أدعيةٌ أطوَل.. لاستجداء السماء أنْ تهطل

بالغ ابنُ الروميّ بمدح وزيرٍ يُدعى أبا القاسم: إذا أبو القاسـم جـادتْ يـداهُ لم يُحمَدْ الأجودانِ: البحرُ والمطرُ وإنْ أضاءتْ لنا أنوارُ غُرّتـِهِ تضاءل النيِّرانِ: الشمسُ والقمرُ يُنال بالظنِّ ما يُعيى العيانُ لهُ والشاهدانِ عليهِ: العينُ والأثـَرُ

القارئ لقصائد الشعراء بمبالغاتهم مدْحِ الملوك، والمُطّلع على ثقافة رسائل الاستعطاف والاستجداء من الواقفين على قارعة عِلْية طبقات القوم، يلحظ فنون الإقناع والتوسّل.. وتعابير التعظيم للمُعطي ولمكرماته وأروماته.. والتحقير للذات وقصورها، يلحظ الإسهاب لشرح دواعي السؤال وأسباب الطلب.. لنوال العطيّة، كشحّاذٍ منقطعٍ يستمطر كرم غنّي وهّاب بالذي يسدّ رمقَه.. ولكن أليست هكذا صوَرُ أكثر أشكال الدعاء.. لكنْ قبالَ مَن يستحقّ؟

يعتقد البعضُ بأنّ شهرَ رمضان شهرُ الدعاء.. حتى لَتكثر الأدعيةُ الطوالُ والجماعيةُ فيه، وإنّه لكذلك، إلاّ أنّ “الدعاء” كخطّ اتّصالٍ تقنيّ بين المخلوق الناقص وخالقِه الكامل ليس مختصّاً برمضان، لكنْ فرصةُ “وصله” أو التأسيس له وفيرةٌ برمضان، ليتواصل طوالَ العام مُخرجاً الإنسان من غيبوبته عن ربّه أي مسترجعاً وعيه.

كما يعتقد البعض أنّ الدعاء وسيلةُ “المحتاج” وحيلةُ “المضطرّ”، أي هو لظرف الاعتياز فقط، وهذا صحيحٌ أيضا.. بشرطين؛ الأوّل: ألاّ يقوم “الدعاء” بالاستنابة عن “العمل” المشروط للإنجاز ببذل تطبيقاته المحتملة، والثاني: بأن يُعتقَد بأنّ الاحتياج للخالق أبديٌّ بكلّ حال، الحاجةُ حالٌ مستدامة.. لذلك فالدعاء حاجةٌ مستدامة.

“الدعاء” ليس له قالبٌ محدَّد؛ فقد يكون لفظيّا.. لحظيّا.. قلبيّا، وترجمةُ فلسفتِه -بحسب قوانين الكون الفيزيائية- هو “دعوة” الناقصِ للزائدِ ليُكمله لئلاّ ينفني، أي هو صرخةُ وجدانٍ حقيقية.. ومحاولة اتّصالنا بالمصدر القادر على إسعافنا.. ضجيجٌ إليه بأبلغ عبارة وأوجزها: “نحنُ في حاجة ماسّةٍ إليك”.

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نقرأ دعاءً طويلا؟ إذا كان “الله محبّة” بحسب المسيح والمسيحيّين، وأنّه أقرب للإنسان وللتعطّف عليه من أمّ شفيقةٍ بولدها الوحيد.. بحسب أحاديث قدسيّة، أرأى أحدُنا كم هي مشاعر الأمّ وعِظَم عاطفتها ولهفتها تجاه وليدها لو فقدت اتّصالها به أو اتّصل بها بعد غيبوبةٍ أو غياب؟ اللهُ بحسب كلامه: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، وأكّدها: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، فلماذا البعضُ بل الغالبية يعتقدون -دونما شعور- أنّ الدعاء الطويل والتفنّن به هو لإقناع الله الكريم ليستجيب لنا، أيْ لتوفير سببٍ لله الرحيم ليُعطينا، ألا يُعَدّ هذا جهلاً بالوهّاب إنْ ما كان سوءَ ظنٍّ به؟!

الله طبعه (شأنه) العطاء، وخيرُه نازلٌ منه نازلٌ نزولَ المطر.. سواء مددتُ كفّي ودلعتُ لساني أم لم أفعل. الدعاء الطويل غايتُه “المعرفة” و”الاعتراف” للدّاعي .. لا “التعريف” للمدعوّ. عندما أظنّ أنّ الله تعوزه محاضرةٌ طويلةٌ منّي “لتعريفه” بحالي.. ولأقنعه بأسباب وضرورة فعل “خيرٍ” لي (على عادة الملوك وشحّاذيهم وشعرائهم)، بينما “الشرّ” يُصيبني منه مجّانا ودونما توقّع.. فهذا ظنّ سيء يُصوِّر الله كمعظم اللئام.

الكريمُ العليمُ بالحال.. لا يحتاج محاضرات ضخمة وأشعاراً تزلّفية، وأنّ دعاء “يا عالمًا بحالي، علمُك بحالي.. يُغنيك عن سؤالي” يُجلي الفكرة. الدعاءُ منهجٌ ثقافيّ يُعرّف “الداعي” عظمةَ “المدعوّ”، يُقنعه بغناء وبهاء الله، كما يقنعه بخساسة نفسه هو ليعترف بقصوره، يقنعه بمقدار النعم ليمتنّ بوجودها.. ويتصرّف شعورًا وسلوكًا وفْقَ ذلك، “الدعاء” يُعطيه برنامج عمل يُحسّن به نفسه.. فينطلق مؤسّساً لواقعه الأحسن.

كثيرون للأسف انفلتوا عن طور عبوديتهم (إنسانيتهم) وصاروا “وحوشًا” أو “أربابا”، فذلُّ الحاجة ثمّ الضجيجُ “بالدعاء” مهمّتهما إقناعهم بأنّهم خطّاءون.. مقصّرون.. محتاجون، ليسوا كاملين وأغنياء، سيّئو أخلاق.. جاحدو نعَم.. ناقصو علم وعقل.. لذلك تستذلّهم الحاجةُ و”الدعاءُ” ليُقرّوا ويعترفوا.. والاعترافُ أوّل عتبات إصلاح ذواتهم.. “فالدعاء” معراجُ الإصلاح لأنّه إقرارٌ بالنقص.. وشكوى.. وتبرّم.. مِن سوءِ حاله ومآله.. فيما لو ضاعت الأوقات دون تصحيحه وإتمامه، فالناقص يطلب الاكتمال، فيطرق طُرَق الخلاص طالباً المعونة..

الدعاء ليس لتلقين الله حجّتنا بل لتلقين أنفسنا مصيبتنا، فيتكشّف جهلُها لها.. دعا الحسينُ(ع) فقال: “إلهي.. تَقَدَّسَ رِضاكَ أنْ يَكُونَ لَهُ عِلَّةٌ مِنْكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ عِلَّةٌ مِنّي؟!”، خيراتُ الله ورضاه لا تحتاج سببًا منّا، وسبحانه غنيٌّ عن أدعيتنا الطويلة لنقنعه يغيّر رأيه وليستأنف عطاياه ومرحماته وتغيير حاله.. “الدعاءُ” إنّما لتغيير حالنا، لتقريرنا سوءَ مآلنا، لتبصيرنا كم أجرمنا وفقدنا إنساننا، ولتبصيرنا بشأن ربّنا العظيم.. وإطالة “الدعاء” لاختراق أنفسنا البليدة.. لعلّها تفهم شيئًا من الدرس فتخضع وتخشع.

الأدعية المعصومة.. خرائطُ “تعريف” و”عرفان”، تُعلّم الإنسان ما لم يعلم عن نفسه وعن ربّه، في جوّ ليس أكاديميّا عقليّا بحتاً، بل يستدعي الشعور والوجدان، ليمزج القلب والعقل معاً في سيمفونية كونيّة تذرونا بأمواجها كذرّةٍ تبحث عن أمانها بعلائق الإيمان، وهو الغاية الأقصى لكلّ نفسٍ أن تُؤتى هُداها أي أمانها.

ومثلما أنّ أدعية “مكارم الأخلاق” ليست لله، بل لتحسيسنا فقرنا الأخلاقي.. واحتياجنا لمعونة الله لتحصيلها فينا لسعادتنا وسعادة محيطنا.. ولاكتمالنا إنسانيا، ومثلما أنّ عامة “الدعاء” ليس لله بل لنا.. لإزالة استكبارنا وشرورنا.. وتحصيل إقرارنا ببرنامج الربوبية لننضوي تحت مستلزماته بالتزام مسالك الخير واجتناب دروب الشرّ..

فكذلك الصيام -بجوعه وعطشه- ليس لله، ولا يعود عليه بشيء، بل لتأسيس تقوانا (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، أي يقينا شرورنا ويرقّق أنفسنا لفعل الخير، ويعزّز إرادتنا في سبله… والذي يعتقد أنّه صام لله وفعلَ شيئاً لله حينما يقول “اللهم إنّا لك صمنا” فقد أخطأ، إنّما صُمنا لأنفسنا، لصحّتنا، لاستعادة روحانيّتنا، لتعطيف قلوبنا وتلطيف مشاعرنا تجاه بعضنا، لتطهير بطوننا، وتنزيه ألسنتنا، وتنظيف أبصارنا وأسماعنا.. إنّه دورةُ نقاهةٍ صحّيةٍ على المستويات الوجودية لنا، ذهنًا وإرادة.. وجسما وعقلاً.. وحسّاً وروحا.. واجتماعًا واقتصاداً..، والذي لله المنّةُ والحمدُ.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة