مسيرات المساندة والاحتجاجات عمّت أقطار العالَم بأسره من الغرب إلى بلدان التطبيع العربيّة، لدرجة وصف رئيس الوزراء الموريتاني علاقات بلاده مع إسرائيل بأنّها “علاقات مشينة، كان ينبغي ألا تكون أصلا”، وكان شعار الموريتانيّين: “لا سفارة لا سفير، لا علاقة مع إسرائيل”، وشعار المغاربة: “من المغرب لفلسطين شعب واحد مش اثنين” و” لا لا ثم لا.. لتطبيع العُمَلا” و”غزّة غزّة في العيون، سحقًا سحقًا يا صهيون”، والجزائريّين: “غزّة غزّة، رمز العزّة”، و”ياللعار ياللعار، حكومات بلا قرار”، تونس: “الحكّام والأمريكان شركاء في العدوان”، ليبيا: “هذا عار هذا عار، بعتوا غزّة بالدولار”، مصر: “تسقط تسقط إسرائيل، ويسقط معها كل عميل”، لبنان: “من غزة لبيروت، إسرائيل لازم تموت”، الأردن: “لا سفارة صهيونية، على الأرض الأردنية”، العراق المحتلّ: “كلا كلا يا أمريكا، كلا كلا لإسرائيل، نعم نعم لفلسطين”،
الإمارات: “نموت وتحيا فلسطين”، قطر: “غزّة عطشت غزّة جاعت، ليش النخوة منكم ضاعت؟”، الكويت: “يا للعار يا للعار، عربي يشارك في الحصار!”، البحرين واليمن: “الموت لأمريكا الموت لإسرائيل”، وعشرات الشعارات أحرق متظاهرون معها العلميْن الإسرائيلي والأمريكي وداسوهما، مثل: “بدنا فعل مش كلام، حتى نوقف هالإجرام”، “يا حكّام هبوا لغزة إحنا معاكم لدرب العزّة”… وغيرها من الممنوع كتابتها! محصّلة تلكم الشعارات تُعبّر عن موجة تحرّر تضادّ برمجة الاستسلام والتخدير، وتكشف انطلاق جهاز المناعة العربي ضدّ فيروس الخنوع، رافضاً استزراع إسرائيل وتحويلنا إلى “قطيع” شرق-أوسطي، الشعارات أخرجت مكنون عقائد عصيّة المحْو تجاه الصهاينة وحماتها والمسوّقين لها والمهرولين تجاهها، وتجاه نُصرة المظلومين والمسلوبين والمقهورين. فهل ما جرى بغزّة شرٌّ لنا؟
إنّ عبارة “الخيرُ فيما وقع” تُترجم اليوم واقع شعورنا بالحرقة على مصاب غزّة وأهلها، وواقع ما تجنيه حركة النضال الفلسطينية خصوصاً والإنسانية عموماً من مكاسب حصانة وزخم ضدّ المشروع الإمبريالي الدجليّ المتوحّش، وفي القرآن شبيهه (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ) وفي المأثور: (لا تكرهوا الفتن فإنّ فيها حصاد المنافقين).
الناس كإصبع الفلفل، بعضُهم تظهر حرارتُه بأوّل لحسة، آخرون حرارتهم تشتدّ كلّما قُضِموا، وصنفٌ باردون حتّى النهاية؛ الشكل شكل فلفل ولا حرارة فيهم، كانت “غزّة” فرصة للذين تخلّفوا عن الالتحاق بركب الإباء والرفض إبّان ملحمة حزب الله مع الصهاينة، فوقفوا يتفرّجون لاختلافهم المذهبي (المتضخّم) مع حزب الله! الآن فرصتُهم وإلا فهم والفلفل البارد سواء، ليس لهم إلا اسم التديّن وشكل الإنسان. فأين الخير فيما وقع؟
الخير، بانكشاف جوْر النظام العالمي واستهانته بالمستضعفين ووقوفه مع القويّ، تقوده عصابةُ زيف عالمية تجعل الحقّ باطلا والمنكر معروفًا، فمن يستمع للتعليقات الأوربية المداهنة أو لكلمة “رايس” بمجلس الأمن، حين صيّرت “حماس” معتديةً واعتداءاتِ الهمجيّة الصهيونية دفاعاً مشروعاً، متجاهلةً بصلافةٍ الاحتلال وقصف الأبرياء والأطفال، يُدرك أنّ منظومة الدجل السياسي المنسلخ من المنطق والأخلاق تُحاول مسخ العالم.
الخير، أنّ ماكينة الدجل المسوّقة إسرائيل كدولة ديمقراطية، وعصابتها كرجال سلام.. انعطبت، وأنّ الدجل التوارتي المطبِّل بحقّ إسرائيل بأرض الأجداد، واليهود ضحايا محارق.. ويُدافعون عن أنفسهم! انكشفت عورتُه قدّام العدسات وبمرأى الشعوب. الخير، بتساقط قناع ما يُسمى زورًا “بالشرعية الدولية” وبهتانًا “بالمجتمع الدولي” المانح إسرائيل حقوقًا ليست لها، ويُزخرف عدواناتها، لينكشف أنّ منطق السلام وهْمٌ، منطق الغطرسة هو الذي يصوغ القوانين ويعيد رسم جغرافيا الأوطان وحقوق شعوبها، يتكشّف أنّ خيار السلام مع الطغام يعني التسليم للاستحمار الكامل. الخير، تعريفنا بالعجز العربي الرسميّ، ولكنْ أيضاً تعريفنا بضمائر حيّة هبّتْ من كلّ دينٍ وشعب، ومن أقوام لا خلاق لهم بالدين أيضا، لكنّهم يحتفظون بإنسانيتهم، هؤلاء عناصر التيّار العالمي الإنساني الجديد.
الخير، بتجلّيةِ أنّ الصهاينة والأمريكان، لا يُفرّقان بين حزب الله وحماس، لا يعرفان شيعيا وسنّيا، بل ولا مسلماً ومسيحيًّا، فإلى متى حماقة خلافاتنا الواهية؟ الخير، أنّه مهما حاولت البرمجة الإعلامية والاستهلاكيّة والترفيهية والثقافية وضغوط التطبيع، لتشريب وتسريب الكيان الغاصب في قلوبنا لقبوله، إلاّ أنّ الجسم العربي والإسلامي يرفضانه رفضهما للسرطان، ومن مِنَح الله أنّ الصهاينة يُساعدوننا على تعزيز الرفض كلّما كشّروا عن وحشيّتهم ودناءتهم، لدرجةٍ مناشدة حاخامات يهود بضرورة تفكيك هذا الكيان الإجرامي لتسبيبه الويلات للمنطقة وللعالم. الخير، باتّضاحُ هشاشة دين مَن لا ينتفض لرؤية صدر طفل مزّقته رصاصاتُ قتَلةِ الأنبياء، وأنّ مصافحة ومجالسة ومداعبة مَن تلطّخت أيديهم بهذا الإجرام هو عقدٌ مع الشيطان وعربدةٌ سياسية على مائدة لحوم الأبرياء.
الخير، بتنامي وعيِ الشعوب بالحاجة الفعليّة لنظام عالمي جديد يقوم على استشعار الأخوّة والشراكة، ونصرة كلّ مظلوم أين كان لاسترداد حقوقه الإنسانية، وأنّ الأمم المتحدة هيئةٌ فاشلة لأنّها عُصبةُ “العُتاة والمَردة”، تُضفي الشرعية على جرائم الأقوياء.
الخير، بتكشّف أنّ “المظلوميّة” و”تجرّع الوحشية” لن تذهب هدرًا بحسب منطق المرفّهين والمستسلمين، بل وليست هي الرهان على تحرير الإرادة واسترجاع الحقوق، إنّما هي الوقود الوحيد لإسراج ضمائر بني الإنسان، بها نستعيد إنسانيتنا فنتوحّد تحت ألويةٍ خفّاقةٍ تتجاوز كلّ الحدود المصطنعة، بهذا ثار الحسين(ع) ليجعل من “مظلوميته” و”بشاعتهم” انتصاراً أبديًا يغزو القلوب النابضة بالحياة.
لقد أُثِر بأنّ تمحيصاتٍ ستظهر بآخر الزمان تُميّز الخبيثين من الطيّبين، فتنفرز صفوةُ الناس من كدرها، فالخير: هو تحوّل “غزّة” إلى جهاز مغناطيسي ضخم يستخلص المعادن الحقيقيّة من الخَبَث، وإلى مفزعٍ تتناصر له ألويةُ الإنسانية وتتداعى، إلى آلة قياس جماعيّة للكذب والنفاق، إلى آلةٍ إعلامية ضخمة تفضح الوجه البشع للصهيونية عالميّاً وتُعرّي كلّ السوءات دفعةً واحدةً، إلى درسٍ مضغوط وفوري يُوعّينا بالهدفيّة ضدّ العبثيّة، إلى جهاز إنعاش للضمير جماعيًّا.. فالخيرُ حتماً فيما وقع.