حبّ العرش طبيعة بشرية، تقمّصها الإنسان تشبّهًا بالربوبية، ولا عجب؛ فلو كان هناك آلهة غير الله؛ لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا.

أكثر الدنيا في هذا الزمان قد أفاقت من غيّ هذه الطبيعة؛ فاتّخذت من الديمقراطية والمشاركة أداة لكبح جماحها، فجعلت السلطان بيد الناس، يولّون عروشهم من يرتضون، وينزعون عنها من لا يرتضون، ثم قسمت السلطات أقسامًا، خشية أن يستأثر بها واحد من دون الناس؛ فيتّخذ بها عباد الله خولا، ويعمل في أموالها دولا، يستضعف طائفة منهم ويستعلي بطائفة، فجعلت لكلّ سلطة حدودًا لا تتعدّاها، وخوّلت لكلّ سلطة أن تنقض ما تبرم الأخرى، فيما لو تجاوزت الحقّ والحدّ المرسوم، وبهذا اطمأنت – على حذر وخشية – من أن تتغوّل إحدى السلطات بما لم يخوّلها الناس، ذلك أنها وجدت بعد طول عناء أنّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

لم تجد البشرية علاجا للديكتاتورية إلا الديمقراطية، وللاستبداد إلا الحرّية والتعدّدية، ولم تجد جهة هي أكثر اقترابا لتحقيق ذلك من وضع السلطة في يد الجمهور، ثم هو يخول من بينه من يطمع في أمانتهم وكفاءتهم، ومع كل هذا فكثيرًا ما تخيب ثقته، ولكن والحالة هذه فلكل خطا تدارك.

وحدها أمتنا – أمّة “والله لا يحبّ الفساد” – لا تزال على غيّها الأوّل؛ تحلم بالمستبدّ العادل، وتمجّد الدكتاتور، تفعل هذا أربعة عشر قرنا، فلا يأتيها الزمان إلا بمستبدّ ظالم على أثر مستبدّ غاشم، ولا عجب؛ فمن طلب النور من الظلام طالت دياجيره.

إنّنا نصنع المستبدّين، وذلك حينما نتوّهم أنّ العدل يمكن أن يصنعه مستبدّ، لا بل إننا نسهم في إفساد قادتنا حينما نشير عليهم بالاستبداد، ونصفّق معهم للقمع، ونقبل أثرتهم واستئثارهم، نرضى إن أعطينا ونسخط إن منعنا، إننا جزءٌ أساسيّ من صناعة الدكتاتور.

لم يكن محمد حسني مبارك فاسدًا بالفطرة، بل كان بطلاً قوميّا حسب ظاهره، وكان من الممكن أن يظلّ بطلا قوميًّا، ولكننا خوّلناه كجمهور غبيّ متقاعس من السلطات ما أفسده، وأعان نفسه عليه، فالحقّ إنّ وراء كل طاغية جبّار طواغيت من المتجبّرين الأغنياء عشاق المال والسلطة والفساد، لا بل وأكثر منهم من (الطواغيت) الفقراء المتذللين لهم بالطمع، الباذلين في سبيلهم كلّ غالٍ ورخيص، هكذا كان حالنا منذ زمن: مجتمعات ممسوخة الفضيلة تفرخ طاغوتا من بعد طاغوت.

هل عادت لنا الروح؟ هل ولد الجيل الذي تطهّر من رذائلنا؟ نعم، هناك بارقة أمل عظيمة في جيل الشباب هذا، قد أشرقت أنواره في تونس الخضراء، ومصر الكنانة، بل وفي بلاد العروبة الواسعة: أنوف حميّة، ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، لعل الله يبلغ بها غاية الكرامة؛ فلا ترى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا بَرَما.

ولكن حذار! فلا تزال هناك جحافل من الخائرين والمتقاعسين ذوي النفوس الخاملة، والإرادات الخائرة، والعزم الواهن، التي لا همّ لها في الدنيا إلا لقمة العيش، تضجّ لأدنى أذى، وتفزع من أدنى ضرر، وتولول لأدنى انقطاع في الماء والكهرباء ونقص الطعام، ارتضت من الحياة منزلة البهائم، فمن قبل هؤلاء تُؤتى الحرية في مقتلها، ألا تراهم كيف تستغلّهم الفضائيات الماكرة لتفتّ في عضد الصابرين؟.

يا شباب مصر العظيمة، ليست مصر كغيرها في تأثيرها على روح العروبة، فالعروبة كلها تنهض بنهضتكم وتنكسر بانكساركم، لا شعوبًا فقط، بل شعوبا وحكومات، فلو تغيّرت نُظمُكم نحو الديمقراطية فسيتبعها أنظمةٌ أخرى، وربما بمبادرات منهم، بل قد لا يكون ذلك لمجرد الخوف منهم على العرش، بل لاطمئنانهم إلى وجود أخ يعتزّون به في مواجهة العالم، فالخير الذي تصنعونه ينال بقية الأمة، والشرّ الذي تقعون فيه ينال بقية الأمة، ولعمركم فقد ذاقت الأمة من بعد ذلتكم ذلاًّ كثيرا.

فهذه أمانة للأمة في أعناقكم، واعلموا أنّ قلوبنا متعلّقة بما تعملون، وألسنتنا ضارعة بالدعاء لأنْ توفّقوا، حماكم الله يا شباب مصر من كيد الكائدين وخذلان الخاذلين، وأرشدكم وشباب تونس وشباب بقيّة أوطاننا لاستكمال ما من أجله نهضتم وفي سبيله بذلتم من الغالي والنفيس.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة