البشير الذي صيروه نذيراً

يقول غاندي: ” بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسِفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة “! ويقول بعضنا بعد قراءة مقال من الإنترنيت, أو فصل من كتاب, أو كتاب عن رسول الله (ص): اكتفيتُ, عرفتُ محمداً!! وقد يملّ الكثير من إعادة قراءة السيرة النبوية عندما يتقدّم به العمر لاعتقاده أن ليس ثمّة ما يضيف إلى معلوماته بعدما درسها في كتابه المدرسي رغم ما تحمله مناهجنا من مغالطات وأخطاء تاريخية وما يتّسم به بعضُها من فتور وجفاف وسطحية في الطرح والشرح.

أنّ حقّ محّمد (ص) أن يُقرأ في كل عصر بروح جديدة متجدّدة كما القرآن, فكما لا يمكن الاكتفاء بما قاله المفسّرون لفهم آيات القرآن الكريم قبل عشرين عاماً, كذا لا يمكن أن نكتفي بما قيل عن محمد (ص)  قبل خمسين أو عشرين سنة, بل ولا حتى قبل خمس سنوات, ولا الركون إلى ما قاله المؤرّخون والكُتّاب, وإنما حقّ هذا النبيّ الخاتم أن يقرأه الجميع فرداً فرداً لا بقصد الدعوة والتبشير – كما هو حاصل اليوم – وإنما بنية الاهتداء والاقتداء على المستوى الشخصي أولاً وأخيراً فإذا تشرّبت روح القارئ بروحه (ص) وسرى حبّه في قلبه فما يرشح عنه بعد ذلك من خلق وسلوك سيكون نوراً على نور.

حقّ هذا النبي الهاديّ أن نقرأه بعين الضالّ لا نملّ من أداء صلواتنا اليومية لأن لكل صلاة مشاعر خاصة لا تتكرّر قبل ولا بعد, فمحامد محمّد (ص) كالمعاني والمشاعر المصاحبة لكل صلاة تتنوّع رقياً وسمواً, بحسب روحانية وانفتاح القارئ على آفاق معانيه ( المعنوية ) التي لا يحدّها حدّ .. محمد (ص) – كتاب الإنسانية المفتوح أبداً – منفتح على كل الآفاق والعوالم بشرط أن لا يكون قارئه محنّط الفكر, ضيّق الأفق, وإلّا فلن يعدو أن يكون – بالنسبة له – سوى مجموعة من الحوادث التاريخية والغزوات التي يحفظ تفاصيلها ولكن لا يجد لها انعكاساً في تطوّر حياته, ولا يسمع صداها في روحه.

كثيرُنا يعلم أنّ محمداً (ص) قبل البعثة كان ذا خصال حميدة جمّة, ويعلم أنه كان يعتكف في الغار متفكّراً طلباً لمعنىً مفقود وبحثاً عن الحقيقة, ونعلم أنّه كان الصادق, والأمين, ولكن الذي لا نعرفه أن محمداً (ص) لم يكن يتوقّع يوماً أن يكون هو النبي المرسل, حتى أنه عندما نزل عليه الوحي برسالة ” أقرأ ” رجع إلى خديجة ترجف بوادره وقال لها: أيْ خديجة مالي؟ لقد خشيت على نفسي!! وبقى على هذه الحال أسبوعاً لا يقرّ قرارُه رغم تأكيد زوجته خديجة عليه بأنّ الله لن يخزيه أبداً, وتذكيره بخصاله التي تميّز بها: ” إنّك تصل الرحم, وتصدق الحديث, وتكسب المعدم, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق “, ورغم ما طمأنه به ورقة بن نوفل, بقي حائراً إلى أن جاءه الذي جاءه بحراء ثانيةً بينما هو يمشي فسمع صوته يملاً الأفق: يا محمّد .. أنت رسول الله للناس, وأنا رسول الله إليك!!

محمد (ص) معلّم الإنسانية عندما يأتيه الوحي لا يصدّق أن يكون هو رسول الله, ولم يكن ليخطر بباله أن يُبعث نبياً, وهذا هو سرّ عظمته (ص) بينما كان في قريش وغير قريش من أهل الكتاب ممن كان يترقّب نبياً في آخر الزمان وكان يعدّ نفسه ليكون ذلك النبي مثل أبي عامر الراهب, الذي عادى محمداً أشدّ العداء بعد ما بُعث نبياً لظنّه أنّه أحقّ منه بالرسالة!!

كما نعلم أنّ علياً (ع) أول فتى آمن بمحمد (ص), ولكن الذي لا نعرفه هو الطريقة التي دعا بها محمّدٌ  (ص) علياً (ع) وما فيها من احترام الداعي (ص) لحرّية فكر المدعوّ,والنضج العقلي الذي عبرّ به المدعو رغم حداثة سنّة. فعندما رأى عليّ محمداً (ص) يصلي سأله عمّا يفعل, فقال: أصلي لله, ثم أخبره عن الإسلام, وسأله: هل لك أن تسلم؟ فقال علي: ” دعني أفكر “, وكان عمره يومئذ عشر سنوات (!) فتركه يفكّر ولم يكرهه على الإيمان, كما أن علياً (ع) الذي تربّى في بيت محمد (ص) لم يؤمن حباً في محمد وكرامة لمن ربّاه, بل آمن بعد تفكير وتأمل واقتناع .. فجاءه في الغد وطلب منه أن يعيد عليه ما أخبره بالأمس, فأعاد عليه فقال: ” أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله “.

ولقّنونا أنّ الدعوة المحمدية بدأت سرّاً, ولكن الذي لم نعرفه أنّ محمداً المصطفى (ص) كان يصطفي أصحابه في بداية الدعوة ولم يُخفِها, حتى قيل أنه أجّل مبايعة عمر بن عبس ما يناهز خمسة عشر عاماً.

كان النبيّ(ص) يصلّي في الحرم, أيام الموسم من أيام الحصار, فجاء عمر بن عبس وسأل عنه (ص), قالوا له هو هذا الذي يصلّي, فذهب إلى رسول الله (ص) فقال له: من أنت؟ قال: أنا نبي, قال:ما نبيّ؟ قال: أرساني الله, قال: وبما أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام وكسر الأصنام, قال: ومن معك على ذلك؟ قال: حرّ وعبد, والتفت يميناً وشمالاً فرأى أبا بكر وبلالاً, فنظر إلى جهتهما وأشار إليهما, وقد كانا يتحدّثان معاً بمحبة ووئام, فتأثّر بالمنظر وقال: إني متّبعك .. قال له: ” لا تصلح أن تكون معي .. ولكن ارجع بلدك حتى إذا علمت أني ظهرت على الكعبة فأتني “, فذهب وبعد خمسة عشرة سنة ظهر الأميُن على الكعبة وخلّصها من استغلال جور الشرك واستبداده وفساد قَيمِه, فأتاه فبايعه على الإسلام.

ونعلم أنّ الدين الذي جاء به محمد (ص) دين يسر, وتجاوز وتخفيف وجوهر وبساطة وتهذيب وتفاعل ومرونة ورحمة, ولكن لشدّة ما تشدّد رجال الدين في تطبيق الأحكام بلا أدنى مرونة أو مراعاة لحالة السائل كدنا ننسى أنّ الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. جاءه رجل وقال له: أجنبتُ وأنا صائم, فقال رسول الله (ص): هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا .. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا .. قال : هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا .. فقال له اجلس, فخرج النبيّ (ص) ثم أتى بعذق فيه تمر فقال له: خذ هذا فتصدق به .. فقال: الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيْها أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي, فضحك رسول الله (ص) ثم قال: أطعمه أهلك.

فحتى لا تتوارى هذه المواقف المحمدية عن أبصارنا وأسماعنا دون التفات منّا إلى انعكاسها في حياتنا, لا بدّ لنا من العودة إلى كتب التأريخ لنستخرج سيرة محمد (ص) النقية البيضاء من أمثال هذه الحوادث وغيرها من مصادرها قبل أن تعبث بها أيدي المؤرخين والساسة والدعاة فيبرزوا ما يتّفق ونهجهم ويطمسوا ما لا يتّفق مع أهوائهم, حتى غابت حكمة محمّد في اختيار أتباعه, وبعد نظره في الدعوة, ومرونته في تطبيق الأحكام, وسماحته, وبشاشته, ومزاحه, وحلّ محلّه فقهُ التكفير والتجريم, وغلظةُ التجهم والعبوس, فصيرّوا البشير نذيراً.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة