هل يمكن إضعاف اندفاع متطرفينا المذهبيين وغيرهم نحو التدمير؟
لا يخفى أنّ الحاجة ماسّة وملحّة لئلا يقضوا على السلم الأهلي ، فمجمعاتنا مهددة بالعنف ، ففي كلّ يوم يفجّر مسجد أو كنيسة أو عزاء أو سوق أو حيّ أو ضريح أو حضرة أو حلقة، توتّرات بلغت حدّها في انتهاك الحرمات، واقتحام البيوت وتهجير السكان، مروراً بانتهاك الفكر والعقيدة والشخصية بالتكفير والتفسيق والتضليل والسباب.
والخسران المبين يتجلّى في أنّ نتائجها المدمّرة عدميّة عبثيّة لا طائل من ورائها، ولا تحقّق شيئاً حتى من أهدافها السوداوية، فما هي إلا نارٌ تأكل بعضها، وهم ناسها بكل طوائفهم ومذاهبهم، ثمّ تستقرّ على لا شيء سوى الخراب ومزيد من الحقد، فالوضع الديني والمذهبي لكلّ طائفة منهم لن يتغير، فهي مواجهات عبثية تسبّب تدميرًا فقط دون أن يتغيّر من واقع الناس العقائدي شيئاً، فالكل سيبقى كما كان وأشدّ، فقط مزيد من التدمير للمجتمع.
ولأنّ الدافع من وراء هذا العنف هو الكراهية بالدرجة الأولى، الكراهية التي تراكمت عبر السنين في سلسلة من سوء العلاقات وسوء احترام الذات قبل الآخر، من خلال الأقوال والأفعال الباطلة المتجنية، والفتاوى المكفّرة المفسّقة المضلّلة، والنظرة التاريخية المثقلة بالإحن والعصبية، والتأويل المتشدّد للنصّ الديني، وتقديس الماضين وتقمّص حياتهم وتوارث أخطائهم.
ثم استئثار بالفرص الاقتصادية والإدارية عبر استغلال الحكم والسلطة، في تداخل بين الدين والدنيا، وإلباس للرغائب الدنيوية ثيابًا دينية، تستدرّ لبن الدنيا من ضرع الدين، وهكذا تراكمات يغذي بعضها بعضًا ، ثمّ يولد ضغطها انفجار البركان في ظروف موائمة.
إنّ المعتدي بدافع الكراهية والحقد يسوؤه أن تصيب بغيضه حسنة، ولو رأى أنّه كلّما أساء انقلبت إساءته نفعاً ومصلحة لمبغوضه، لدفعته كراهية الخير له للكفّ عن المضيّ في الإساءة إليه والعدوان عليه، لا حبّا ولا تورعًا، ولكن كراهية انقلاب الإساءة له نعيماً عليه، فالحاقد متى ما علم أنّ صفعة على وجه من يبغض تكون سبباً في نواله عزاً وكرامة لم يقدم على صفعه، ولآثر تجرّع غصص كراهيته في سويدائه، ذلك أنّ نوال مبغوضه الخير على يديه وإن كانتا بقصد الأذى أشدّ مضاضة على نفسه وأكثر إيلامًا لها، فحاله كحال الحاسد يتعذّب بنيل محسوده الخير ويأنس لعذابه، وفي موازينه أنّ قهر نفسه عن رغبتها في الانتقام أهون عليه من أن يجرّ له بإساءته الإحسان، لأنّ مبتغاه ضرره لا نفعه.
من هنا فلو أنّ الدولة والمجتمع يقومون بمكافأة كلّ مدني بريء راح ضحية لعدوان الكراهية، مكافأة مجزية، ترفع عنه الكثير من الجور الذي حلّ به، لكانت هذه المكافأة حاجزًا للمعتدي عن الاستمرار في تكرار العدوان، فتدفع الدولة ديّات مضاعفة عن كلّ قتيل، وتعيد بناء ما تهدّم أفضل مما كان، وتتولّى رعاية اليتامى رعاية كاملة حتى بلوغهم الرشد والقدرة، وتعوّضهم عمّا تلف من سائر ممتلكاتهم ما هو خير منها، وكذلك تقوم مؤسسات المجتمع كافة بتقديم معونات محدّدة ومدروسة، فغرف التجارة تقدّم عروضًا مخصوصة، ومعاهد التعليم والمستشفيات الخاصة وشركات الطيران ووزارات الدولة، بحيث تغتاظ نفس الحاقد لما يراه من انقلاب شرّه بهؤلاء الناس خيرًا.
وعلى العكس منها يفعلون بمن قام الدليل على جريمته، فلا يكتفون بالقصاص منه، بل يصادرون من ماله ما يعادل جميع ما أتلفه من أرواح وأبدان وممتلكات، ويرجعون بالباقي على كلّ طرف من أهله وحزانته، ممّن علم بنواياه وأسهم في معونته، أو تستّر عليه بإيواء أو إخفاء، أو أمدّه بمالٍ أو طعام، عالماً بسوء سريرته وما يبيته لأهل وطنه من مواطن أو مقيم، فدماء الأبرياء حرمتها عظيمة، فيجب أن لا يفوت عقابها كلّ من أشرك في سفكها ولو بحرف.
قد يستهجن البعض مثل هذا ولا يرون له أثر، بزعم أنّ المتعصّب لا تهمّه مثل هذه الأمور، محسنين الظنّ بدين المتعصبين، ولكن لنعلم أنّ كراهية الطائفيين لبعضهم دنيوية وإن تلفّعت بالدين، فإنّهم إنّما يقتلونهم منازعة على سلطان أو حظّ، وما لم تكن هناك مخاوف من منازعة على شيء من هذا فإنّ نفوسهم لا تجد حرارة تدفعها للقتل، حتى لو بقيت الأفكار كما هي لم تتبدل، بل المؤكد أنّهم لو تبادلوا الإحسان لزالت منهم الأحقاد ولطلبوا الإصلاح بالاعتدال، فهذه فطرة النفوس تحب من جرى لها على يديه الخير، فالحقد أصله سوء علاقات وإساءة معاملات، أكثر من كونه غيرة على عقيدة.
الأجهزة الأمنية قد تبحث عن القاتل المفجّر، وعادة ما يصعب النيل منه والقبض عليه ثمّ إثبات القضية ضدّه، ثم هي – لو حدث ذلك – تنسى مأساة الذين تضرّروا، وديات الدماء التي أريقت، والأنفس التي أزهقت، فلا يبرد حرّ غيظ النفوس ولا يتدارك الفساد والدمار، فليس عبثًا فرض الديات، ما فرضت إلا لتزيل من النفوس بعض غيظها، وتدفع الأخرى عن جرأتها على الدم، فما الذي سيجعل الناس تأمل في إعادة حياتها من جديد إذا أنت ألقيت القبض على القاتل بعد سنين دون أن تعمّر ما دمّره، وتعوّض عليهم ما فقدوه وأكثر؟
وقد يرى البعض أنّ هذا ليس حلاً؛ لأنّه لا يعالج الكراهية، فالحاقد وإن كتم حقده لن يزداد إلا كراهية ستظهر حتمًا في مظاهر أخرى، قد لا تكون دموية ولكنَّها ستنفجر يوماً، وهذا قولٌ صحيح، ولكنَّه غير نافع في الحالات المتفجّرة والمأزومة، فالعمل على مجابهة فكر الكراهية بالتوعية وطرح الفكر الصحيح، الذي يحفظ حرمة دمّ الناس وأمنهم وكرامتهم أمرٌ واجب، وهو الحلّ الجذري للمشكلة، ولكن لا بدّ من وقف النزف وتدارك الوضع المتفجّر حتى تسكن النفوس، فسكون النفوس يتيح للعقل الاستماع، وأمّا في حال الهياج وفوران النفوس فالناس قابلة لأن يستفزّها كلّ قارع ، ويستنهضها كلّ دجّال.