له هو النفس، وهذا ما يجعله قوي الأثر صعب الرصد وذلك لتداخله الشديد مع نفسية المتفكّر، ولشدّة خفائه وهيمنته على عقليّته، ولقد عُبّر عنه بأسماء مختلفة مثل: التمحور حول الذات، أو الشخصية، أو الذاتية. صنم الذات هذا متعدّد الألوان والأشكال يتداخل مع الأصنام الأخرى إلى جانب تداخله مع مكوّنات النفس المعقّدة التركيب بما تحويه من تراكمات الماضي، وما تختزنه في لاوعيها من تجارب، ما يجعل منه أكبر معيق لتحرير العقل وبالتالي للحرية الذاتية. يتدخل “صنم الذات” في تفكير المرء أحياناً لتفسير الواقع والوقائع بناء على نظرته الخاصة للأمور فلا ينظر إليها إلاّ من كهفه الخاص وهذا ما عُرف بـ”صنم الكهف”، وأحياناً يقبل ويصدّق كلّ غريب ومدهش مما يتّفق ويتناسب مع أهوائه ومنطلقاته الفكرية وهذا ما سُمي بـ”صنم الروعة”، وأحياناً أخرى ينسج الحقيقة الموضوعية بخيوط من اعتقاداته الخاصة ووجهة نظره الضيقة فيُسمي بـ”صنم العنكبوت”، فهذه هي أبرز أنواع الأصنام الذاتية.
صنم الذات بأنواعه المختلفة لا يكاد يخلو منه أحد ولكن يقع الاختلاف في درجة التمكّن والاستحواذ على سبل التفكير، وقد يُصاب به الأفراد كما تصاب به الجماعات، أما بالنسبة للأفراد فكلّ نظرة استعلائية، وصائية، منغلقة على الذات ولافظة للآخر رافضة له تعبّر عن مظهر من مظاهر هذا الصنم؛ وأمثال هؤلاء بعض رجال العلم أو رجال الدين الذين يتعصّبون لآرائهم وفتاواهم متأثرين برغباتهم وتصوراتهم الذاتية على حساب الحقيقة الموضوعية، فيظنون أنهم امتلكوا الحقيقة فيرفضون كلّ رأي مناهض لآرائهم ويستخفّون به. وبالنسبة للجماعات فصنم الذات يعبّر عن نفسه في (الأنا القومية) التي تجد في عرقها تميّزاً وأفضلية على الأعراق الأخرى كالعرق الآري، أو دعوى السامية و(الشعب المختار) (والعرق النقيّ) وغيرها؛ كما ويعبّر عن نفسه في (الأنا الطائفية) أو ما يُعرف بـ(الفرقة الناجية) (والطائفة المنصورة) الخ. إن الواقعين تحت تأثير الأصنام الذاتية بأصنافها الثلاثة (الكهف، الروعة، العنكبوت) يمثّلون الغالبية العظمى من الناس حين تتسلّل رغباتهم وعقائدهم وأهدافهم خلسة إلى تفكيرهم فتوجه النتائج إلى حيث يشتهون لأنهم بدأوا وهم محكومون بافتراضاتهم التي كانوا يهدفون أساساً لتثيبيتها والتصديق عليها لا لإثباتها أو التحقّق من صحّتها أو عدم صحّتها. إنّ خطورة هذا الصنم تكمن في أن صنماً من أصنام الذات كصنم الهوى وحده إذا ما استحوذ على وعي الإنسان يؤدّي إلى فقدان أشرف أدوات الفهم والعلم والبصيرة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) فكيف إذا ما تداخل أكثر من صنم في تفكير الفرد أو الجماعة.
1- صنم الروعة:
أحد أصنام الذات التي تدخّلت كثيراً في تشكيل عقائد الأمة وأثّرت على وعيها هو “صنم الروعة”؛ ويعني: تصديق المرء كل ما هو غريب أو خارق للعادة بما يتناسب مع اعتقاداته وأهوائه ورغباته؛ وأمثلة ذلك كثيرة في الحوادث والقصص الخرافية المدسوسة في ثقافة الشعوب قديماً وحديثاً يتناقلونها أباً عن جدّ حتى أصبحت جزءاً من تراثها المقدّس الذي لا يقبل النقد أو المساءلة. هذه الخرافات لم تكن لتُصدَّق من قبل الغالبية العظمى من أفراد المجتمع الواحد – جهّاله وعلمائه – إلاّ لأنها تتّفق مع بعض معتقداتهم المغروسة في لاشعورهم الفردي والجمعي، وربما لأنها تغذّي حاجة نفسية لديهم كأن تشعرهم بأنهم اختُصّوا بهذه الكرامة دون غيرهم وخاصة إذا ما كانت ذات علاقة بشخصية أو حدث مقدّس بالنسبة لهم، وقد يكون تصديق قصص كقصة “الشجرة الدامية” التي مفادها أن شجرة ما تنزف دماً في يوم العاشر من محرّم من كلّ عام حزناً على الإمام الحسين (ع) استجابة لصنم الروعة لمن لا تكفيه مناقب الإمام الحسين (ع) الأصيلة والحقيقية فيبحث عن الغريب العجيب من المبالغات التي تضرّ ولا تفيد. ونجد هذا قريباً لدى بعض المسيحيين باعتقادهم في كذا حادثة غريبة أنّ تمثالاً للعذراء مريم (ع) أو آخر للسيّد المسيح ينزف دماً أو يشخب بالدموع الجارية!
إن من أفضل طرق الوقاية والتحصين ضدّ الوقوع في براثن “صنم الروعة” هو تقوية المقاييس المنطقية وذلك من خلال ممارسة التفكير المنطقي في مختلف مجالات الحياة فتتكون لدى المرء حصانة منطقية تؤهّله لغربلة ما يصل إلى مسامعه قبل إمضائه وتصديقه فلا ينبهر بكل جديد ولا يرفض كلّ غريب، بل قد يتقبّل الغريب المحتمل على أنه قابل للتصديق إذا ما أُسند بالوقائع والأمثلة الحقيقية. وكما أنّ هناك خطورة في تصديق كلّ جديد قبل التمحيص والغربلة فإن في رفض كل غريب ومستحدث قبل البحث والاستقصاء حرمان وخسارة من معارف وعلوم جديدة.
2- صنم الكهف:
أما صنم الكهف (Idols of the cave) فيعني “ضيق الأفق” فلا ينظر المبتلى “بصنم الكهف” إلى الأمور إلاّ من وجهة نظره الخاصة، فيرى أن ما توصل إليه من علم هو الحق المبين الذي لا يمكن أن يجد فيه نقصاً أو عيباً ولا يمكن أن يُخطئ، فهو ينظر من كهفه الخاص الذي كونه لنفسه وجعله منظاره الذي يحكم به، أو “جحره الخاص” كما عبّر عن ذلك بيكون في تعريفه لأصنام الكهف مرجّعاً أسباب ذلك لعدّة أمور فيقول: “.. ويعود ذلك إما لطبيعة الفرد الخاصة، أو لمخالطته الآخرين، أو لتأثّره بأفكار وسلطة أولئك الذين ينظر إليهم بإجلال وإعجاب، أو لتباين الانطباعات وفقاً لوجودها في عقل مستحوَذ وذي ميول مسبقة…” . كل واحد من هذه الأسباب قد يُشكّل بحدّ ذاته صنماً ولكن يبقى مصدرها جميعاً واحد وهي (النفس)؛ فعلى سبيل المثال نجد أن مجتمعاتنا الذكورية تميل كلّ الميل للاعتقاد بأن المرأة أقل شأناً من الرجل، أو أنها ناقصة عقل ودين فيتجاهلون كلّ الحقائق والوقائع التي تفنّد هذا الاعتقاد ويتمسّكون بحديث أو حادثة تسند اعتقادهم هذا ويتصرّفون بناء على ذلك. فطبائع الإنسان وعاداته تقيّد بعضاً من تفكيره، وعلمه يقيّد بعضاً آخر منه، والآخرون ممّن يُجلّ ويُقدّس، والسبقيات والأهواء، وهكذا فإذا ما اجتمعت كلّها أو بعضها للبتّ في قضية ما أو تكوين رأي بشأن حدث أو فكرة ما فأي تفكير حرّ بعد ذلك يُطلب. ولمن أراد أن يتخلص من أفكاره وتصوراته الخاطئة والضيقة للأمور عليه أن ينظر إليها بعين مجردة، حتى تتبين له الحقيقة بلا قناع، وهذه تتطلّب الكثير من الموضوعية في التفكير، والتجرّد للحق، والتعرّف على أسس وقواعد التفكير النقدي.
3- صنم العنكبوت:
وآخر هذه الأصنام الذاتية “صنم العنكبوت” وهذا أهون من سابقَيه (صنم الروعة والكهف) وأقل سيطرة على النفس لأنه صنم ذهني لا نفسي، حيث يميل المرء إلى نسج الحقيقة بخيوط صادرة من اعتقاده الخاص، لذا فإن المتأثّر بهذا الصنم يتّسم بالتعصّب لرأيه والاعتقاد بأن ما يتوصل إليه من نتائج صحيحة لا تحتمل الخطأ، وقد يصل التأثّر بهذا الصنم لدى البعض إلى حدّ المرض فيرى الواقع حسب أوهامه وتصوراته، أمّا الإصابة الخفيفة به فمألوفة بين الأصحاء وبالأخص أهل العلم الذين يتفنّنون ويبرعون في إثبات رأيهم ومخالفة من يعارضهم في آرائهم متأثّرين بمعتقداتهم الشخصية ومعوّلين عليها لا على الحقيقة أو الواقع. قد يكون أفضل مثال لسيطرة صنم العنكبوت على الفكر فهم بعض المفسّرين لآيات القرآن الكريم متأثّرين باعتقاداتهم، وبمشاركة (صنم الأنا الجمعيّة) اختلف أهل المذاهب الإسلامية في فهم وتفسير آيات معينة مثل بعض آيات الأحكام وبقي هذا الاختلاف إلى يومنا هذا لا يجرؤ أحد من الطرفين أن يحيد عمّا قاله (آباؤه) فطريقة الوضوء لدى الفريقين، والجمع بين الصلاتين أو تفريقها لازالت موضع خلاف رغم أن الطرفين استند إلى الآيات القرآنية للتدليل على النتيجة التي توصّل إليها.
مساوئ التأثّر بالأصنام الذاتية:
إن أصنام الذات تُعتبر أكبر معيق للتفكير الحرّ وبالتالي لنيل الحرية الذاتية فحتى لو حصلت الأمة على حرّيتها السياسية فلا يمكننا القول أنّ أفرادها يمارسون حريّتهم الذاتية مالم ينتزعوا حريّة تفكيرهم من براثن الأصنام الذاتية (الروعة والكهف والعنكبوت)، وإذا ما استحكمت تلك الأصنام على عقول غالبية الناس فستخلق مجتمعاً متعصّباً ومتحزّبا، كلّ حزب فرح بما لديه ومنغلق على نفسه وهذا سيؤثّر على العلاقات الإنسانية بين أفراده، ويؤدّي إلى ضعف التواصل بينهم وبين مؤسسات المجتمع، ويدفع بالاختلافات إلى حلبات التنازع والخصام، وستسود سياسة الإقصاء والتكفير بدلاً من مبادئ التسامح وقبول الآخر والانفتاح والحوار، وتُمنح الأولوية في مراكز صنع القرار بناء على الميول والرغبات الشخصية لا على الكفاءة والأفضلية، ويؤدّي إلى شيوع معايير في التقييم والتزكية على أسس من العلاقات الشخصية والانتماءات الحزبية لا على المعايير والقواعد الإنسانية السليمة والمنطقية، وتتكرس الطائفية ويشتعل أوارها، ويوأد الحق، ولن تقوم له قائمة طالما بقيت الأهواء والرغبات والنظرة الذاتية الضيقة هي المهيمنة على تفكير الأفراد والجماعات، قادة وتابعين؛ بينما إذا ما نُبذ صنم الذات – عدوّ الإنسان والإنسانية – من قبل أفراد المجتمع الإنساني فهذا يعني انتعاش التفاعل الإيجابي فيما توصّل إليه الآخر من منجزات في مختلف العلوم الإنسانية وغيرها بعد دراستها وغربلتها بعقل حرّ بهدف الاستفادة من التراكم المعرفي وإثرائه، كما فعل أسلافنا ولم ينكفئوا على أنفسهم، فأسّسوا الحضارة الإنسانية وتركوا بصماتهم على كل الحضارات التي جاءت بعدهم لخصلة تميّزوا بها وهي العطاء اللامتناهي والانفتاح على الآخر بلا قيد أو شرط، وضربوا لنا مثلاً أعلى لو تمثّلناه لأصبحنا اليوم روّاد وقادة الحرية الحقيقية التي عزّت ونضبت.
ثانياً: الأصنام الموضوعية:
“الأصنام الموضوعية” هي كل معيق خارجي يؤثّر على حريّة تفكير الشخص فيخرجه عن جادة الصواب ويمنعه من رؤية الأشياء على حقيقتها، وهناك أنواع مختلفة من الأصنام الموضوعية كصنم القبيلة (Idols of the tribe) ويُعرف كذلك بصنم الجموع، وصنم المسرح(Idols of the theater) ، وصنم الطائفة وغيرها. ورغم أن الأصنام الموضوعية -كما يدلّ عليها اسمها- تبدو أن لا علاقة لها بالحرية الذاتية التي تنبع من داخل الذات الإنسانية إلاّ أن هذه الأصنام الخارجية تشكّل معيقاً لممارسة التفكير الحرّ فإذا ما استجاب لها الشخص صُنّفت ضمن الأصنام الموضوعية (الخارجية) التي تعيق حريته الذاتية أما إذا حرّر فكره من تأثيرها فلا تُعتبر أصناماً بالنسبة له. ويخرج من دائرة هذه الأصنام القيود الخارجية التي تعيق الحرية الموضوعية – التي تُعطى وتُشرّع من الخارج – مثل القيود التربوية، والسياسية، والدينية لأن موضوع هذه الورقة يركّز على المعيقات الموضوعية (الخارجية) للحرية الذاتية.
وبما أن الإنسان كائن اجتماعي، يؤثّر ويتأثّر بمن حوله وما حوله من أفكار وعقائد، فإنّ التأثّر بالأفكار السائدة يعبّر عن حالة طبيعية فهو لا يعيش معزولاً عما يدور حوله وإنما يعكس تفكير زمانه، ومع أن هذا التأثير والتأثّر كانت له بعض الآثار الإيجابية في تطوّر المسيرة الإنسانية فساهم أحياناً في التشارك المعرفي، وفي تعميم قيم سامية كقيمة العلم وأهمية التعلّم إلاّ أنه تسبّب في إحيان كثيرة في إعاقة التفكير الحرّ فكان مانعاً من انتشار الكثير من الحقائق الجديدة، وخاصة إذا ما تبنّى رفض هذه الحقائق الأكثرية من الناس فيصبح (صنم الجموع) كأداة لمصادرة الحق لحساب الكثرة، أو سبباً في التمسك بالكثير من العقائد البالية أو النظريات الخاطئة والتعامل معها كمسلّمات فكرية أو تاريخية أو عقائدية أو دينية غير قابلة للنقاش. وكما أن الأصنام الذاتية تتداخل مع نفسية الفرد فتؤثّر على تفكيره وهو لا يشعر؛ فكذلك الأصنام الموضوعية تصدر أوامرها من لاوعيه المبرمج سلفاً فتحرف تفكيره وهو لا يشعر فإذا تيقّظ ووعى ورفض تأثيرها على تفكيره وقرارته تحرّر منها، وإلاّ فهي تُعتبر أحد معيقات حريّته الذاتية رغم كونها خارجية كما ذكرنا آنفاً.
1. صنم الجموع:
من أقوى هذه الأصنام وأكثرها أثراً على حرية الفكر هو “صنم الجموع” أي صنم الأكثرية، أو كما يسميه البعض صنم القبيلة أو صنم الجماهير، ويستمد قوّته من الرأي العام، وسلطة الماضي ، والسلطة الدينية، وتمثّل كل سلطة من هذه السلطات بحدّ ذاتها عقبة في طريق التفكير الحرّ إذا ما أدخلها الشخص رقماً في معادلاته. أن يقع الإنسان تحت تأثير “صنم الجموع” يعني أن يتأثّر بالأكثرية ويتابعهم بغضّ النظر عن صحة اعتقادهم أو خطأه فيصبح معيار الحق والباطل هو كثرة مؤيّديه أو قلّتهم فإذا ما كثر مؤيّدو قضية ما فإنها تحصل على جواز العبور والاستقرار والاستمرار في المجتمع حتى لو لم تكن حقّاً والعكس صحيح، وخير مثال على ذلك مناهضة أكثر الناس لدعوات الأنبياء والمصلحين، لذا فقد حذّر القرآن الكريم من اعتماد الأكثرية كمعيار للصواب أو الحق فبيّن في الكثير من الآيات أن “أكثر الناس” لا يعلمون الحق، أو “أكثرهم” كارهون له كما في قوله تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) و (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) .
ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أنه إذا كان الإنسان في تفكيره الذاتي عرضة للجنوح بسبب تحكّم معيقاته الداخلية في سلامة تفكيره، فهو في تأثّره بالأصنام الخارجية عرضة لأن يكون إمّعة، وهنا تبرز خطورة هذا الصنم في تحريف الوعي لدى العامة أو تغييبه حتى تتلخّص العقول في عقل واحد أوحد ويكثر عدد التابعين المنصاعين؛ ورغم ذلك لم يخلُ التاريخ من مصلحين ومفكّرين أحرار وعلى رأسهم الأنبياء (ع) الذين استطاعوا أن يتجاوزوا عقبة “الكثرة” في ذواتهم ويحرّكوا مياه التفكير الراكدة في مجتمعاتهم ليأتوا بالحق الجديد ويصمدوا في الدفاع عنه مع ثلّة قليلة من المؤمنين بهم.
كما وتعتبر المعتقدات الاجتماعية أحد أنواع صنم الجموع، وبسبب سعة انتشارها وشيوعها وتغلغلها في ثقافة الناس فإن مجرد محاولة مساءلتها يواجَه برفض عنيف من قبل كل من يحاول أن يشكّك في صحتها أو جدواها، أما من يحاول أن يتحرّر من سلطتها بالخروج عليها أو عدم ممارستها فكأنه الخارج من الدين أو الخارج عليه. هذه المعتقدات الاجتماعية قد تكون معتقدات فكرية ترتكز على النظريات والمبادئ، فتصبح لها قداسة كقداسة العقائد الدينية وقد تكون مستقاة من أصل عقائدي مشوّه كمفهوم القضاء والقدر الذي خلّف أجيالاً خاملة، متواكلة، فأصبح من المسلمات الدينية ومناقشته أو تصحيحه يحتاج إلى شجاعة وجرأة قد لا تتوفر إلاّ لدى القلائل من الناس.
إنّ خطورة بعض هذه المعتقدات الاجتماعية هو أنّها صيغت بصورة أمثال شعبية فعادت محفوظة في القلب وفي الوجدان وعلى اللسان وسرت كالنار في الهشيم، فتمّ التعامل معها كمسلّمات فكرية صارمة تمثّل قواعد عامة لمن يعتنقها فتوجّه التفكير وتحرفه وبالتالي تعيق الحريّة الذاتية؛ من أمثال هذه القواعد المعيقة التي تماهت والنصوص المقدّسة: “قلّدها عالم واطلع سالم”، “لعن الله الشاكّ”، “ما لنا والدخول بين السلاطين”، و”لو تركض ركض الوحوش غير رزقك ما تحوش”، و”حشر مع الناس عيد”، و”ويش لك بالبحر وأهواله ورزق الله على السيف”، و”الباب اللي يجي لك منه الريح سدّه وأستريح” و”مدّ رجلك على قدّ لحافك” و “بيت مظلوم ولا تبيت ظالم” .. فتورث اللامبالاة، والاتكالية، والاستئناس بالكثرة، والخوف من المجهول، والكسل، والتواني، وخور الهمّة والتسليم بالدون، والابتعاد عن كل مخاطرة وغيرها؛ والحرّ في الحقيقة هو من يحرّر نفسه من هذه الأفهام المغلوطة ويعي لوجود أمثال هذه الأطر التي تشكّل جزءاً من ثقافته فيمنع تأثيرها على حرية تفكيره، ويحلّ محلّها الثقافة البديلة من قبيل: “علو الهمّة من الإيمان”، أو “هم رجال ونحن رجال”، “اعرف الحق تعرف أهله”، “الحكمة ضالة المؤمن”، “لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً”، “تلك أُمّة قد خلت” ” لا تستوحش في طريق الحقّ لقلّة سالكيه” “كلّ امرئ بما كسب رهين” ليتحرّر من هوانه ومن سلطة آراء من سبقه من الرجال، أو “العالم يُبدّل رأيه والجاهل عنود” ليُحاور ذاته وقناعاته ويخرج من إسار أفكاره.
وتُصنّف المعتقدات الشعبية ضمن أصنام الجمهور التي تزدهر نتيجة حالة نفسيه خاصة بها أو بالمجتمع الذي انتشرت فيه، ولو محّصنا الممارسات الاجتماعية الرائجة والمتجذّرة في مجتمعاتنا لوجدنا معظمها يُصنّف ضمن هذه المعتقدات، معتقدات ذات علاقة بالزواج (الذي هو “قسمة ونصيب”!) والطلاق، والموت والولادة، والمرض وكل مجال من مجالات الحياة لو فتّشنا في أصولها ودواعي انتشارها لرأينا عجباً.
كما وتساهم الإعلانات، وفنون الترويج المتنوعة والمستخدمة من قبل المؤسسات التجارية أو الدينية أو المنظمات الاجتماعية، في إقناع الناس بفكرة، أو نظرية، أو منتج، أو سلعة أو حتى خدمة من الخدمات المستحدثة لأجل مستقبل أفضل أو حياة أهنأ – بغض النظر عن نواياها وأهدافها – على هدم الرأي الفردي الناقد فتتدخل لتقنعه بمسايرة الأكثرية، ولتثبت له أن رأيه الذاتي (الحرّ) غير سليم، فيُكافَأ الماشي في ركب الأكثرية بتقبّل المجتمع له ويعاقب المتخلّف بالنبذ والعزل أو الازدراء، ولعلّ هذا ما يدعو الغالبية العظمى من شباب الأمة بل وحتى بعض الراشدين منها أن يسايروا آخر صيحات الموضة وإن كانت لا تتّفق مع ثقافتهم أو قناعاتهم لأنّهم مسيّرون ومحكومون برأي الأكثرية وتقبّلهم لهم.
ولقد طال الترويج والدعاية الأفكار والمذاهب بهدف التأثير في طرق التفكير وأنماطه فكان لابدّ للإنسان من ثقافة يتحصّن بها ليصمد أمام إغراء التقليد والانجرار وراء ما يُملى عليه فكرياً أو سلوكياً أو خلقياً، فإذا واجهها بوعي (دَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، وثقافة (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، واستجاب لدعوة الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وغيرها نجا منها وسلم، وإلاّ فهو ليس بمنأى عن أي نوع من أنواع الاختراق الفكري والاعوجاج السلوكي.
إن عملية تزييف الوعي الجماعي تتخذ أشكالاً عدّة وتعتبر الدعاية من أكثرها انتشاراً وأقواها أثراً لأنها تضرب على أوتار الضعف والجهل فتُضخّم المزايا وتُخفي العيوب، ولأنها تُبثّ بوسائل إعلام متطورة بحيث يستقبلها الملايين من الناس فيتأثرون بها ويستجيبون لها بعد ما لعبت بأفكارهم فالتوى النقد عند معظمهم واستعصى عليهم صحة التقدير وسلامة التفكير وأصبح للبضاعة أو للفكرة المروَّج لها قيمة غير حقيقية فأقبلوا عليها لا بحرية اختيار بل بضغط الإقناع المخادع، ويخرج من هذه الدائرة من سعى لتحقيق حريته الذاتية فلم يقدم على قبول أي من العروض إلاّ بوعي وإرادة ذاتية فيجلس أمام التلفزيون دون أن ينبهر بالإعلانات المنهالة عليه، ويقرأ الصحافة وهو قادر على أن يكوّن رأيه الخاص. هذه الأساليب الدعائية غير المشروعة – أخلاقياً – تمثّل أفضل أدوات صنم الجموع لأنها تستغل جهل الناس بتفاصيل ما يُعرض عليهم من بضائع وسلع (مادية أو معنوية) ويسارعون إلى الجزم والتصديق، فتعرض عليهم ما يتّفق وميولهم ورغباتهم وتحرّك أصنام الذات لتساندها في مهمتها ولا تتركهم إلاّ وقد أسرتهم وضمنت استجابتهم إلاّ من اشترى حريّته بوعيه فغنم.
كما أنّ التلاعب بالوعي الفردي من خلال حرف الوعي الجماعي يُعتبر من أكبر معيقات الحرية الذاتية لأن الساعي للتحرر من قبضته إذا ما استطاع أن يفلت من مسايرة ومتابعة الجموع بثقافته ووعيه قد لا يصمد أمام الاحباطات النفسية وسلطة الأصنام الذاتية التي استُنفرت بفعل التأييد الجماعي لهذه الفكرة أو تلك. وليس من المبالغة لو اعتبرنا أن أساليب الدعاية المتّبعة اليوم على جميع الأصعدة سواء للترويج لمدارس فكرية معيّنة أو نظريات أو أشخاص إنما تمارس إرهاباً فكرياً على الناس وتحرمهم من ممارسة حرية الفكر وبالتالي حرية الاختيار فتتدخل لتوجيههم إلى حيث تشاء، وهنا يتبيّن أهمية السعي نحو الارتقاء الذاتي بمستوى الوعي الفردي لضمان أكبر مساحة من الحريّة الذاتية.
إن المجتمع الذي يعيش أفراده تحت ضغط استبداد الأكثرية يعاني من أن القضايا غير المؤَيَّدة شعبياً تكافح لأجل البقاء وإن كان فيها علاجاً لمشاكلها وخلاصاً من أزماتها (ولعلّ ما يجري في مملكة البحرين بشأن تقنين الأحوال الشخصية مثال حيّ على سلطة الجموع في إعاقة التفكير الحرّ لدى عموم الناس)، ولكن بفعل سيطرة صنم الجموع تُعارَض وتواجَه مواجهة عنيفة ثم تُقبر قبل أن ترى النور بسبب عدم تقبل الجموع لها ولو تحرّر أفراده لقُوبل التغيير بمقاومة أقلّ وانفتاح أكثر.
ومن الظواهر الغريبة ذات العلاقة بصنم الجموع أن قبول فكرة ما أو رفضها من قبل الأكثرية ليس له قواعد محدّدة تحكمه، فحيث نجد أن الأكثرية تقف مناهضة للتجديد الفكري مثلاً، وربما تهبّ مجتمعة لتمنع تصحيح مفهوم عقائدي مغلوط، إلاّ أنها – من جهة أخرى – تنشط لمتابعة كل جديد مستغرب، وتسارع لتقبّل كل نزعة استهلاكية جديدة، أي أنها ترفض التجديد الفكري والعقائدي (الموهوم قداسته)، وتستقبل التجديد الشكلي وتتابع آخر صيحات الموضة، فمعظمهم (الجموع) تقليديون فكرياً، ولكنهم متغيّرون مُختَرقون سلوكياً! وهي بذلك تُعبّر عن أزمة الحرية الذاتية لأن الأفراد رهنوا أنفسهم لاختيار الجموع، ولعلّ لهذا السبب جاءت دعوة القرآن الكريم للتفكر في رسالة النبي الخاتم (ص) بـ(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) فجعل أقصى عدد يقوم للبحث عن الحقيقة هو مثنى وإلاّ ففرادى، ليُقيم بذلك حواراً استكشافياً مع الآخر وحواراً ثانيا بحثياً مع الذات. إنّ العقول التي تعبد القديم وتقدسه كثيرة، وكذلك تلك التي تبحث عن كل جديد وتطلبه، إلاّ أنه يندر أن تجد عقولاً تفكّر لتميّز وتختار بحرية فلا تطعن في القديم الجيّد ولا تزدري الجديد المفيد ولكنها تنتقي بعلم ودراية.
2. صنم القالب:
ونوع آخر من الأصنام الموضوعية ما يُعرف بـ”صنم القالب”، وهو يشبه “صنم الكهف” الذي هو أحد أصنام الذات؛ ويؤدّي إلى ضيق الأفق لأن صاحبه يفكر من خلال أطر معرفية محدّدة مسبقاً (خارجياً)، ومحكوماً باتجاهاته ومزاجه وعاداته (داخلياً)، فيتداخل صنما الكهف (الذاتي/الداخلي) والقالب (الموضوعي/الخارجي) ليشكّلا للمرء قالباً عقلياً أو مزاجاً نفسياً خاصاً به لا يرى الأمور ولا يفسّر الظواهر إلاّ من خلاله، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن بعض الأيدلوجيّين لا ينظرون إلى المكتشفات العلمية الجديدة أو بعض الوقائع التاريخية إلاّ من خلال معتقداتهم الخاصة وتفسيرهم للوجود والأحداث، الديني واللاديني يفعلان ذلك، والعلماني وغيرهم، ما يجعل نفس المعلومة تتلوّن بتلوّن عقلية وقالب متلقّيها فتكون كشفاً علمياً لدى البعض بينما تُعتبر إلحاداً لدى البعض الآخر، مع أنها لو فُسّرت تفسيراً علمياً بعيداً عن القوالب الفكرية لما اختلف فيها اثنان. أحد الأمثلة على تحكّم القوالب الفكرية في حريّة التفكير قضية إثبات مركزية الشمس التي دفع جاليليو العالم والفيلسوف الإيطالي (1564م- 1642م) حريّته وحياته ثمناً لإثباتها وقد احتاجت إلى أكثر من 350 عاماً لكي يتغيّر الاعتقاد بمركزية الأرض من قبل رجال الكنيسة الذين أساءوا فهم النصوص الدينية واعتقدوا أنها تؤكّد على مركزية الأرض وبالتالي وصموه بالإلحاد والخروج عن الدين وفرضوا عليه الإقامة الجبرية لئلا يفسد عقول الناس، ولم يردّ له اعتبار من الكنيسة إلاّ في عام 1992 بعد أن قضت (الكنيسة) عشر سنوات في دراسة نظريته وانتهت إلى الاعتراف بفكرته!!
إن تنوع القوالب الفكرية لدى أفراد المجتمع أمرٌ طبيعي ولا ضير في ذلك إذا ما كان أصحابها يتميّزون بسعة الأفق والانفتاح على الآخر، ولكن إذا ما ابتلوا بمزاج منحرف، وانحصار ذهني مفرط حينها يصبحون نسخة مكرّرة لمن قال: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ، تتّصف عقول هؤلاء الأفراد بالتعصب لآرائهم، والعناد في التمسك بأفكارهم حتى يصبح الرأي عندهم نوعاً من العقدة، كما أن المتعصب يصاب بالعمى عن كل حقيقة عدا تلك التي آمن بها فيفكر بصورة ملتوية ولا يمكن أن يرى الأمور على حقيقتها. إنّ صنم القالب له وجه ثقافي (خارجي) وآخر مزاجي (داخلي)، فالأول هو القالب الذي يصب المجتمع فيه فكر المفكر بمعنى أن المجتمع هو الذي يشكّل طريقة تفكيره فتنتشر العقلية الدينية في العصور الدينية والعقلية التجارية في العصور التجارية، (ولك أن تستقرئ أنّ أكثر الكلمات استخداماً لدى مفكرّي العالم اليوم وكتّابه هي “إرهاب” و”ديمقراطية” وهما مفردتان لم يكن لهما وجود تقريباً قبل قرنين من الزمن!) ولكن يبقى الحاكم في صنم القالب هو المزاج الشخصي أي القالب الداخلي للفرد أو نمط تفكيره المتلّون بمعتقداته وأهوائه ونفسيته فتتحدّد حريته الذاتية بمستوى التفاعل بين القالب الداخلي والخارجي ومقدار تحرّره منهما.
3. صنم المسرح:
وآخر هذه الأصنام هو صنم المذهبية أو كما أطلق عليه بيكون اسم صنم المسرح (idols of the theater) وهي بحسب تعريفه: “أصنام هاجرت إلى عقول الناس من العقائد المختلفة في الفلسفة، ومن قوانين البراهين الخاطئة”، أي صنم التصديق الأعمى وتقديس العلم والنظريات الفلسفية أو المذاهب الفكرية دون التحقق من صحّتها. لقد ظهر هذا الصنم في مراحل التفكير المتقدمة حيث بدء تأسيس المدارس الفكرية والعلمية المختلفة لتفسير المشاكل الإنسانية فظهرت المذاهب الفكرية أمثال المذهب الأرسطي والإفلاطوني والمثالي والجدلي وغيرها، ولا تُعتبر هذه المذاهب والنظريات صنماً إلاّ إذا تمّ التعامل معها كمقدّسات غير قابلة للنقض أو المناقشة، وإلاّ فإن معرفة هذه المدارس الفكرية تفتح آفاقاً فكرية متنوعة للباحث والمفكر فإذا ما تمذهب بها الشخص وحبس تفكيره في إطارها حينها تتحول إلى أصنام فكرية تعيق حرية التفكير، ولعلّنا إلى مثل هذا نُحيل التعصّبات للمذاهب الإسلامية، بتسوير بعض المذاهبُ القرآنَ – ككلّ لا يتجزّأ – بسورها، والانكفاء على تقليد عالم واحد ولو مات، ما أوجبَ على الأتباع الاستقاء من دلو أحد المذاهب فقط دون الباقين ولو أصابوا في شيء دونه، فالتهم المذهبُ الدينَ كلّه!
الخاتمة:
مما تقدّم تبيّنت الحاجة الماسة إلى الفهم العميق لطبيعة النفس البشرية والمعرفة الدقيقة لتفاعلها مع البيئة المحيطة بها سلباً وإيجاباً، وتعميق الوعي تمهيداً لتحرير العقل وهذا لن يتم إلاّ من خلال إعمال العقل وغربلة أعماق النفس لتخليصها من قيودها الذاتية وعقدها والتواءاتها والتخلّص من القيود الموضوعية التي تتشابك وتتعاضد فيما بينها لتجعل هذه المهمة أكثر صعوبة.
إنّنا بحاجة إلى ممارسة إرادتنا لانتزاع حريتنا الفكرية من كل القوالب والقيود التي تُحاول استلاب خيارنا الواعي، أي بحاجة إلى تدريب وتمرّس عملي على (العصيان الإرادي للبرمجة المفروضة علينا)، وعلى مخالفة الهوى والمألوف والشائع والمسلّم به، والمفروض؛ أحياناً، نفعل ذلك لا لأنّه خاطئ، بل فقط لاستعادة الاستقلال الفكري ووعي الذات، ولإعطاء احتمال أنّه ربّما خاطئ، فنحتاج إلى قوّة التشكيك بدلاً من مجرّد المخالفة، لنستطيع ممارسة وعينا بحيادية وتجرّد عن أيّ خيوط تحرّكه، لفرز الصائب.
ومن أولى المهمات لتحرير العقل من أوهامه هو غربلة وتمحيص الأفكار السابقة، وتصحيح العادات العقلية الخاطئة، وطرق التفكير الملتوية التي تحول دون الرؤية الصحيحة للأمور كالتعصب، والرؤية المجتزأة، والميل إلى التبسيط، والانغلاق، والجزم القاطع بلا دليل، وتصديق المقولات الشائعة، وتكديس المسلّمات الفكرية والدينية والعقائدية غير المبرهن عليها وغيرها.
إن العقل الذي تحرّر من أوهامه يحاول أن يجعل أفكاره متساوقة مع حجم البراهين المتوفرة لديه، فعلى مقدار قوة البراهين تكون درجة الوثوق بالأفكار. كما إنّ امتلاك العقل المنظّم المنفتح الذي يتفاعل مع المشكلات المحيّرة والمعضلات الغامضة وخاصة تلك التي لا تتفق مع فرضياته أو اعتقاداته السابقة بإيجابية وتحدّ وثقة، يعوّد المرء على كسر الجمود المفروض على عقله ويأخذه إلى رحابة الاختلاف وسعته فيعينه على ترشيد الأحكام العقلية التي يستند إليها في قراراته وأحكامه.
كما أن مناقشة الآراء المختلفة بعقل حرّ وفكر ناقد قد لا يؤدّي بالضرورة إلى الوصول إلى رأي جازم ومشترك ولكنه حتماً يربّي خلق التسامح وتقبّل الآخر والانفتاح عليه وهو أسمى من مجرد الاتفاق على رأي موحّد؛ وبمناقشة الآراء المختلفة سنصل إلى تكوين عقل مثقف قادر على النظر والاطلاع على وجهات نظر مختلفة في الموضوع الواحد لتكوين رأي جديد ومتماسك يجمع بين الحق المبعثر في الآراء المختلفة، وكذلك نضمن حصول العقل على استقلالية نسبية عن الوسط الذي يعيش فيه، إذ أن الموافقة المطلقة ستخلق عقولاً أقل ما يقال عنها أنها (إمّعة) لا تحسن سوى التقليد. وبما أن الأصنام لها أساس من الذات فإنها ستبقى ولكن نفوذها سيقلّ مع التمرّس في ممارسة التفكير الحرّ مع كلّ قرار، وتغليب الإرادة الحرة أمام كل منعطف في الحياة، إذا ما قرّر المرء أن يمارس حريته الذاتية.
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)( سورة الأنبياء).
صدق اللهُ العظيم
والسلام.