أربعة أفلام مؤلمة..آلَمُ منها واقعنا

“ذاكرتنا البشريّة ليستْ رقاقةَ حاسوبٍ قابلة للمحو ولإعادة البرمجة”.. “لا يمكننا نسيان الذي نُحبّ”.. شعارُ فيلمٍ أُطلق عام 2004 وترشّح لستّ جوائز.. اسمُه (المنسي المُغيَّب/The forgotten)، يحكي عن قوى قاهرة تتحكّم بمصائر البشر.. وتختبر قدرة أعمق مشاعرهم على النسيان، فتُجري تجربتها البشعة على أمّ يخطفون طفلها ويُغيّبونه، يُعرّضونها للصدمات ومحاولات الإنساء، يُبدّلون مواقعها الحياتيّة والتاريخية المألوفة، يُعيدون فبركة صوَر ألبوماتها، يمحون ذاكرتها وكلّ الدلالات، ويصطنعون لها تاريخاً آخر، يجعلون حتّى الصديق والجار والأهل والمحيط يستأصلون أيّ استذكارٍ لديهم وعلاقةٍ عن ابنها “المُغيَّب”.. ولكأنّه ما وُجِد قطّ.. لدرجة استهزائهم وتشكيكهم بعقلها! الأمُّ المفجوعة ترفض نسف ذاكرتها الأعمق، ترفض خيانة مشاعر قلبها، تبقى متيقّنةً أنّه كان لها هنا ولد، يحتوشونها بالأطباء النفسيّين، يُثبتون لها بالتشخيص الطبيّ وبالأدلّة العلميّة والميدانيّة استحالة وجوده.. لكنّها تُصرّ بإعجازٍ على اعتقادها ولو كذّبها وخذلها عالَمُها كلّه.. أقاربُهم بأباعدهم، فتقوم بالمستحيل لإثبات وجوده، ولاسترجاع حبيبها.. وأخيراً بالتضحيات الجسام تنجح.. وتُبطل مشروع محو معشوقها من القلب، ومسحه من الذاكرة..

قدّمتُ خلاصةَ هذا الفيلم الرائع.. لا للتسلية، بل للتدليل على خصيصة معنانا الإنساني أنّنا لسنا ببهائم فاقدة الانتماء لهويةِ وطنٍ ولتاريخٍ، فالإنسان (كما قدّمتُ مرّةً) مخلوقٌ مِن “علَق” أي مِن علاقات، كائنٌ منتمٍ.. ولا يُمكن شطب انتماءاته و”علاقاته” قسراً، علاقاتُه إذا تشبّثت بنياط “القلب” لتضحى مقدّسةً فيستحيل تجاوزها، هكذا صمدَ القرآن.. وصمدت العقائد.. بما فيها حبُّ الأوطان..

“المُغيَّب المنسي” ليس مجرّد فيلم، بل هو واقعُ ما تقوم به “إسرائيل” لمحو “فلسطين”، وتُحاول أمريكا (وهيلاري) إقناع دولنا أن تُشاركها بتغييب “حبيب” قلوبنا، نُلغي تاريخه من مناهجنا وعقولنا وضمائرنا، ننسى أنه وُجد يوماً، ننتزع صوره من ألبوم وجداننا، لنعيش بسلامٍ مع خاطفيه ونحتضنهم بحنان.. بدل احتضاننا حبيبنا المُضيَّع.

نحن بين خيار أن نحفر ذكراه ونُقاوم لآخر رمَق كتلك الأمّ الرؤوم، ونُنكر جهدَنا هذا المنكر المتعاظم (بيدنا.. فإن لم نستطع فبلساننا.. فإن لم نستطع فبقلبنا.. وذلك أضعف الإيمان)، أو أن نغدر بالأمّ، ونتصرّف كمجرّد بشر منزوعة العواطف والذاكرة.. وفاقدة مواقف الشرف، ينقلبون متى شاء مُبرمجُهم ذات اليمين وذات الشمال.. ويبيعون أقدسَ شيء بعد بيْع ذاكرتهم.

من منّا يرضى أن يُسرقَ وطنُه؟ يُسرقَ بيتُه؟ ابنُه؟ هبْ أنّه بخلسةٍ من الليل خُطف ابنك “أحمد” وحين رأيته وتشبّثت به لتسترجعه اقتلعوك منه وأخبروك أنّ هذا اسمُه “شلومو”، أستُصادق أنّه “شلومو” وتضحك، و”تُصالح” و”تُصافح” غاصبيك؟!

هكذا تسمّت “إسرائيل” على أرض غصيبة سليبة، وهكذا كلّ مواقعها التي ثُبّتت أسماؤها بقسوة الاحتلال والتزوير التوراتي والإسقاط الاستشراقي.. فالاستعماري.. فالصهيوني: جبل حوريب، جبل جرزيم، النقب، جبل موريا، مدينة داود، حبرون، أورشاليم، تل أبيب، جبل صهيون/جبل داود .. كلّها أسماء توراتية بدويّة تمّ إسقاطها على هذه الجغرافيا المغتصبة لتسويغ حقّهم باحتلالها.. وهناك مئات الأسماء التي لو سُردتْ فلن يُصدّق زيفها القارئ لكوننا شربناها واعتنقناها، غزتْ ذاكرتنا جرّاء أمّيتنا واستسلامنا لمن أعاد كتابة تاريخنا مُزيلاً التاريخ الحقيقي للعرب، فترسّخت عبر منافذ الإعلام والتعليم وما زلنا نجترّها ونورّثها أبناءنا..

مع أنّ مؤرّخين وباحثين إسرائيليّين أكّدوا انتفاء أيّ دليل تاريخي وجغرافيّ لحقّ الصهاينة بفلسطين، إلاّ أنّ ابتلاع الأرض ومعالمها وتهوديها وتبديل أسمائها.. وتغيير ديموغرافيتها باقتلاع أهلها.. وببناء المستوطنات.. تتصاعد وتائره. اليوم نحن نشهد غروب الأسماء العربية.. واكتمال خسوفنا، بتحوّل “أحمد” إلى “شلومو”.. فالكيان الغاصب أعلن أنّه سيمسح اسم “النكبة” من كُتب مدارس الفلسطينيّين، وسيُحاكم مَن يُحييها.. ليُزيلها من الذاكرة العربية، وسنجدنا بعد جيلين نحتفل “بقيام دُويلتهم” بدل “النكبة”، كما قدّمها الفيلم الفلسطيني “الزمن المتبقّي” حين ينشد التلميذُ الفلسطيني ببراءته المسروقة في مدرسته -وبمشهدٍ محزن- ليوم الاستقلال الإسرائيلي بالعبريّ والعربي، محتفلاً بذكرى نكبة قومه.. كذكرى مُبهجةٍ!

سيزيل الأسماء العربية ويستبدلها بما يُسمى “عبرية” ليمطّ تاريخه المزيّف، كما اختلق بالأمس كياناً سمّاه “إسرائيل” وصيّره “يهوديا”، وصنع لغة “إسبرنتو” سمّاها “عبرية”.. واصطنع لها تاريخاً تُصفّ بالمراجع العلميّة-العالمية كأخت للعربية وأقدم أيضاً، وزوّر لجنسه تميّزاً “إثنيّاً” كجنسٍ “عبريّ” يُصفّ مع أجناس الحضارات القديمة، بل وليُخترع لهم وجودٌ بأرض مصر العربية وإسهامٌ ببناء أهراماتها.. مع سبقها يهوديّتهم بألفي عام! ضحكٌ على الذقون المتطامنة للتهريج..

إنّ فكرة تغيير هويّة الشعوب بالقوّة، مهما طال (سواءً “بتهويد” أو “عبْرنة” الجغرافيا والأسماء) لم يعمل على المدى الطويل إلا في اتّجاه بغض قوى الاحتلال وزوالها.. فعندما يتحوّل “أحمد” إلى “شلومو”، حينما يُفرَغ حبيبُك من فؤادك، أو يُحوّلونه عدوّاً يَرقص على أحزان قومك وفجائع أجدادك.. فستلعن اليوم الذي سمحتَ للمغتصب أن يسرق “أحمد”، وتتمنّى لو فعلتَ فعل الجدّة الفلسطينية “صفيّة” بفيلم “المتبقّي” (السوري-الإيراني) الذي يحكي مأساة استيلاء الصهاينة على بيوت البلدة وقتلهم أهلها.. بل وسرقة عائلة صهيونية طفلاً فلسطينيا بعد قتل أبويْه وتحويل اسمه من “فرحان” إلى “موشي”! فتستخلص “صفيّة” حفيدها “فرحان” وتهرب به لتفجّر نفسها بقطارٍ يحمل عساكر الصهاينة.

أمّا “عائد إلى حيفا” الفيلم الروائي الفلسطيني.. فالأمّ الفلسطينية تفقد رضيعها “خلدون” “المُغيّب-المنسيّ”.. وتعود بعد عقديْن لتكتشف فاجعتها بأنّ “حبيبها” مجنّدٌ بالجيش الصهيوني واسمُه “دوف”. الدينُ والضميرُ وشرائع الإنسان.. حرّموا: الخطف، السرقة، الاغتصاب، التحريف، تبديل الكلِم، ونسبةَ معلومِ الأب.. لآخر، فماذا نسمّي مَن يسرقون بلدًا ويقتلون أهله.. يمسحون تاريخه.. ويزوّرون وثائقه.. ثمّ يبدّلون أسماءه.. ليُلحقوه بغير أهله؟ ألهم اسمٌ بالقاموس الجنائي؟! المسيحُ المملوء محبّةً وسلاماً سمّاهم “أبناء الأفاعي”.. فماذا نُسمّيهم وقد مُلئنا حنَقاً وقيْحاً؟!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة