أين أنت يا مصر؟ ماذا دهاك؟ ألا تبصرين أندادك في الستينات أين وصلوا؟ وكم فعلوا؟
لشتما تباعدت هند نهرو عن مصر عبد الناصر، بعدما كانتا فرسي رهان، فأين مصر اليوم عن الهند، وأين مصر عن أندنوسيا سوكارنو؟ و أين أنت يا مصر عن ماليزيا وكوريا حتى لا نقول عن الصين؟ أم أن العالم كله قادر على النجاح من دوننا نحن العرب؟
صَنَوَاتك بالأمس صاروا يملئون أسواق الدنيا بمنتجاتهم؛ سيارات وقاطرات وكهربائيات وملابس ومنتجات زراعية مصنعة، وأنت لا زلت غارقة في الوراء كأنك لم تكوني ندا لهم يوما؟ أو لم تكوني وإياهم والبرازيل والمكسيك وأمثالهم على قدم واحدة في الظروف والإمكانات؟ فلم سبقوك وخلفوك وأنت أنت أم الحضارة وكنز الرجال المقتدرين ؟
تركيا وإيران هما الأخيرتان قد خلفوك وراءهما، ثلاثون سنة من الثورة في إيران كانت كافية لهم ليبلغوا الفضاء، ويكتفوا في السلاح، في ظروف هي بلا شك أقسى بما لا يقاس من ظروفك في نفس هذه السنين الثلاثين، فما الذي كان ينقصك حتى لا تكوني مثلها وأفضل منها؟ لا شيء إطلاقا سوى الإرادة والتحدي والرؤية.
شعبك هذا العظيم الذي هو من أوائل من تحضر من الشعوب، والذي خلق من الموت الساكن حضارة متحركة، وثقافة ناطقة، ومن الحجر الجامد روحا خلاقة، والذي كان يصنع التاريخ قبل أن يكتب، والذي كلما تكاثرت عليه عوادي الزمان انبعث من تحت التراب ماردا، ألم يكن حيا فاعلا مليئا بالثورة إلى عهد قريب؟ فما الذي قتل روحه فاكتفى بالفتات، يلهث ليله ونهاره وراء لقمة العيش فلا يجدها عزيزة ولا دانية؟
مصر التي هي هبة النيل متى كان لائقا بها أن تعتاش على المساعدات والهبات؟ يعطيها هذا ويمنعها هذا، ولا يعطون ولا يمنعون إلا بثمن لموقف يفرضونه على إرادتك لتسايريهم فيه وتقومي لهم بالخدمة، والتي لن تكون إلا على حساب شرفك وشرف أمتك وعزتك وعزتها؟
منذ أن مشيت درب أمريكا وإسرائيل طمعا في هباتهم واغترارا بغرورهم وأنت بلا قضية إلا قضيتهم، والتي سموها مخادعين بالسلام، فذهبت ترددين هذه الكلمة الجوفاء من يومها، حتى لو أحصى تعدادها على لسان قادتك لعجز الكاتبون، ولا أظن أنك يا مصر تجهلين أنه لم يكن سلاما ، فلست أنت من تؤخذين بالغرة، ولكنها إرادة مأثومة.
من يومها وأنت تجرجرين أخواتك مريضات القلوب نحو الإثم الذي وقعت فيه، حتى بلغت – وأنت الماكرة إن أردت- أن تجرجري بلدا كالسعودية المتثاقلة في كل شيء، نحو الاعتراف بإسرائيل، والتسليم لها بأرض فلسطين، وهي تعلم علم اليقين أن مثل هذا محرم عليها في الدين حرمة أبدية، بل جرجرت الفلسطينيين أنفسهم ليتنازلوا يائسين عن دارهم وحقهم لمغتصبهم ومشردهم ومذلهم وظالمهم دون جناية منهم على أحد من العالمين، إلا حسدا لهم على أرضهم وخيراتهم التي وهبهم الله.
أما والله لقد أتيت عظيما على نفسك وأمتك، وبعد ماذا؟ بعد ذلك الجهاد في حمل لواء الدفاع عن الأمة وحقوقها، وتقولين غير متأثمة أن مصر قد تعبت من التضحية، وتريد أن تلتفت إلى نفسها، وليتك إذ نقضت غزلك التفت إلى نفسك فتطورت في الاقتصاد والصناعة فبلغت نمرا من نمور آسيا في افريقيا، أو اكتفيت ذاتيا في سلاح وطعام ، إذاً لامتلكت أسباب العزة، ولعدت قائدة نحوها، فإن القدرة تدعوا للعزة، والعجز يجر العزيز نحو المذلة ، ولو كنت لكنت وُقيت من الطمع في الفتات والأكل على موائد اللئام، يساومونك بالعطيّة دنيّة، فأنت على هذا الحال منذ كامبهم، ونحن من يومها نخسر بك ومنك وفيك بقايا عزتنا.
لو كنت يا مصر قوية الاقتصاد، قوية الجيش، قوية العلم والابتكار، قوية الصناعة ، لما اضطررت للغيرة من أختك الصغيرة قطر، تتكلمين غير مستحيية عن وجوب ألا تنافسك في دورك المحتكر، تتعالين في خطابها تظنينها صغيرة، ولو كاشفت نفسك ووقفت مع ضميرك وسألتها: لم يأخذ ( الصغار ) دوري ويحتلون مكاني؟ لوجدت الجواب في أعماقك التي تعرفين، وهو أنك لست القائد الأمين على حقوق الأمة كما كنت، فأنت ما تقودين العرب نحو حقهم بل نحو التنازل عنه، وتاريخك منذ كامبهم اللعين وإلى اليوم شاهد على ذلك، فأنت تقبضين في مقابل ما تُخذّلين، هذه هي سيرة الأمريكان معك، وأنت تخشين من مبادرة قطر أن تسلبك مبرر موقعك في نظر هؤلاء اللئام فيتوقف الدفع، وينتهي الدور اللعين الذي ليتك لم تلعبيه.
لو كنت يا مصر عزيزة منيعة بقوة اقتصادك وصناعتك الحقيقية، وقوتك المعرفية التي يوظفها العالم رجالها في الخير والشر، من رجالك الذين يفرون لبلاد الله، لما كنت في حاجة للغيرة من بناتك، لأنك ستظلين واثقة من نفسك صاحبة اليد العليا لا السفلى، المعطية لا الآخذة، ولوجدت أن رسل العالم يطمعون في موقف منك بما هو أغلى من مالهم السياسي هذا الذي يساومونك به.
لو كنت يا مصر مصر العزيزة ، لما وجدت نفسك في حاجة للقيام بأفعال الصغار الذين يجعلون من الحبة قبة، وينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأن لبنانيا واحدا قد تسلل ليساعد إخوة له هم أبناء لك، أمانتهم كانت ولا زالت في عنقك، كان وما زال الواجب يفرض عليك حمايتهم والدفاع عنهم، بدلا من تركهم وحصارهم، لبناني واحد فقط جعلت منه هاتك الحرمة الوطنية ومغيّر العقيدة السنية، ومحطم الآثار، وهادم الديار، وكأنك تحسبين الناس فقدوا عقولهم، فلا يعرفون سعة مصر وعظمة مصر وثقافة مصر ودين مصر ليغيرها أحد فضلا عن واحد دون رضاها ، فما هذا الذي تفعلينه في نفسك؟ وما هذا الذي تقبّحين به ما بقي من جمالك؟ وتستصغرين ما بقي من قدرك؟ فدعي لعب الصغار للصغار، ومارسي دور الكبار، فما أنت بالطفل بل الأب و الأخ الأكبر، الذي ينبغي له أن لا يفقد وقاره في الهزاهز، فما هذه الخضاخض منك وليس ثمة هزاهز؟
إن لم تفعلي يا مصر وتسلكي دروب العزة فسيأخذ دورك الصغار والكبار، ولن يأبه لحضورك أو غيابك آبه، فمن يبخل بالتضحية في سبيل الآخرين لا يصلح لهم قائدا، ” وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” وقيت يا مصر.